ادب وفن

إشكاليات التعقيد قوام النص وهويته / قيس مجيد المولى

لا ضرورة أن تشحن الكلمات بطاقات رمزية تستند الى المراجع الأسطورية والتاريخية كي تكون أساسا في الحداثة الشعرية ، أي أن التجارب التاريخية لا تشكل سوى بعد للماضي، وهذا الماضي لا يُجَيَّر بالانسجام طواعية مع متحولات وحاجة اللغة الشعرية. وذلك ما ينطبق الى حد ما على مفهوم التعامل مع التاريخ الرمزي للأسماء، فالكثير من رواد الحداثة استلهموا في تجاربهم الشعرية شخصيات حاضرة في التاريخ العربي الإسلامي، وجعلوا من هذه الشخصيات القاعدة التي ترتب عليها نصوصهم الشعرية، لشرح سيرة ما، أو تقمص شخصية ما، او أخذ غرض لغرض ما، لذلك نجد في أغلب النصوص التي استعارت تلك الشخصيات أو استعارت حوادثَ ما وألبستها ثوبا شعريا سرعان ما يتحول الشاعر عن غرضه لينتقل إلى غرض آخر كي ينجو من رتابة تدجين ذلك المحتوى الشخصي.
ولاشك أن أغراض الشعر العربي القديم ومن بينها المديح والهجاء والوصف قد جعلت من المراد مديحه أو من المراد هجائه أو من المراد وصفه كان بشرا أنسيا أو جنيا أو وصفا للطبيعة بملحقاتها القاعدة الأساسية التي تقوم عليها بنية القصيدة العربية التي تسخر قدرات الشاعر اللغوية لتوفير أقصى ما يمكن من الدالات للوصول الى غاية الشاعر مع اهتمامهم بما عرف بـ "الفيلولوجيا" والاهتمام بالتراث، وكان لا بد لنا أن نرث من تلك اللغة ما يمكن من موروثاتها.
ولم تكن الواجهة التنظيرية لشعراء الحداثة غير كسر توازن تلك اللغة وإحياء تناقضاتها وإحالة نتائجها التفكيرية الى نتائج مشوشة، وبدلا من العمل بقاعدة الأساسيات اقتضى العمل بتحريك قاعدة الجزئيات ضمن ما تمنحه من المساحات الكلية التي تهيئ قدرات قابلة للانشطار والتوالد لإغناء مساحات الرؤيا المدعومة بالأنساق الجمالية التي وفرها ذلك الانفتاح، ليتم اختراق الماضي بحرية كلمة الحاضر المستكشف الجديد دون الرجوع الى المراجع الكلاسيكية القديمة، وهذه الكلمة لا تقتصر على جزء من أجزاء الخطاب بل يشمل هذا التجديد محتويات الجملة التامة المفيدة، وبذلك يكون للانفعال والتجربة مداهما في إطلاق مكونات التجربة الشعرية في وصف هذه التجربة بالسحر الغامض، إذ يتواجد هذا السحر مع كل شيء يستطيع الشاعر إطلاق سراحه سواء في تغيير مسار حركته الأساسية أو حركته الجزئية.
إن اللغة قادرة على الاستجابة للمتغيرات لأن بناءها قابل على التحول والانسجام مع مجمل عمليات التطور التي يكون الإنسان هدفها، فاللغة هي لغة داخل امتداد لغة في امتدادها وتعابيرها وصياغتها وصحيح أن اللغة تسمي الأشياء بمسمياتها، ولكن قوة المخيلة وسعة الإلهام تكمنان لماضي اللغة بالمرصاد وتكون أشياء بديلة عوض تلك الأشياء المألوفة كي تسمى هذه الأشياء بأسماء جديدة بعد أن تتواصل عملية البناء في المنتج الشعري.
إن استخدام أنصاف الجمل وشبه الجملة أصبح من العلامات البارزة في التكوين الجديد وهذا الاستخدام يمنح الشاعر قدرا من الضبابية والاستفهامية وعدم تكامل التقدير وفيه شيء من عدم القدرة على القبض على المعنى بشكل مباشر من قبل المتلقي، وهذا الاستخدام يقدم تأويلا آخر للتأويل وامتداداته التخيلية لا نهاية لها ضمن نشاط متواصل تقوم به المخيلة مع اقتراب محدد للذهن بتفكيك كل شيء لإيجاد التناقض الملائم ما بين الوحدات القصيرة في النص الشعري الواحد.
