ادب وفن

مسرحية "دولاب".. تناقل السلطة بين المرئي والملفوظ / د. ماهر الكتيباني

ندخل في تحليل عرض مسرحية "دولاب" لمؤلفها علي عبد النبي الزيدي ومخرجها زكي عطا احمد عبر نافذة العنوان الذي وسم النص والعرض ببصمته، فيما أتناول المحتوى الخاص به تداوليا، بمعنى ازاحة الكلمة/ العنوان، عن سياقها اللغوي الى المنعكس المادي، ووظيفته الاجتماعية، إذ يقترن الدولاب بـ "العيد" أو مدن الملاهي في ضوء ذلك له علاقة بالفرح، كما وان مفردة الدولاب تعني العجلة وكلاهما يدوران، دولاب العيد له اراده محركة تتحكم في سرعته، وفيه فرح جمعي يشمل الصغار والكبار، ما يعني التجرد عن المنغصات فيما دولاب العجلة له اقتران آخر بالدوران وتتحكم فيه ارادة خارجة عنه، لقد استعار المؤلف هذه المكونة اللفظية في طبقتين، الاولى وهو ما تدلل عليه في متنها الاتفاقي، والثانية ما يتخرج عنها من فهومات تسبكها خصوصية النص التي تدعم الحياة وأواصرها اكثر من الموت، والاخرى التي تزيح المفهوم وتحل عوضا عنه واقعا مأزوما يحرق، ولا يزرع سوى العتمة ويسقيها دماء. وهنا يحقق مفارقة للعنوان ومضمونه ويمنح افقا لمعيشة مغايرة، ومعايشة شديدة الحزن.
يتحدث نص "الزيدي" عن مفردة نسائية/ الأم، فقدت مفردات – ابناء - ثلاث في "حرب" - يتكرر حضورها في نصوصه – و"عبوة ناسفة" و"مفخخة"، ترتضي ان يكون لها رقم رابع ( ابن ) تؤجره لقاء ثمن، تعلن عبر (الصحافة) عن نيتها تلك وتضع شروطا تحيل على المعنى المألوف (للدولاب)، وهو اسم ابنها الصغير، اي التجرد عن كل ما يدفع الى تذكر (حرب)، وقد اشترت له قميصا بلون التفاح او الرمان او البرتقال، تلك الالوان لها انعكاس مادي عبر فعل الاستعارة، والقصدية في استحضار العمق الروحي والتاريخي لها بوصفها ترمز لأبينا ادم وامنا حواء، ولعل تلك لا تجسد سوى مفهوم الخديعة والتوريط، فان ما يكشف عنه "الزيدي" ما هو الا توريط في متاهات الموت، الذي يثكل المرأة ويسلبها بريق وجودها.
تحصل المرأة على متبرعين، وكل منهم على موعد مع حرب، ولا ايام سوى "اجازة" مركز التدريب، "الخميس والجمعة"، وهنا يتضح لجيل عاش واقعا تلك الاحالة على زمن راحل، ذلك لا يغذي جوع المرأة التي تمثل المجموع من قريناتها وتعيش في شارع "اليوبوو" المثخن بقطع الموت، وقد كدست القمصان الجديدة وثوب الفرح لزفاف ابنها الذي يماثل القمر بل الاقمار، وقد دلل عليه المخرج بدائرة مضيئة في الاعلى يسار مقدمة المسرح، كما لو ان المخرج استحضر في معادلاته للفكرة قمر "كاليكولا" الذي اراد ان يحصل عليه، وهي تكرر في افتراض قد يكون مقتبسا عن تلك الفكرة، ان حضور الابناء تماما يكاد ان يكون مستحيلا هكذا عندما تصطدم الأم بإرادة اخرى تجعل حتى المتبرعين غير قادرين على تحقيق رغبتها في زواج احدهم من خطيبة ابنها "دولاب"، ففيه فيض ذلك الرحم الذي يديم