ادب وفن

ملف " طريق الشعب" في ذكرى الغياب الأولى لرحيل الشاعر زهير الدجيلي

حسبالي عدينه الوكت!
في ذكرى الغياب الأولى لرحيل الشاعر زهير الدجيلي، أقامت اللجنة المحلية للحزب الشيوعي العراقي في محافظة ذي قار في الحادي عشر من آذار الماضي حفلا استذكاريا للشاعر الراحل على قاعة الشهداء في الناصرية. حضر الحفل الرفيق مفيد الجزائري وزير الثقافة الأسبق والناقد التشكيلي الدكتور جواد الزيدي والشاعر ناظم السماوي والرفيق سكرتير اللجنة المحلية والدكتور راجي عبدالله والدكتور عبد الأمير الحمداني رئيس اتحاد الأدباء في دي قار والدكتور ياسر البراك نائب رئيس الاتحاد والأستاذ علي عبد عيد والرفاق في المحلية نقيب الفنانين في الناصرية وجمهور غفير من المثقفين.
بدأ الحفل بالنشيد الوطني والوقوف دقيقة حداد على أرواح شهداء العراق، ثم ألقى الرفيق مفيد الجزائري كلمة الحزب الشيوعي وجاء فيها:".......".
ثم ألقى الدكتور ياسر البراك كلمة اتحاد الأدباء في ذي قار التي أشاد فيها برعاية الحزب الشيوعي بالثقافة العراقية باعتبارها من دواعي نضال الحزب الوطنية واهتمامه في بناء الانسان والوطن. بعدها تحدث الشاعر ناظم السماوي عن ذكرياته مع الشاعر الراحل وختمها بقصيدة مهداة إليه. تلاه الشاعر عادل العضاض بقصيدة شعبية تغنت بذكر الراحل، ثم كلمة للفنان علي عبد عيد مع عزف على آلة العود وغناء أغنية محطات وهي من كلمات الشاعر الراحل.
ثم ألقى الفنان زكي عطا كلمة بعنوان "زهير الدجيلي والكويت" نيابة عن كاتبها المستشار والباحث الكويتي عامر ذياب التميمي بين فيها أن الشاعر الراحل حاول أن يوطد علاقات صحيحة بين الشعبين العراقي والكويتي من خلال جمعية الصداقة العراقية الكويتية وبذل جهودا مهمة في هذا المجال من خلال لقاءات بين الأدباء والفنانين والمهتمين.
كما ألقى الشاعر ناجح ناجي قصيدة بعنوان حالم بلا ندم.
أيها الدجيلي الراحل.
ستبقى طيورك الطايرة "مراسيل" بين وطنك الحزين وروحك المرفرفة من قبرك البعيد في مقبرة "صليبيخات"، وهي تغرد بأسى:"حسبالي عدينه الوكت"!

سنبقى نتذكرك .. ما ظلت "الطيور طايره"
مفيد الجزائري*
سنة مرت قبل ايام على اللحظة التي كفّ فيها قلب زهير الدجيلي الرهيف والشجاع عن الخفقان.
سنة بطولها، اثنان وخمسون اسبوعا، ثلاثمائة وستون يوما .. ويبقى الوجع يغمر نفوسنا، كأن ما حدث، حدث البارحة!
كبير هو الانسان الذي فقدناه برحيل ابي علي، وعذبٌ مبدع هو الشاعر فيه والفنان، وأصيلٌ هو العراقي، ورمزُ وفاءٍ للكادحين والمحرومين ورايتِهم المكافحة .. ذاك الذي ودعناه فيه.
كم عانى وتحمل، مضطهدا ومشردا ومسجونا، بسبب تعلقه بالخير والجمال، ووفائه للناس والمبادئ. وكم من السنين اغترب بعيدا عن وطن يحكمه جلاد، لكنه كما قال احد عارفي عطائه الثرّ، انتصر على الجلاد بالاغاني، ليترجم ما قاله المغني الثوري اليوناني ثيودوراكيس: الفاشست بكل اسلحتهم ينهزمون امام اغنية!