يرى برغسون أن الزمن يقسمُ إلى قسمين وهما الزمن المكاني وهو قطعا الزمن الذي نعيشه نحن ويكون جزءا من أفعالنا التي ترتبط بشتى الأمور الحياتية ومتطلبات حاجة الإنسان ضمن حركته اليومية أمام وجوده الظاهر، والآخر ما أسماه زمن الذات الشاعرة وهو كما نعتقد مستويات التدفق في الأحاسيس والمشاعر والتي تشكل قدرات الذات للنفاذ إلى الأشياء المجهولة والتوقع بمستكشف الغد، أي الرؤيا المبصرة للتحولات التي تصاحب الإفرازات النفسية ونتائج هذه الإفرازات، وبالتالي فإن الزمن في المفهوم الأول يشير إلى التعامل والوجود الخارجي، وفي المفهوم الآخر يشير إلى التعامل مع المفهوم الباطني أي بالبعد الإدراكي لما ترتبه المشاعر من غير المألوف.
هذه الأفكار البرغسونية كانت أحد الأسس التي اعتمدها التصويريون ضمن مفاهيم أخرى في التعامل مع المفردات البنائية للنص الشعري، وقد شاعت التصويرية في أمريكا وبريطانيا وكان من أهم روادها عزرا باوند وإليوت وكبير منظريهم هيوم.
وقد كثف التصويريون تنظيراتهم في مجال اللغة والصورة الشعرية وكذلك موقفهم من الشعر التقليدي والشعر الحر فهم يعتقدون وفي مجال اللغة:
أنه لا ضير من استخدام اللغة الشائعة والتي يعنون بها باللغة المحكية ولكنهم في الوقت نفسه لم يتركوا هذا المفهوم سائبا بل يربطونه بضرورة الاستخدام الدقيق لهذه اللغة خشيتهم في ذلك أن لا تتداخل أو تسطو اللغة المقارنة أو البديعية على هذا الاستخدام اللغوي، وبالتالي يؤدي ذلك إلى خلق إشكاليات عديدة أثناء عملية الخلق، وبالتأكيد أيضا فأن مفهوم اللغة لدى التصويريين يكاد يصل بعض الشيء إلى مفهوم فلاسفة الوضعية المنطقية الذين يرون أن اللغة تؤدي وظيفتين وهما: الوظيفة الأولى تقرير الوقائع، والثانية إثارة الانفعال. وهذا يشبه إلى حد ما رأى التصويريين بأن اللغة تتعامل مكانيا وباطنيا مع الموجودات.
وقد التزم التصويريون بمفهوم الشعر الحر باعتقادهم بأنه الأنسب والملائم لإثارة القوى النفسية والوصول إلى الجمال وهاجموا الشعر التقليدي واعتبروه لا يقدم القدر الكافي من الصوتية المطلوبة ونغماته غير قابلة للتجديد لذلك حذروا الشعراء الجدد حينها من إحلال النغمات القديمة في الألسنية الموسيقية للشعر الحر، وقد انعكست آراؤهم تلك على مفاهيم أخرى ومهمة حول وظيفة الأدب واستخداماته ودعوا إلى التركيز والوضوح من خلال البينية ما بين المحدود واللامحدود.
ولاشك أن هذه الآراء تدعو إلى التساؤل عن مدى التصاقهم بالفيزيقية ومديات تفريقهم ما بين اللغة المباشرة والتي تعمل كما أسموها بالصور، وما بين لغة النثر التي دعوا إليها واعتبروها المحرك والإلهام وربما بآرائهم هذه أرادوا الابتعاد عن الكثير من المفاهيم النقدية ومنها المفهوم المضموني أو ما رأته الوضعية المنطقية في فك ارتباط الأدب بالمعرفة أو المفاهيم التي دأب عليها النقاد الشكليون، لكنهم كانوا - أي التصويريين - امتدادا للرمزية وذهبوا بأنفسهم لإحياء كلاسيكيتهم الجديدة حين اتسعوا في مفهوم التجربة وفتحوا نافذة الأساطير القديمة.
