ادب وفن

وثبة... التي اعرفها! / يوسف أبو الفوز

1
حين قابلتها اول مرة كانت تطفو على خجل بصري، جعل اصابعها الخالية من طلاء الاظافر لا تفارق ذؤابة ضفيرتها . لم تتجاوز حينها ربيعها العشرين. جنوبية اللسان والملامح ، وجهها مستدير كرغيف خبز ناضج وعيناها عميقتان بلون شط العرب ايام الربيع .
ــ من أسماك ِ وثبة ؟
تفتح عينيها على سعتهما، تمتد شواطئ شط العرب بعيدا، تلوح لي بساتين ابو الخصيب .. السيبة .. حمدان .. كوت الزين ، مكتضة تضج بالدهشة والحياة .
ــ ابي !
وتبتسم باعتزاز . أسأل وكاني منقاد للاجابة :
ــ ماذا يعمل اباك ؟
وبدون تردد اسمعها :
ــ عامل في مسفن الداكير !
واذ المح عناق الاصابع والضفيرةالمتواتر، اسأل بترو، بطريقة تبدو محايدة :
ــ لماذا اسماك وثبة ؟
بتؤدة وبسمة زايلها الاضطراب، وبشئ من الثقة وكأنها تقرأ في صفحة كتاب، تجيب :
ــ صادف ميلادي ذكرى وثبة كانون !
2
لم تحفظ لنا الايام صورة لفتاة الجسر، لم تحمل لنا اوصافها، ملامحها، حملت لنا وبكل بهاء صورة موقفها البطولي يوم واقعة الجسر، ايام وثبة كانون 1948 المجيدة، يوم تقدمت الصفوف وحسمت لحظة تردد تاريخية .
لكني أعرف فتاة الجسر!
اعرف تفاصيل وجهها، لون عينيها، كيف تحزن وتبتسم، كيف ترف رموشها حين تزعل، كيف تعبث بضفيرتها اذ ترتبك، كيف يكتسي صوتها بالدفء وهي تروي شعرا، وبالغصب حين تناقش في حقوقها، كيف تحرك اصابعها برشاقة تطرز ورودا وحمامات بيض، كيف تتثنى وهي ترقص "الهيوا" ، كيف تأكل و .. بل أكلت من بين يديها وزرت بيتهم وتعرفت الى ابيها، الذي فاجأني بأنه ذاكرة حية لنضالات عمال مسافن البصرة .
3
كيف حصل هذا التطابق، هذا التداعي، سموه ما شئتم، لكني ومذ أن تعرفت الى ذات الضفيرة، وكلما جرى، الحديث عن وثبة كانون، ويصل الى فتاة الجسر، تلوح لي "وثبة " بقامتها الرهيفة، بوجهها القمحي ، وعينيها البنيتين، متجددة العطاء كنخلة عراقية ، وأشعر ان ليس من غيرها تصلح لان تكون ملامحه هي ذات ملامح فتاة الجسر!
وسأظل ..، وعلى الدوام ، كلما تلوح " وثبة " في الافق، تلبط ضفيرتها في روحي، فأحلق في فضاءات الانتماء، واحط في كف الاغنية سعفة مترعة بالخضرة :
" دم .. والهتاف انجمع، تسبيح أجه لتسبيح
يا يمه جن الشعب .. طاح السمه وما يطيح "
ـــــــــــــــــــــــــــ
كانون الثاني 1988
كردستان ـ ريف دهوك / مقر مه راني
* النص من كتاب " تضاريس الايام في دفاتر نصير " دار المدى . دمشق 2002