كان رمزا متوهجا للشعر الغنائي العراقي في زمنه المضيء، زمن سبعينات القرن الماضي. وهل نتذكر ذاك العنفوان من دون ان ندندن مع انفسنا "ياطيور الطايرة"؟ وليس هذه وحدها. هناك: هوى الناس، حسبالي، يمته تسافر ياكمر، وهناك: انحبكم، مره وحده، ينجوى، وهناك وهناك.
"تمهّلْ زهير.." قالها احد رفاقه على درب الآلام والآمال حين بلغه نبأ رحيله. "تمهل زهير، لماذا تعجلت وودعتنا؟ زهير تمهل، فالشاكرية ما زالت الشاكرية، وما زال "عبد" حاديا للكادحين. وها هو شعبك الذي امضيت السنين الطوال بين ظهرانيه، واحببته وغنيت له، ما زال كما عرفته: شجاعا مقداما، يرفض ان ينام على ضيم، يخرج الى الشارع هذه الايام بشيبه وشبابه، متظاهرا ضد الفساد والفاسدين، المفسدين لنظام الحكم وجهاز الدولة، ضد المحاصصة الطائفية العرقية التي جاءنا بها بريمر لنكتوي بنارها التي لا ترحم، مولدةً الازمات الواحدة بعد الاخرى..".
ايها الاحبة
لم يكن عطاء ابي علي الغزير لطفا وجمالا وعزما ثوريا، الا نتاج مبدع عميق الثقافة، واسع المعرفة.
كان هو المتوهج ابداعا .. مثقفا حقيقيا، صيّرته معرفته منحازا ابدا الى الناس الملايين الضحايا، المغدورين المحرومين، ومنشغلا بمعاناتهم وهمومهم. كان ممن يطلق عليهم اليوم توصيف الماركسي الايطالي غرامشي "مثقفا عضويا"، ممن يستغرقهم الشأن العام فيهبونه انفسهم ومواهبهم وعقولهم، ويتركون في جنباته بصمة منيرة، أثرا لا يمحى.
الا ما احوجنا اليوم، ونحن في خضم المعركة القاسية للخروج بالعراقيين المعذبين المهانين، وبالعراق المستباح المثخن بالجراح، الى بر الامان والكرامة والعدالة، ومن اجل هذا لاعادة الاعتبار الى الثقافة والركون اليها .. ما احوجنا، والمثقفين منا بنحو خاص، الى امثال الفقيد زهير الدجيلي، انغمارا في قضايا الشعب والوطن الكبرى، وعزما على الدفاع عنهما والانتصار لهما، وتمسكا بمبدأ المواطنة وبقيم الحرية والكرامة والنزاهة والعدالة، وثباتا في وجه آفات الطائفية والمحاصصة والفساد، وفضحا لتلونها ولنفاق اصحابها وألاعيبهم وحيلهم البائسة!
في هذا اليوم الذي نستذكرك فيه يا أبا على، نقول لك: ستبقى حيا في ذاكرتنا، وسنحتفي بك ما ظلت "الطيور طايره"، ونستلهم امثولتك في التفاني والوفاء والعطاء غير المحدود للناس والوطن.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* القاها في مفتتح الحفل

كأنه "البارحه"!
عام على رحيل منشد "الطيور الطايره"
كاظم غيلان
ها هو عام يمضي على رحيل الشاعر الكبير زهير الدجيلي مثقل بالأغاني الحاضرة بدءا من الطيور الطايره وحسبالي والمحطات .. شاعر يرحل في الربيع ليثير أسئلة الفضول :
هل اراد بمحض ارادته أن يتفق مع الربيع على الرحيل بوصفه أغنية وموسم؟
هل اتفق مع ذكرى تأسيس حزبه الذي انتمى اليه وهو في بداية شبابه لينسج أيقاع أغنية جديده كـ "هوى الناس"؟ أم أن للربيع موعداً مسبقاً في اختيار شاعر محشود بالحب والجمال والبراءة التي تلامس روح الطفل وكأن هذا العام بمجمل ساعاته يعيد علينا أغنية "البارحه"!