الموت لا الحياة، تلك هي المناطق الرئيسة في نص "الزيدي" الذي يختزن عمقا بلاغيا وثراء لفظيا، في مقابل ذلك نجد نص العرض قد انشغل بصراع بين المرسلات اللفظية التي تعمق المؤثر الوجداني والعاطفي في ذاكرة التلقي، مع الاخذ بعين الاعتبار ان الرؤية الاخراجية حاولت استدراج النص الى ساحتها الجمالية، والصراع ظل كامنا 0حيث تتصدر اللغة البصرية تارة بوصفها بنية مادية حتمية في وجودها وتارة تغلب وجدانية النص وتحلق اعلى في فضاء الذاكرة، مع ايماني المطلق ان التعامل مع نصوص "الزيدي" يفترض ان يغادر ما ينعكس عن النص من خيط للحزن والنغمة العاطفية بما فيها من شجن وفجيعة وتعارض مع السلطات، الى شجون اخرى، إذ أن الوسيلة المثلى لقراءة الزيدي هي تفعيل السخرية، فالمفارقة العبثية متوافرة في نصوصه جميعها، عبر تعارضه مع التابوات، والدهشة التي ينطوي عليها ذلك فضلا عن الصدمة التي تبرق في ما هو مألوف وتحرقه لحساب التصور الاخر الثوري والمنتفض على ما هو راهن، كذلك غرائبية شخصياته، ما يفرض تجاوز البناء الأدائي التقليدي الذي يغلفه الحزن والبكائية وغيرها.
وبالعودة الى "دولاب" العرض، فان المخرج درس النص جيدا واستثمر خبرته في النصوص الاخرى ليمنح وحدة شمولية لفحوى ما يريد ان يوصل، صنع عالما من الترقب والتشويق في مستهل العرض، كما رسم بذهنية تشكيلية هيكلا عملاقا، لم يك غير عباءة كبيرة، تتعدد الى ثلاث او اربع، منحت الإضاءة الخافتة ذلك البناء البصري بعدا زمنيا، يجمع المآسي كلها عبر مدياتها التأريخية، كما افرزته بشكل نحت في المكان، تفتح تلك الاكوان العباءات كما لو كانت رحما كبيرا ينتج مفردات وارقام، كلها تنظر في مصيرها، تبحث جميعها عن أم، عبر الاعلان في الصحيفة، ليست المرأة وحدها من يبحث بل هم كذلك، المخرج وظف حركة المجموعة ليعبر عن الصراع الذي يكتنف الجميع، لقد شكل البعد العمودي للصورة نوعا من التسامي الذي يتشكل نوعا فالكم المتكرر للضحايا يتجلى نوعا عبر التسامي، والعرض والنص معا كانا يبحثان عن ذلك التسامي الذي يفرغ الحرب من محتواها ويجعلها "تصدأ" تكف عن الاتساع تكف عن هتك الحياة، ما يعادل ذلك الهياج الكبير الذي حققته حركة القماشة السوداء التي تشكل البعد الافقي وتلك تحيل وتدلل على الاثر الغاضب والفوران الذي يتحقق في بحث المرأة عن من يمنحها لحظة استذكار لأبنائها وان كانت عن طريق تأجير ابن مستعار لقاء ثمن.
تجدر الاشارة الى المعادل الاخر للقماشة الكبيرة السوداء الذي يشكله الحائط الخلفي الكبير الذي كونته الصحف والمشقوق من المنتصف وقد غطته للوهلة الأولى قماشة سوداء، وليس غريبا القول ان الحائط او الصحيفة الكبيرة، يحاكي العباءة الكبيرة السوداء التي انطلقت منها المجموعة في صراعها ورميها الصحف، الحائط الخلفي هو الرحم الذي تلج منه المفردات البشرية بيت المرأة/ الأم.