وقد عمل الشعر تارة في مجال التعارض الظاهري واعتبروه أحد معايير الشعر استنادا إلى ما تؤدي العبارات فيه من التناقض الذي يؤدي مظهرا فكريا وهو بذلك قد قننت فيه المستويات الشعورية، ولكن هذا التناقض يتحرك في مجالات التضخيم تارة وتارة في مجالات الدقة وفي المجالات التي تسمح لتسيير جزء من دفق الباطن ضمن الجزء الأكبر من الاكتناز الفكري الذي يتعاطف بقدر ما مع اللاشعور.
وتبدو هذه المساجلة وكأنها شكل من أشكال التعقيد لكن هناك من يعتبرها أو بالأحرى يعتبر هذا التعقيد هو الدلالة التي من خلالها يقوم النص وتلك أراءُ لوردزورث وكذلك كولردج، كما عمل الشعر تارة أخرى على ما يسمى بمقولات العقل.
ولاشك أن "كانت" صاحب الفلسفة المثالية التي تناولت الكم والكيف والزمانية والجهوية وتعاملت مع الصورة الشعرية على أساس التنوع في الدلالات والقدرات المتوفرة في بناها التحتية، ولذلك فأن الصورة الشعرية تتفاقم بتفاقم التوتر فتتكون لدى الشاعر صيغه القيمية والتي بموجبها يستطيع الحكم على الغرض من استخدام تلك الصورة من عدمها فيجد أن ذلك التحديد يقع ضمن التفسير الذي يكون خارج مخيلة الشاعر وبه يحتكم إلى ظاهر النص وبنائه.
وقد تكون الإشارات تلك بمثابة العملية التصحيحية ضمن الحذف والاستبدال والذي لا يخل بالشكل العام لبنية النص ووحدته العضوية سواء بالجزئية أو الكلية اللتان تتبادلان أدوارهما في محتوياتهما التي تنفصل تارة وتتصل تارة أخرى بعضها مع البعض، لإشباع مناطق معينة لرفع كفاءة علاقاتها الإنتاجية ليتم البناء في الخيال على قدر من الوهمية والانفلات، فكولردج يرى أن الصورة بذاتها لا تدل رغم جماليتها على خصائص الشاعر حتى لو نقلت نقلا أمينا أنها لن تكون بتلك العبقرية ما لم تكن محكومة بانفعال عال أو أفكار منفصلة أو صور أنتجها ذلك الانفعال.
وبين هذه الحدود وتلك يرى تارة ثالثة ما يعنيه الرمزيون بالقوى التي تجتاز عالم الواقع ويتصلون بالسحر والغرائبية من خلال رموز الأشياء البديلة فهم يتراسلون بالحواس ويضربون على جذور الأعماق في أقل وعي ممكن كونهم يجدون أن حواسهم تنشطر لانتقاء المُعبر الرمزي إن كان تراسلهم قد تم ضمن التراسل الرأسي أو التراسل الأفقي فكلاهما يصلان مستويات اللذة المطلوب بلوغها في الأفق الذي يقصدونه.
إن الاشتغالات التي بنى عليها الشعراء واجهاتهم الإنتاجية هي تلك نفس المشاغل الكونية التي ابتلاها الإنسان مذ وجوده على الأرض وكانت الظواهر وعللها والاستدلال عليها هما أقطاب المحركات التي حركت المخيلة إلى بعدها الآخر ضمن مناشئ الاتجاهات والتيارات الفلسفية والتحولات في الأدب والفن والاتجاهات الجديدة في ألسنة اللغة ونظريات دي سوسير عنها ولحظة كشفه الشهير عن أنظمتها ضمن مفاهيمها الثلاث ومسمى المدلول وكذلك مفاهيم نظرية المعرفة وقضايا الجدلية في الفلسفة الماركسية وفلسفة هيجل في الروح المطلق والوعي والتاريخ وإغناءات الفلسفة الوجودية وفلسفة التحليل النفسي وما أفرزت بعد ذلك دراسة الأساطير والمكتشفات الأثرية والتطور الذي حفلت بها ميادين العلوم كافة.
كل تلك التطورات ساهمت في أن يزيد الشعر من غموضه مادام الكون يزيد من وضوحه.