رحل زهير الدجيلي بعيداً عن أرض وطنه ومحبيه ورفاقه موجوعاً مغنياً عاتباً بذلك الشجن الذي عرف به:
عيني أويه عينك مثل
نجمه أويه نجمه أبليل
لاهن ينامن سوه
ولايصحن أبهليل
والحيره بيرالصبر
والروح مثل السيل
ساعه تفيض أبرجه
وساعه تفيض أبويل
جا ليش.. ياوطني؟
وكأنه بهذه الـ "ليش" يطل بقامته الفارعة ليعلن عن قلب قطعت أنياطه لما حصل له من عذابات غربة قسرية!
يخيل لي الآن أبو علي مخترقاً شارع الحبوبي وهو محاط بهالة الغناء والسهر .. مثلما يخيل لي وهو يقبع في المنفى الصحراوي "نقرة السلمان" مهموماً بالمبادئ والقيم النبيلة العليا التي نهلها من حزبه الشيوعي العراقي الذي يستذكره بحب ووفاء غامر عبر احتفاليات أقامتها العديد من منظماته احتراماً ومحبة ووفاء لتجربته شاعراً ومناضلاً .. وهكذا هو شأن "الهوى ادواغ الحبايب".
أيه ايتها "الطيور الطايره".. هذا عام أتم دورته مع رحيل شاعر أنشدك بلوعة عاشق منبثقة من شفافية روحه ألطرية العذبة المعذبة.
عام أتم دورته على غياب شاعر أشتد حضوره ببهاء ومحبة أكثر مما كان في حياته.. فكم هو حي بقوة العطاء!
صوتك يا زهير لم يزل يسكنني ذاوياً تعباً شاكياً صراعك مع المرض اللعين الذي أجتاحك حتى سرقك منا.. سرقك من حياة مارست عذابها معك حتى توقفت لتعلن عن رحيلك المفجع وهي تؤدي تحيتها لك.
تحية لك في احتفال حزبك العتيد بذكرى تأسيسه وها هو يسجل لك شيء من الوفاء عبر صحيفتك.. صحيفته طريق الشعب ليجدد حبه لك ولكل مناضليه الذين عرفوك أبنا باراً له.. للشعر.. للإنسان.
هكذا هي دورة عام تكتمل يا زهير ومثلما توقعتها عبر هاجسك الشعري المحاط بحساسية الكائن المعرفي .. بحدسه البعيد.. القريب:
يومين هايوم أنكضه
وها يوم حس النايحه
وروحي أعله طارف داركم
غيمه أعله ساعه ورايحه
يرحل الجسد.. بفنى.. يتلاشى.. لكن ما أفرزته طاقة الجسد تبقى مراهنة على البقاء وكأنها الأزل.. فهل سيظل غيابك هذا أبدياً.. أم "حسبالي"؟
ــــــــــــــــــــــ
* قرأ الكلمة الشاعر خالد صبر نيابة عن كاتبها الغيلان.

