ادب وفن

ياسر البراك: مسرح المقهورين اقتراب وجودي من الجمهور!

داود أمين
عندما غادرت الناصرية مضطراً أواخر عام 1978، بسبب إرهاب سلطة البعث، كان الفنان الدكتور ياسر البراك في العاشرة من عمره، فهو من مواليد الناصرية عام 1968، لذلك لم ألتقيه، وأنا واثق أنه لم يشهد واحدة من الأعمال المسرحية، التي مثلتها قبل ولادته، وفي طفولته المبكرة! ولكني، وبعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003، ومنذ زيارتي الأولى للناصرية، التقيت البراك، وفي كل حديث معه، كانت المسافات تتراجع بيننا، ونتقارب في هم ثقافي وإنساني مشترك، يقلص فارق العمر بيننا، ويوحد مسعانا معاً، لحلم نهوض جديد لمسرح فاعل، في ناصرية الثقافة والفنون.
عام 1983، وبعد أن أنهى مرحلتي الإبتدائية والمتوسطة، التحق البراك بقسم المسرح في معهد الفنون الجميلة في البصرة، ليتخرج منه عام 1990، أولاً على دفعته. والطريف أنه أمضى سبع سنوات في المعهد بدلاً من خمس، إذ تعمد ترسيب نفسه لسنتين متتاليتين، لكي لا يلتحق بقادسية صدام! وقد أهله تفوقه وكونه الأول على دفعته للقبول في كلية الفنون الجميلة- جامعة بغداد.
في المعهد عمل ممثلاً في العديد من الأعمال المسرحية، التي أخرجها أساتذته وزملاؤه طلبة المعهد، كما أخرج مسرحيتين هما "الذي يأتي" للكاتب السوري رياض عصمت، و"أغنية التم" لتيشيخوف، وقد مثل أيضاً في الثانية، حيث كانت إطروحة تخرجه من المعهد.
وفي هذه الفترة أيضاً، بدأ بكتابة النقد المسرحي في الصحف، وأصبح لوجوده في الأكاديمية أثر كبير في تطوير موهبته في الإخراج المسرحي، إذ تتلمذ على أيدي أساتذة هامين بينهم الدكتور صلاح القصب وفاضل خليل وعبد المرسل الزيدي وأسعد عبد الرزاق وغيرهم، وعمل في الأكاديمية كممثل في العديد من الأعمال، كما أخرج كأطروحة تخرج مسرحية "الراكبون إلى البحر" للكاتب الإيرلندي جون ميلنجتون سنج، وأثناء وجوده في الكلية قام عام 1992، بتأسيس فرقته المسرحية في مدينة الناصرية وسماها "جماعة الناصرية للتمثيل"، وأخرج لهذه الفرقة عملين مسرحيين هما "قضية ظل الحمار" لدورينمات و"من البلية؟" عن مسرحية "إنسوا هيروستات" للكاتب الروسي غريغوري غورين.
ثم واصل الدكتور البراك إخراجه المسرحي لأكثر من عشرين عملاً مسرحياً، تراوحت نصوصها بين العالمية والعربية والعراقية، كما قام بتأسيس المسرح الجامعي في ذي قار، ومسرح الدمى عام 2005، حيث قدم خلال هذا المسرح ثلاثة عروض، عدا عرض للمسرح الجامعي.
وفي عام 2000 أصدر الدكتور البراك مجلة "المشهد" المتخصصة بالمسرح، والتي مُنعت من قبل أجهزة النظام السابق، بعد تسعة أعداد من صدورها! كما صدر له عام 2008، كتاب نقدي في المسرح عنوانه
"المسرح في البصرة: مقاربات في المتحقق". وأكمل الفنان البراك دراسته العليا في جامعة بابل فحصل عام 2010، على شهادة الماجستير عن رسالته الموسومة "الأشكال ما قبل المسرحية ومرجعياتها الأنثروبولوجية: التعزية نموذجاً"، بعدها حصل عام 2016، على الدكتوراه، في فلسفة الإخراج المسرحي عن أطروحته المعنونة "تحولات الأنساق الثقافية في الخطاب المسرحي العراقي"، وشغل البراك موقع رئيس اتحاد الأدباء والكتاب في محافظة ذي قار لدورتين متتاليتين، بين عامي 2010- 2016 ، وهو حالياً أستاذ جامعي في مادتي السيناريو والإلقاء في كلية الإعلام- جامعة ذي قار .
