ادب وفن

الشاعر علي حسين علوان الجبوري .. هموم الشاعر الغريب.. / عادل الجبوري

شاعر غريب في شعره .. غريب في قبره .. لا يعرفه إلا الغرباء الصامتون الضائعون بين الحروف المتصوفة التي يأكل بعضها البعض لتبقى حروف كهانته حزينة كحزن كأسه المثل الذي يجادل الجالسين في معبد الحب و الجمال والشعر .
غريب في عالم الأغبياء. . ناسك في عالم الأنبياء والشعراء رغم أن الشعر في عالم الأنبياء ضلالة وفي عالم الأغبياء فضالة .
كل شيء في شعره هم .. وكل شيء في همه شعر يسيطر بين كلماته ماهية الحب و الجمال دون ان يعرف العشق .. ودون أن يعرف الحب لأنه شاعر لا يطمح من الحياة بغيرها ولا بالآخرة وجناتها..
آه لو تعلم يا ذا الخال في الوجنة ما بي
أن جسمي قد وهى والله عن حمل ثياب
تلك أيامى تجري جري أفراس عراب
لست مسؤولا اذا زاد عقابي أو ثوابي
شاعر فلسفته في الحياة أن يملأ كأسه الفارغ بكلمات تنزف دما ليكون ثملا لا يعرف فيه أحدا إلا نفسه .. ولا يحدث بها أحدا إلا قلمه وخمره وكأس .
إنه شاعر يحتاج إلى وجه لا يعرفه أحد من وجوه زمانه كي يرسم عليه صورا من شعره كما يريد لا كما يريد الخليلي. الكلمات في شعره قبلات .. لكنها قبلات من الدم لأن الشفاه التي يلثمها لا تعرف الفم الذي يقبلها.
شاب رأسي وانحلتني الليالي
أين مني تلك السنون الخوالي
يا خليلي يا من تلوم تمهل
انت ايضا أصبحت من عذالي
فإذا انت لم تذق طعم الحب
فدع اللوم بل ودعني لحالي
لا تلمني جننت ويحك دعني
بغزال كناسة في الحالي
كان شعره عاريا من الخطيئة.. لأن الخطيئة عارية من نقابها وعفتها.. كان شعره باكيا.. لأن كلماته باكية من يقرأها يضحك على نفسه ودمعه. كان شعره عابرا حدود المأساة الشخصية لأن المأساة لا تعبر إلا من حدود شعر البؤساء ومقبرة الغرباء. إن شعره وثني في معبد صادق .. لكن صدق كلماته في مسجد كاذب . فلدى الله شاعر وثني صادق خير من فقيه عابد كاذب شأنه في ذلك شأن قول الرسول "ص": كافر عادل أفضل من مؤمن ظالم.
شعره كان عظيما لأنه خلف هموما عظيمة كثيره في ديوان همومه الشعري الصحراوي الذي تصفق له رمال صحراء الربذة التي مات فيها العظماء.
إنه ينحت الشعر من همومه والامه فبنى العقابي هرما من شعر الجبوري. لكن الجبوري سيعتب علينا لأن الهرم سيكون موحشا ما لم يذهب إليه القراء . والغرباء . إنه شاعر يؤمن بحسرة الأنبياء والمصلحين لا لأنهم أنبياء ومصلحون إنما لحسراتهم التي حملت هموم الغرباء والمهمومين الذين ينظرون إلى تساقط الأغبياء من أجل سعادة الفقراء الذين حمل همومهم فزادت من همومه حتى غيبته عنا.
صبرت على البلوى فبرح بي الهجر
وقد هدني وجد واضناني الصبر
كأن نهار الهجر عام اعيشه
فكيف أعيش العمر ساعته شهر
تمر الليالي لست احظى بوصلها
وتجري دموعي كلما طلع البدر
تجلدت حتى لم تعد بي طاقة
وكم قيل أن العسر يعقبه يسر
انه شاعر حدد شكل حياته وموته لكنه لم يعش كما يريد ولم يمت كما أراد بل عاش كما أراد كأسه ومات كما أراد قبره . لأن الناس يبنون قبور الشعراء بعد موتهم كما بنى العقابي ديوان شعر الجبوري بعد مماته .عرف شاعرا انعزاليا لا يقترب أحد من عزلته فعاش في حانوت مهجور ينظم فيه الشعر تحت ضوء القمر ويتوسد فيه اثاث شعره المثقلة الثملة بدخان سجائره.