زهير الدجيلي والكويت
عامر ذياب التميمي*
قدم المرحوم زهير الدجيلي إلى الكويت في أواخر سبعينات القرن الماضي لكنني تعرفت عليه من خلال صديق مشترك هو المرحوم الدكتور نبيل رياض، وهو طبيب جراح من مصر وكان يعمل في مستشفى العدان في جنوب البلاد، وكان تعرفنا في أواسط الثمانينات.. توطدت العلاقات بيننا بشكل سريع وتحاورنا حول العديد من القضايا السياسية والفكرية وتأصلت علاقات بين عائلتينا.. كان المرحوم يزور الديوانية وفي مرات عديدة حدثنا عن التراث العربي والإسلامي وأمتعنا بطروحاته الشيقة. كذلك تحدث حول القضايا العراقية ومشكلات اليسار العربي ومواضيع تتعلق بالثقافة والأدب.. المرحوم زهير الدجيلي كان قارئاً نهماً يعشق الكتب ، ولذلك جمع لديه كتباً كثيرة أورثها العزيزة أم علي بحيث أصبحت مكتبة المرحوم من همومها الراهنة. الشغف بالقراءة ومتابعة الإصدارات من الكتب والمجلات الثقافية مكن المرحوم من تملك ناصية ثقافية وفكرية متميزة. وتمكنت وأصدقاء آخرون في الكويت من إكتشاف قدرة المرحوم زهير من التفريق بين الفكر العقلاني والتشنج الفكري ، ومن ثم أتضح لنا أن المرحوم ، ابو علي ، لم يكن أسيراً لمنظومات أيدلوجية جامدة بل كان قادراً على إتخاذ المواقف المقبولة عقلانيا.. أيضا ، أكد المرحوم بأن معضلة العرب ، منذ بداية تاريخهم الحديث هو غياب الديمقراطية وهيمنة الفكر الديني المستبد على عقولهم بما أبعدهم عن استنباط مفاهيم الحداثة والتطوير.
بيد أن أهم ما لمسناه ككويتيين من سمات متميزة في المرحوم زهير الدجيلي هي تلك المواقف الصادقة والشجاعة عندما قام صدام بإحتلال الكويت في الثاني من أغسطس ( آب ) 1990. أضطر المرحوم أن يرحل إلى السعودية ومن هناك شارك الكويتيين في المقاومة من خلال إذاعة " صوت العراق الحر". بعد تحرير الكويت وعودته إلى البلاد تمتعنا معه بلقاءات عديدة. لكن اللقاءات انقطعت بعد أن رحل إلى الولايات المتحدة وأقام فيها لعدة سنوات .. لكنه عاد وأصبح كاتباً منتظماً في جريدة " القبس " وزاول نشاطاً ثقافياً هاماً ، وظلت كتاباته عن العراق مصدراً مهماً للتعرف على الأوضاع العراقية. وقد حاول المرحوم أن يوطد علاقات صحيحة بين الشعبين العراقي والكويتي من خلال جمعية الصداقة العراقية الكويتية وموقعه الإلكتروني " الجيران". بذل المرحوم جهوداً هامة وشاقة لتأصيل علاقات بين الكويت والعراق من خلال لقاءات بين الأدباء والمثقفين والفناننين والمهنيين الآخرين.
المرض الخبيث الذي أصاب المرحوم في سنواته الأخيرة لم يعطل اهتمامات المرحوم بالمتابعة والكتابة واستمر يزاول كتابة مقالاته في القبس ويحضر عددا من الفعاليات.. لكن ذلك المرض تمكن منه في السنة الأخيرة من عمره وأفقده الوعي.. يظل المرحوم زهير الدجيلي نموذجاً للمفكر الجاد والعقلاني ولقد خسرناه جميعاً.
ــــــــــــــــــــــــــــ
*مستشار وباحث اقتصادي كويتي

الوصية
زهير الدجيلي
يالرّايح لبغداد وولاياتنا أبكلّ الوطن
مرلي على كلّ الحبايب وين ما كانوا ..
وأريدك توصل لكلّ المدن ..
مرلي على مدن الفرات الليّ وفنَ
واللي على عهد المحبة للحزب كلهن بقن
مر لي على مدن الجنوب الليّ زهَن
أبأوّل أعياده ولبسن أثياب الأفراح وعيّدن
مر لي على اقبور الأنصار بجبل كردستان
بوس أترابها ..
وبوس الأشجار الليّ على اقبور الحبايب ورّدن
بلغّ سلامي لكلّ رفيق, لكلّ حبيب
لكلّ شريف ايضحّي من أجل الوطن ..
