ادب وفن

الواقعية السحرية .. في "المعدان" / احمد عواد الخزاعي

الواقعية السحرية أو العجائبية، هي تقنية سردية طغت على الأدب العالمي في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، وبالاخص الادب الالماني والادب اللاتيني. تعتمد هذه التقنية على مزج الواقع بالخيال "الأوهام ، التصورات، الاحلام الغريبة".
في سياق العمل الادبي، يتيح هذا الاسلوب السردي للكاتب مجالا اوسع، ويفتح امامه اْفاق رحبة، في الابحار بمخيلته، لنقل صورة أخرى للواقع، صورة أكثر تشويقا وإبهارا.. وقد استطاع القاص وارد بدر سالم في مجموعته القصصية "المعدان" ان يضع لنا بصمة عراقية في هذا المضمار السردي الصعب والغريب على السرد العراقي .. احتوت هذه المجموعة على قسمين رئيسين، القسم الاول قصص قصيرة، والقسم الآخر قصص قصيرة جدا.. لكن الواقع يشير الى انها تكونت من ثلاثة أقسام، حيث شكلت سداسية "العين" قسما ثالثا مستقلا، بثيماته المتقاربة ونهايات قصصه الدراماتيكية، مما منحها خصوصية في المجموعة القصصية..
احتوى القسم الاول على عدة نصوص طويلة، ابرزها الخمسة الاولى، بسبب سعة البناء السردي لها، وغناها الفكري واللغوي.. استخدم القاص في نصوصه تقنية الواقعية السحرية، ولغة ايحائية سهلة مطعمة بلهجة شعبية مهذبة، قد لا تتوافق مع لهجة المعدان، وأعتقد ان القاص أراد من وراء ذلك، أن تكون مفهومة لدى جميع القراء، بتعدد انتماءاتهم البيئية.. تناوب على السرد راو عليم "سارد خارجي"، واخر ضمني "سارد داخلي"، يعرف جزءا من الحقيقة، وينقل الأحداث من وجهة نظر محايدة، حيث لم يكن لهذا السارد اي حراك مؤثر داخل النصوص، وانما كان مراقبا يمتلك وعيا ذاتيا، لتتبع سير الاحداث .. زمن القصص كان مفتوحا عائما، لكنه لم يتعد عمقه التاريخي زمن السرد، او الجيل الذي سبق جيل القاص، أما المكان فقد كان "أليفا" في الغالب، وهو بيئة المعدان "الأهوار، الأنهار، المضيف، الصرايف، القصب والبردي".. وقد أجاد القاص في تصوير تلك العوالم، وأوغل في وصفها بدقة كبيرة، وهذا مؤشر على سعة أفقه ومعرفته الجيدة لتلك العوالم، ومعايشته لها.. الا ان هناك بعض الملاحظات على المجموعة بصورة عامة اود التطرق اليها.. الملاحظة الاولى: هي كثرة الاخطاء الاملائية، التي تكررت في متن النصوص بشكل ملفت للنظر، الملاحظة الثانية: تجاهل القاص ذكر محصول الشلب، الذي يعد مصدرا معيشيا وغذائيا رئيسا للمعدان، الملاحظة الثالثة: إغراق القصص الخمسة الأولى منها، برؤى فلسفية فنتازية ، استمدها القاص من المدرسة الفنتازية الألمانية، وهي مدرسة أدبية تعد نتاجا تراكميا لمخاض حضاري وفكري غاية في التشعب والتعقيد، وكان الأحرى به النزوع الى المدرسة الفنتازية اللاتينية، التي تشتبك بتناص بيئي مع أجواء حياة أهل الجنوب، وتعاطيهم الفطري البكر مع .. "الحياة والموت، السعادة والحزن، الحب والكراهية، الخير والشر، الجمال والقبح)".
"شجرة البرغش"، قرية محاصرة بأشجار كبيرة تسكنها حشرات البرغش بكثافة كبيرة، لها القدرة على التهام الانسان والحيوان، هناك رمزية واضحة في ثيمتها، اذا ما أخذنا بنظر الأعتبار ان هذه القصة كتبت سنة 1988 .. تميزت هذه القصة في الأسهاب بذكر الأسماء والألقاب، وتكثيف للصور المحملة بالدوال والأيحاءات الحسية والمادية.. فقد كانت حشرات البرغش تمثل لغزا محيرا لسكان القرية، عجزوا بمداركهم البسيطة عن ان يجدوا لها تفسيرا علميا، فعمدوا الى الخرافة وصناعة الاسطورة، فأوكلوا وجودها بهذا الزخم المخيف الى لعنة ولي صالح قتل في زمن غابر على ضفاف شطوط هذه القرية.. "قصة الغياب"، ثيمة جذورها ضاربة في أعماق التاريخ البشري، وحلم سرمدي، رافق الفقراء والمضطهدين، انها مثيولوجيا "الرجل المنقذ" التي تناولتها ادبيات الأديان السماوية والوضعية.. "علي" الذي يحلم بعودته أهل القرى الفقيرة، بعد أن بحثوا عنه في كل الأماكن، في الهور وفي الصحراء وحتى في السماء، كان يمثل لهم الأمل بالخلاص، ورمزية كبيرة للخير والسلام، حتى وصفوفه بالقديس، وقد استخدم القاص اسم "علي" بكل ما يحمل من دوال دينية وقيم إنسانية، لإيصال