وكان شاعرا وطنيا لا تقترب وطنيته من أحد لأنه يؤمن أن الوطنية انتماء وان للوطن ولاء. وللإنسان أمة لكنها غمة . كما أنه عرف شاعرا عنيدا لا يهزه خوف سلطة أو يغريه عرض او عطاء أو قرابة .. فكم رفض من عروض لإطلاق حريته عندما قيدتها الأحداث السياسية لشعوره أن الجدران التي تضمه تحقق حريته. وللشاعر علي الجبوري.. فلسفة حياتيه شمولية أممية. فكرة الانتماء لديه تقوم على ترك الإنسان لإنسانيته. والخطأ عنده أن لا يترك الشعر بلا اسم لأن الشعر بلا اسم يفقد نسبه وترابه وهواءه.
الشعر عنده هو الخير والطيب وسلامة الكلمة.. ومن يبتغي من الشعراء غير ذلك فلن يقبل شعره. تماما كمن لا تقبل لحيته أن يرتجف شعرها لناقوس أو مائة. إنه يفهم الشعر بكأسه وليس بكلماته. ويفهم الحقيقة في مقره وليس في شمسه. فالقمر في ضوئه وحي والشمس في ضوئها شيطان لذلك نراه نبيا لكن شيطانه أقوى من نبوته .. إنه الكافر في شعره الملحد في قبره .الصيف والشتاء عنده فصل واحد ما دام شعره حارا في الشتاء وباردا في الصيف .. هكذا الغرباء يعيشون بلا صيف أو شتاء . الحر والبرد عندهم سواء .
سئل الجبوري مرة من صلب شعرك؟
أجاب كلماته. ومن حرق حروفك ؟ أجاب ابجديتها . ومن حرق الاثنين ؟ قال لهيب غربتي . لكن لهيبها انطفأ بريح خانات الليل . لأن الشعر بلا حانات كالخراف بلا ناي . بدونها تموت قافية الشعراء .. ولا يموت الشعر أو الشاعر مادام هناك من يؤمن أن الشاعر يموت والشعر يبقى حيا.
الركب أسرى فالفؤاد عليل
والطرب من وجد عليه كليل
وحشاشتي ذابت جوى صباح
وجراح قلبي نزفهن دخيل
اسفا عليك على وصالك والهوى
وعلى ليال مالهن مثيل
دهر "ظنون" ظن أني خصمه'
فمضى يصيب لي الأذى ويكيل
أقضي النهار كأنني في بلقع
وأرى الديار كأنهن طلول
ولد الشاعر علي حسين علوان الجبوري عام 1939 في محافظة ميسان قضاء المجر الكبير محلة السراي
التحق بدار المعلمين الابتدائية عام 1956 وتخرج فيها عام 1959 معلما. عمل كل حياته في التعليم في شمال العراق مطاردا لانتمائه الى الحزب الشيوعي العراقي وكان يمنع رجوعه إلى محافظته إلى أن أحيل إلى التقاعد بتاريخ 1983 وهو الولد الوحيد لأم تعشقه بجنون ولكن حالت الظروف إلا أن يكون معذبا كما هو شاعرنا الحصري وحسين مردان وقد أدى انتماؤه الى اليسار العراقي وتبوؤه عضوية لجنة محلية للحزب الشيوعي إلى أن يقضي معظم خدمته التربوية في شمال العراق في الأقضية والنواحي والقرى معلما يسكن الفنادق او بيوت الإيجار ومتنقلا من مكان إلى آخر. وقد عاد بعد عشرين عاما متقاعدا في حصار أليم في بيت مهجور. بعد أن لحق بآخر يوم لمجلس عزاء أمه الطيبة الحنون بعد هموم وعذابات مات بمرض السرطان عام 2002 في مدينته التي عشقها وعشقته مدينة المجر الكبير.
وختاما لا أعز لديه من غربة علي حسين علوان الجبوري ولا أعز لدي من ثقافة مدينته ما دام في المدينة من يذكرون أبناءها كعلي كاظم خليفة العقابي. والشكر موصول إلى ابن عمه الدكتور المحامي عبد الجبار عبد الوهاب الجبوري لتحمل نفقات طبع هذا الديوان على نفقته الخاصة.