وقبل ما موت , وقبل ما تنقطع أوتار قلبي
ويسكت العود .. ويغمضولي الجفن ..
وقبل ما موت , وقبل ما ينطفي نور المحّبة ابعيني
وبالغربة أندّفن ..
وقبل ما تبكي القصايد فوق قبري
والقوافي تمطر ادموع الحزن ..
قل للشيوعي أنته خير الناس
ما مدّيت إيدك عالحرام وسرقت مال الوطن..
قل للشيوعي انته خير الناس
والشاهد عليك الشعب والتاريخ وأيام المحن..
قل للشيوعي أنته أوفى الناس
ما خنت الأمانة أو كنت ساس الفتن ..
الطيبات انكتبن ابتاريخك وصفحاتهن ما ينمّحن ..
قل للشيوعيين انتم أشرف الناس
الشواهد والمجالس عن نزاهتكم حجِن ..
أمبارك عليكم عيدكم ..
أمبارك عليكم كل الأعياد اليجن ..

حالم بلا ندم
ناجح ناجي
الى الراحل زهير الدجيلي
اذا أردت أن تدوّن يا الحنين
فدونْ حنينك للعراق
واذا أردت أن تغني يا الحنين
فغنِّ بحنينك للعراق
وأطلق هديلك من بياض
فالمطر ليل ، والليل غناء
فدع زبد الكلام ، يلهث في الرؤوس
وبرغبة منك
التي هي أبهى ما أن تكون
سطوع نجيمات في صباح.
فتأمل ، واستدرك المذل منك
بسبعة أحلام جميلة
حل وثاق الليل
وأهبط بهن كنهار أجمل
واطلق روحك في البرية
غبشا
حتى تتفتح على فمك
وردة الغناء
غنِّ ..
ان البرية اليوم معي
وأنا
مع البرية أغني
غن..
غن ..
غن ..
حتى تقتص من ظلمة تحتشد في الرأس
قل: هل ما يتشكل في جسد الوردة
وأسميه السطوع ..
ثم انبرِ لأول الكلام وقل :
أنك الذي في آخر الكلام مضيت
ومن حربين أتيت
حرب الذين قالوا ، وحرب الذين تدبروا..
فما للوجوه من تراب
فما للغيمة في تيه
فما لفراشة الآه على جمرة الآه تحوم
قل هذا ...
والقِ سطوعك على مساء الأرامل
ودع ما يطرب النوالين يتلمس
وردك المنسي ..
ثم أوميء الى عشبتك
وأركب بحر المسرة وقل :
عراقي أنا
شيوعي أنا
حامل الجمرة أنا
الحالم بلا ندم .

فقدناه في العائلة وفقدته الثقافة العراقية
فرات المحسن*
أحتار كيف أبدأ وبماذا أبدأ. إنه لموقف كبير جليل ،هل أبدأ بتقديم شكري إلى القائمين على حفل الاستذكار هذا،وهم رفاقه وأصدقاؤه وأحبابه، أم أتحدث عن أخي الحبيب الراحل زهير الدجيلي.
لم يكن ليخطر في بالي يوما أن أقف هنا لأتحدث عن زهير خزعل محسن الذي ترك فراغا كبيرا ليس في حياتنا العائلية بقدر ما فقدته ساحة الأدب والثقافة والصحافة والفن العراقي.
أن لفراقه لوعة وألم وحزن ولكن وقفتكم النبيلة اليوم تواسينا وتخفف عنا وتمنحنا قوة وصلابة في مواجهة هذا الحدث وإيقاعه الثقيل بحزنه.
لقد شيد أبو هدف صرحا ثقافيا خالصا له، بناه بإخلاص ووفاء لقضية يمتزج فيها الحب بالوطن بالحزب. تتداخل تلك المفردات في مدونة زهير وتُسك ليصيغ منها نتاجه الأدبي وقد نذر كل ذلك للسير في هذا الطريق الوعر رغم ما تعرض له من ضغوط كبيرة شعر فيها يوما ما، وفي لحظة ما، بضعف الإنسان وهشاشة روحه. ولكنه عاد مرة أخرى أكثر قوة وإصرارا على سبك قصائد كان فيها أكثر عزما وإفصاحا عن وشيجة تعلقه بوطنه العراق وحزبه الشيوعي وقضايا الناس .