فكرته.. "كان علي يمرق كالريح، يأتي ولا يأتي، يخطف بيننا متعجلا... علي ياعلي نريد ان نشمك ونبوسك يا علي".. لكن طول الانتظار وخوفا من تخبوا هذه الجذوة المتقدة في عقولهم وقلوبهم، وحفاظا على قدسية هذا الحلم العظيم، كل هذا دفع المعدان الفقراء الى جعله اسطورة دينية ذات طابع شعبي.. "اقترحت علينا كل القرى، وهي تعيش المسرات القدسية، اقترحت ان نبني لرجلنا العظيم ضريحا ومزارا في السماء".. قصة "المشحوف"، اسهاب في الوصف لمشحوف، يعيش لحظاته الاخيرة قبل احالته إلى التقاعد، وغرقه في مياه الهور، عوالم افتراضية سخر لها القاص خيالا واسعا، مستعينا بتقنية الوصف، استطاع من خلالها استنطاق هذا الجماد "المشحوف"، وتحويله الى كائن حي له احاسيس ومشاعر وذاكرة شخصية غنية بالذكريات والتداعيات .. يقول الناقد مالك المسلماوي .. "النص حالة من الانتقال المشروط، من الذات الابداعية، الى الصورة الجمالية"، وهذا تجلى بصورة ملفتة في هذا النص .. قصة "الذهب"، رجل يدعى مطشر يعثر على كنز من الذهب، بعد فيضان قريته، ينمو البناء الهرمي للنص بعد هذه الحادثة، بمجموعة من التساؤلات يحاول من خلالها اهل القرية معرفة مصدر هذا الكنز، في عملية استجواب تحمل الكثير من الاثارة والترقب، لتتحول اجاباته الى واقعية سحرية، حين يشرع "مطشر" في سرد حكايته عن رحلة غرائبية قام بها بعد غرق قريته، الى نهر بعيد وعثوره على كائن غريب شبيه بالجاموس يتقيأ ذهبا، تميزت هذه القصة بسعة خيالها، وحضور عنصر التشويق فيها، مما اكسبها طابعا حداثويا، يقول الناقد ايلمان كرانسو:"ان الانشغال التام بالخيال الابداعي، هو احدى سمات الحداثة".. الا ان الاسهاب في ذكر الاسماء والألقاب قد أخرج النص عن صفته كونه قصة قصيرة، لا تتحمل كل هذا التفصيل والشرح، وكان بالإمكان ذكر اسم "مطشر" وزجته "بطة" والاكتفاء بهما، للإشارة الى طبيعة المكان والبيئة الاجتماعية للحدث.. قصة "أجنحة الكلاب"، حمل هذا النص دوال دينية، من خلال الحضور الواضح لأسماء وأمكنة مقدسة، سلط فيها القاص الضوء على جزئية دينية واجتماعية مهمة، سائدة في المجتمعات البدائية والبسيطة، وهي سطوة رجال الدين، والهالة المقدسة التي ترسمها مخيلات البسطاء من الناس عن اشخاص، هي خلاف حقيقتهم، كالمرأة الميتة محور هذا النص، والتي استمرت الكلاب بنهشها طيلة رحلتها، من قريتها الى مقبرة وادي السلام في النجف، في صورة افتراضية مؤطرة بواقعية سحرية، استحوذت على مخيلة سائق الحافلة طيلة الرحلة، وهو يرى كلاب بشعة تنهش في جثمان المرأة التي اعتلى سيارته، وهنا اود الاشارة الى طبيعة اللغة التي استخدمت في الحوار، التي حملت تناقضا بين بيئة المتكلم الريفية، وطبيعة اللهجة التي يتحدث بها، والتي غلب عليها الطابع الحضري: "اللي شفته ما ينحكي يا حاج، لا سراب ولا وهم، والانسان عندما يلزم لسانه، يلزم الله عنه قيضة من النار".
"سداسية العين".. ستة نصوص اختلفت في احداثها، لكنها اجتمعت وفق، وروية انسانية حملت طابعا دراماتيكيا لنهاياتها المأساوية، وبؤرة سردية صورت لنا لحظات موت متعددة، عبر مسار زمني متغير، شكلت حركة الشمس خلال يوم واحد، محطات سردية غنية بالاشارات الحسية، الغارقة في الخوف والترقب، فكانت على التوالي.. "عين الغبش، عين الصبح، عين الضحى، عين الظهيرة، عين الشفق، عين الغروب".. كل عين تمثل عتبة سردية تحكي لنا قصة حدثت في سياقها الزمني.. كانت النصوص تعبر عن حالة من الدهشة والترقب عاشها ابطالها، قبل موتهم ميتات تعددت اسبابها وأمكنتها.. كان لرسم تلك المشاهد يحتاج الى حرفة عالية في ايصال الصراعات القائمة فيها الى اللحظة الحرجة او ما يطلق عليه "التأزم السردي" الذي يمثل مفترق طرق، يقف عليه البطل في لحظة مختزلة وقصيرة جدا من مسيرة حياته، تنتهي بموته.. نلاحظ في هذه القصص تجنب القاص وارد بدر سالم، ذكر الأسماء والألقاب على غير عادته في النصوص الأخرى من مجموعته القصصية، فكانت أغلب المشاهد صامتة، عبارة عن حوارات داخلية "منولوج داخلي" أو تداعيات، حملت بعض الحوارات القصيرة والمقتضبة والدلالية، كما في قصة "عين الغبش".