- في الستينات والسبعينات، كانت الناصرية رائدة ومتقدمة في مجال المسرح على مستوى المحافظات الجنوبية والعراق، فهل ما زالت الناصرية تتمتع بنفس هذه الريادة؟ وإذا كان الجواب نعم، أين تجسد ذلك؟ وإذا كان الجواب لا لماذا؟
- يجيب الدكتور الفنان: لا أعتقد أن المناخات السياسية والفكرية التي ساهمت في تنشيط المسرح في الناصرية والعراق عموماً، خلال عقدي الستينات والسبعينات، مازالت قائمة اليوم، لأن كل شيء تغير نحو الأسوأ، بدءاً من نظرة الناس للفن، التي بدأت ترى فيه - خاصة بعد 2003 - فعلاً مُحرماً، مروراً بالإهمال المتعمد للحكومات المتعاقبة لدور المسرح في الحياة اليومية، وانتهاء بتخلي الفنان المسرحي، عن دوره الحقيقي في المسرح، ووقوعه في حالة من العجز والسلبية، لذلك لا أرى أن الناصرية ما زالت تمتلك تلك الريادة- كما أسميتها أنت - فأغلب ما يقدم الآن هو محاولات فردية، تحاول أن تجعل من المسرح فعلاً موجوداً، يقاوم المحو والنسيان، وهي محاولات محكومة بمدى قدرة منتجيها بالمطاولة والصبر، على هذا الخواء الكبير، الذي يحتل حياتنا المسرحية، في ظل غياب أبسط مقومات ومستلزمات العمل المسرحي، لذلك لا أرى ثمة مستقبلاً مشرقاً للمسرح في مدينتنا، على الرغم من المحاولات المستميتة للبقاء المسرحي.
- أعرف أنك تشتغل على مشروع أسميته "مسرح المقهورين" وهو تجربة جديدة تقودها مع مجموعة من الشباب، ماذا أنجزت منه؟ وكيف تم إستقباله؟ وما هي آفاقه؟
- يجيب الفنان ياسر البراك: كنت على الدوام في تجاربي المسرحية، أبحث عن أفضل السبل الممكنة للإقتراب من الجمهور، ليس إقتراباً مكانياً وزمانياً فقط، إنما إقتراب وجودي، يُخرج ذلك الجمهور من حالة السلبية واللافعل، إلى حالة الفعل والإيجابية المنتجة، وقد وجدت في مسرح المقهورين، المنهج الممكن حاليا لتحقيق هذه الغاية، فعبر ما قدمه البرازيلي "أوغستو بوال" من تنظيرات في هذا المنهج، منذ سبعينات القرن الماضي، وحتى وفاته عام 2009، نستطيع أن نستكشف أهمية ذلك المنهج، في التعاطي مع المشكلات اليومية للجمهور، فضلاً عن ابتكاره لعدد من الوسائل التشاركية، بين العرض وجمهوره. لذلك عملت على تأسيس ورشة مسرحية صيف العام الماضي، إلتحق فيها أكثر من عشرين شاباً وشابة واحدة، حصل فيها المتدربون على تدريبات عملية ومحاضرات نظرية، حول مسرح المقهورين، وإستمرت على مدى إسبوعين، وكان من مخرجات الورشة عرض مسرحية "ورطة" المأخوذة عن مسرحية "الفيل يا ملك الزمان" لسعد الله ونوس، وقد ألحقناه بعمل آخر من تأليف الكاتب العراقي عمار نعمة جابر بعنوان "مفتاح الفرج" وجرى تقديمه في الشارع، بينما قُدم العمل الأول في قاعة مغلقة، وفي العملين، كانت الإستجابة فوق المتوقع، من ناحية إستجابة الجمهور للصيغة التفاعلية، التي تبناها العملان، أو من ناحية تطوير قدرات شباب الورشة الأدائية، وقدرة تأثيرهم في ذلك الجمهور، الأمر الذي سيحفزنا على التمسك بهذا المنهج خلال الفترة القادمة .
- لاحظت في الناصرية وجود عدد من كتاب النصوص المسرحية، وهي ظاهرة جديدة وهامة، كيف تعاملتم مع هؤلاء؟ وهل إستجابت هذه النصوص لأسئلة الحاضر؟
- ربما تكون الناصرية في مقدمة المدن العراقية، التي رفدت المكتبة المسرحية بالنصوص المسرحية المبدعة، لأنها تتكئ على إرث حضاري وثقافي كبير، فضلاً عن معرفتها المبكرة بفن المسرح، منذ بدايات عشرينات القرن الماضي، الأمر الذي جعلها، خاصة في الخمس والعشرين سنة الأخيرة، تضخ إلى الحياة المسرحية العديد من الأسماء في ميدان التأليف المسرحي، أمثال : علي عبد النبي الزيدي، وعمار نعمة جابر، وعباس منعثر، وزيدان حمود، وحسين الهلالي وغيرهم، وأنا شخصياً قدمت للعديد من هؤلاء، لأن نصوصهم تتعامل مع اللحظة العراقية الراهنة، بمنظور فني وجمالي، ولآن هؤلاء الكتاب، يكتبون عن مشكلاتنا الراهنة، دون خوف أو وجل !