ما كانت لتسعد قلب أخي أبي هدف كل بقاع الدنيا التي تنقل فيها.
وما كان يسعده ويطربه غير ذكر العراق. فالقصيدة عنده مفعمة مترعة بوجد غريب يتماهى الوطن فيها بالحبيبة.
تجربته تمتد بقسوتها دهراً، عجنته وصيرته شاعرا شيوعيا عاشقاً .
لفحته شمس نكَرة السلمان وجفاف صحرائها. سجن بعقوبة وبغداد ومنافي راوندوز وقلعة مندثرة في الرمادي. وحشة الدروب والضياع، كل تلك السنين العجاف وأيامها المؤذيات الممحلات. أعوام غربة قاسية، ووطن يترقبه من بعيد وهو يُنهبُ ويباعُ ويتمزق، ولكنها ومع كل عذاباتها لم تجفف في قلبه نداوة الحب وطراوته، لا بل زادته وجداً وتعلقاً فراح يلهج بوطن ويمجده حبيبة. يناجيها بعذوبة مع كل حرف يخطه وهواء يستنشقه.
بهجة الناس وقوة شكيمتهم وبأسهم وحيوية الحياة التي تنبثق من أعينهم، يطريها نشيد ما سكن يوماً بعيداً عن قلبه. بشوقه ووجده يلثم هديل حمامات القباب وطيورها وهو يحثها على نقل أشواقه لتلك الضياع التي هجرته وهجرها لفرط وحشيتها وفروض عبوديتها. يصقل حبات كلماته من رائحة الطيبة وهي ترش ضوعها عبر نوافذ البيوت لتطلي بقدسيتها وأسرارها وجوه محبيها، فيدسها زهير بين طيات أوراقه ثم يطشها فوق راحة أيادي محبيه.
مياه ومسنايات الأنهر وصوت نواح النوارس وضجيج فرحها. نُذور القديسين ورائحة الشمع والياس، خرير الماء في بدعة الشطرة، وزحام الصبايا في أزقة عكَد الهوى. وشوارع بغداد واستراحات الصالحية والشاكرية وعريشة في بيت صغير تفوح منه رائحة أهل ومحبين، ودروب رفاق كان يدرج فيها منذ صباه ، وتزدحم ذاكرته محتفظة بكل ذاك الصخب والفرح والمحبة التي ألهمته وعلمته أبجدية الحروف. كان يعب كل حرف بشغف وعذوبة ونشوة. يقتنصها مفردة مفردة يرصها بين شغاف قلبه فتكون العراق .
وطن ليس كباقي الأوطان كان العراق.. ولزهير في كل ذرة تراب فيه وقفة ولوعة محب.
كلما تنطفي ويملي الرماد عيونك
يحركَوك
يا زينة أوطان الدنيه يا شيال ضيم الناس
يا بيرغ الهيبة العالية بالناس
بستان المحبة وجنة الدنيا
وفرحه وبهجة الأشواق
ياذلتك من أولادك ينهبوك
ياويلي .. هاكثر ضاموك
وروحي ذلت بيك من ذلوك
ياويلي عليك
يا جرح الغميج بكَلبي
يمته تهيد
كان زهير مسكوناً حد الثمالة بذاك الحب، حب ما خفتت جذوته أبداً كان يناجي وطنه العراق، العراق المُجافي والمُعذِب والهاجر والمهجر، القاسي والمتقلب. مجامر العذاب وزقوم الخوف.