تحصل المرأة نتيجة اعلانها في الصحف على ثلاثة أبناء: الاول يماثل حربا اولى وبدلته العسكرية هي كفن، والاخر الذي يأتي من الرحم ذاته مصاب ومعاق ومريض، والثالث يقذفه المخرج عبر قاعة التلقي، ولربما هي اشارة إلى الظرف الراهن حيث عشنا الماضي وما زلنا نعانيه ونصل الى ظاهرة الهجرة فهو مُصرٌ على المغادرة. تعيش المرأة حلم ان تنظر وتلتقي ابنها وان عن طريق جدار الوهم، لكنها تصطدم بواقع يحطم هواجسها ورغباتها، التي تحبطها الرسائل التي تنثرها المجموعة وتحقق وجودا منعزلا ومنفصلا عن حقيقة ما يجري، أما الحبيبة التي تُختزلُ برسالة هي كذلك في حيز افتراض حياة الحبيب. تحجز المرأة حدود بيتها "الوطن" بالأسلاك التي تجعل البيت "الوطن" معسكر اعتقال وموت، وذلك ما يوصله المخرج في حمل طست الغسيل وتعميد المفردات البشرية بقبضة التراب او الرمل الذي يعني تخاذل الجميع عن ايقاف الدولاب ودورانه الذي لا يمنح الفرح بل اللا حياة.
عمل المخرج على تأثيث الصورة البصرية بمكملات بسيطة لكنها معبرة، وتخلص العرض من الاضافات غير الضرورية، بل واعتمد بشكل كبير على الاداء التمثيلي، الذي اجده هو الاجدى في المعالجة الاخراجية فالمسرح يعني الممثل الذي يعي دوره، فيما دعمت منظومة الضوء المزاجات النفسية للشخصيات واسهمت في تعزيز الروح التعبيرية للشكل، كما ان المقطوعات الموسيقية المختارة أسهمت في خلق الترقب وفعل التشويق وان كانت متكررة وبخاصة موسيقى المشهد الاستهلالي، مع تأكيدي على اهمية ان تكون المؤثرات الموسيقية التي ينتجها العرض تأتي من داخله، وما هو مثير في المعالجة اقتران دخول المفردات من الرحم مع مؤثر طبول تقرع للإشارة الى طبول حرب وموت، تدخل الى عالم مفترض يتجرد عن مخلفات حرب ولا يتجرد عنها.
يكاد أن يكون عرض مسرحية دولاب متكاملا من حيث الرؤية الإخراجية بخاصة في محاولة تخطيها قوة الحوار وشاعريته ومؤثراته العاطفية، وكنت اتمنى على المخرج ان يبقى في حدود التركيب البصري الذي استهل به العرض موظفا القماشة في بناءاته المتتابعة فالمسرح لا يعكس واقعا تفصيليا بل يؤسلبه، وان يستثمر الطاقة الادائية لـ "أنوار طالب" التي حققت حضورا ملفتا في العرض وحملت الثقل الاكبر بوتيرة متصلة من الانفعالات الشعورية، وتماهت في تجسيد شخصيتها وان غلب عليها اللون الواحد في التعبير الصوتي في حين ان الشخصية تمتاز بتنوعها الانفعالي، لكن "نور" تفوقت في تشخيصها ولحظت تطورا جيدا عن مشاهدات سابقة لها، كما أن الممثلين الآخرين : علي خضير ومحسن خزعل وحيدر عبد الرحيم، تضافرت جهودهم الادائية لتعزيز وتجسيد الفكرة الخاصة والعامة وخطوط الاتصال بين شخصية وأخرى متماسكة، وإجمالا فان تجليات الاداء تماثلت في حدودها بين المفردة والاخرى، لكن كنت انظر الى صيغ ادائية اخرى غير واقعية اذ لا يمكن أن يكون الشكل تعبيري أو سريالي وتتراقص فيه الرموز في حين يكون الاداء واقعيا أو طبيعيا. اجد ان ذلك غير منطقي، فالتكامل الفني يتحقق بمكونات العرض كافة.