ولكن زهير ما سماه يوماً غير الحبيب، البديع، الرائق، العذب، الوجد، الشوق، الحاني الرؤوف ، العريق، المحب، بهجة الناس، فسحة السماء وامتدادها، شذى عشب وخضرة الأرض ورائحة بساتين وطليع نخل، وزغب عصافير تفتل منها الحياة بديع صورها.
هذا هو عالم زهير الرحب الفسيح
مازالت صورة زهير البهية أمامي وكأنه لم يرحل، عام مضى على رحيله ونحن عائلته ومثلما الكثير من محبيه ومن تعرف عليه، نشعر بروحه الطاهرة الحانية تتقرب منا ببهاء وجهه وحلاوة كلمات، ورفعة أدب ولذيذ قفشات ونقاوة قلب ومحبته للجميع وكأنه لا يريد أن يفارق هذا الكون بل يصر على وجوده بين أبناء وطنه فيقول:
أرد أجيكم
بلكي ألكَي الشوكَ ذاك اللي عرفته
أرد أجيكم
عازت أيامي فرح وتريدكم
وها كثر كَلبي يلح ويريدكم
الطير من يبعد يزيد الهجر نوحه
أرد أجيكم.
عرفنا بزهير الأمانة وطيبة القلب والأيمان الراسخ بنقاوة المبادئ وشموخ وبسالة رفاقه لذا كان ينتظر ليلة 31 آذار لينشد قصيدة جديدة بحب حزبه ووطنه.
في عيد الحزب الـ 79 كان المرض قد بدأ يسري في جسده فكلفني أن ألقي قصيدته وكانت رسالة وجد ومحبة وعشق للحزب وللرفاق، ووصية أراد أن يقولها لحزبه مودعا، بعدما أنهك المرض جسده وشعر بقرب المنية ولكنه تعافى بعض الشيء وكتب قصيدتين لذكرى تأسيس الحزب في عامين متتالين. في لقائي الأخير به عام 2016 وعد أن يأتي إلى السويد حيث أسكن وليتوافق موعد قدومه في شهر آذار مع احتفال منظمة الحزب الشيوعي في السويد وليلقي قصيدته في المناسبة ولكن المرض كان قد تمكن منه ولم يستطع أن يأتي، وكانت هذه الانتكاسة واحدة من مشاعر الألم التي غلت في روحه وزادت من مواجعة.
أصدقائي رفاقي أخواتي أخوتي أحبائي الحضور
نعم، إننا مكلومون ومتألمون. فقد فقدنا واحدا آخر من أعزائنا، ولكن في حضوركم وهذا الاستذكار الذي تقيمونه نجد أن أبا هدف حاضر في قلوبكم ينشد معكم أنشودة الحياة الحرة الكريمة والرفاقية والصحبة الصادقة، فلكم مني ومن عائلته أصدق المشاعر الطيبة والعرفان فقد كان حضوركم أصدق عهدا بالمحبة للراحل ولنا.
شكرا لحزبنا الشيوعي العراقي الباسل، شكرا للأخوات والأخوة الحضور، شكرا لمدينتنا الرائعة ولأهلها الأفاضل .. شكرا لجميع الأدباء والأساتذة الذين ساهموا في هذا الاستذكار السنوي للحبيب زهير خزعل محسن الدجيلي، الذي قال وهو على سرير المرض مودعا:
وها يوم
وها يوم أنكَضه
وها يوم حس النايحة
روحي على طارف داركم غيمه على ساعة ورايحه
جن الدرب طال وبعد بيكم وما مش رده
ولا نسمة من عمر الهجر تحي الغصن والوردة
وحنيت وترجه ... أترجه
أترجه بدليلي وعيني
بلجن عذاب أفراكم بهداي من ياذيني
بلجن يحن حاديكم
ناكَه وجزتني القافلة
وناسيني
تقبلوا مني ومن جميع أفراد عائلة الفقيد التحية والسلام
وقد حملتني زوجته أم هدف التحية والشكر لجمعكم الطيب الكريم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كلمة العائلة، القيت عنه نيابة.