ادب وفن

"متعثرا بالاناء النذري" .. الاصالة والتراث والقاموس الشعري / داود سلمان الشويلي

"هذا الجديدُ اليومَ:
تسوّدُ الجِباهُ
وتُبَيّض اللحى"..
هكذا ينعى الشاعر حسين محمد عجيل الحياة، فهي كلما تقدم الزمن تسود الجباه، وتسد ابوابها، فيما اللحى تبيض من شدة سواد هذه الجباه، وقد اشتعلت "اللحى" شيباً كما يقال.
نتساءل: ما هي طرائق النظر لاسوداد الجباه، وابيضاض اللحى عند المتلقي؟
الجواب سنراه بعد قراءة هذه السطور.
***
لا يمكن ان ننفي ما للتراث من دور كبير في صناعة الشعر "الشعر صناعة كما يقول الجاحظ"، وفي الوقت نفسه لا يمكن ان ننفي عنه المعاصرة.
ففي معاصرته يمكن القول ان الشعر غير بعيد عما نعيشه في الواقع في كل شيء "السياسة، الاجتماع، الثقافة، الاقتصاد ..." الخ، وقد جدد العلاقات الرابطة بينها.
في قصيدة " تُسَوّدُ الجباهُ .. تُبَيّضُ اللحى" يقول :
* "بأرض خضراء
من فوقِ منابرَ تعلو بجماجمَ و أقفاص طيورٍ تخفقُ
الحناجرُ تصرخُ إذ وُعدتْ بشحنةِ زيتٍ فاسد
تناسلتِ القصورُ والإذاعاتُ
ملايينُ الأرجلِ تزورُ متاحفَ مهجورةً"..
كيف تبدو منابر "الخضراء" وقد كانت الصورة غير انسانية مليئة بالجماجم واقفاص طيور تخنق بعد ان تناسلت القصور والاذاعات؟
وعن التراث يمكن القول ان الشعر يغوص عميقا فيما رشح من هذا التراث على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي خاصة، ان كان في الاستفادة من الاسطورة، او التراث الشعبي، او المأثور القرآني والديني، أو القول الشعري والنثري "كتب الديانات، والكتب التي ورثناها عبر تاريخنا المكتوب".
يقول في قصيدة "تحت القبة ":
* "تحتَ القبّة.. تبوّلوا قسمهم
سكروا بنفطِ البصرةِ
تقاسموا أطنانَ الدراهمِ
اقترعوا على بقراتٍ سمانٍ
طاردوا عِجافا دَهَسْتها الهمراتُ بـ "أرض خضراء".
أو في قصيدة "شموعُ النسوةِ الوحيدات":
* "....... بحزاِمه النا سفِ..
كلَّ مساءٍ
عندَ الهزيعِ الأولِ
يباغتُ "ابنُ ذي الجْوشن"
حفلَ زفافِ "القاسمِ"
بـ "بابِ الدِروَازَة".
هكذا ينقل لنا الشاعر ما حدث في الماضي على انه صورة واقعية حدثت في الحاضر، يتلبس الحاضر لبوس الماضي، وكلها مأساة تحدث في الحاضر كما حدثت في الماضي .
***
عندما نقرأ مجموعة من القصائد لشاعر ما تضمها دفتي غلاف مستقل تعلق في اذهاننا بعض المفردات التي استخدمها في بناء لغة تلك القصائد، تلك اللغة التي تدل على وجود الشعر وتماسكه، فتأخذ منا وقتا نحاول فيه فحص تلك المفردات وروابطها وفك رموزها، وارجاعها الى أصولها القاموسية والثقافية، كي نصل الى المعاني والدلالات التي اراد الشاعر ان نصل اليها.
ان فك ترابطات المفردات والرموز هو لرؤية مدى قدرة التجربة الشعرية المقدمة في القصيدة على الثبات، وفحص تماسكها، وهذا ما يمكن فحصه ودراسته هنا .
ان النسق الذي حكم هذه المفردات هو النسق اللغوي / الشعري المتعارف عليه شعرياً عند الدارسين وفاحصي النصوص، ومن هذا المنطلق ستحيل ذائقة الدارس وفاحص النص هذه المفردات الى ذلك النسق اللغوي/ الشعري لفحص اساسيات التناول والاستخدام و الترابط فيما بينها .
ان الشاعر الذي يستخدم قاموسا لغويا معينا فانه يكتب قصائد بترابط لغوي ابداعي يعطي المعاني والدلالات الثقافية التي يفرزها هذا القاموس مكانة ما، وهذا ليس معناه مطالبة الشاعر ان يختار لغته من قاموس واحد، وانما له حرية الاختيار في ان يستخدم مفردات الحب، والعشق، والسياسة، وما الى ذلك من موضوعات، او الدمج فيما بينها.
ان ما نطالب به الشاعر هو ان يحسن الاختيار في بناء قصيدة تمتثل لقوانين وقواعد العملية الشعرية الابداعية.
***
امامنا الان مجموعة شعرية تضم 36 قصيدة قصيرة وشبة قصيرة، سنفحص قاموسها الشعري كي نصل الى المعاني والدلالات التي تقدمها قصائدها.
يتوزع القاموس اللغوي لقصائد المجموعة الى عدة ابواب، وكل باب يختص بمفردات موضوع ما، فهناك باب الاسماء، وباب المناطق، وباب المدن، وباب الثقافة، وباب الجسور، وباب الرموز الدينية والاحزاب، وباب الرموز السياسية، وباب الاحتلال، وباب الاعراق، وكلها تصب في خانة الاحتلال ورموزه الباقية بعد مغادرة عسكره المحتل.
من خلال معرفة تلك الابواب يمكن القول ان قصائد المجموعة هذه تحمل افكارا ورؤى عن الاحتلال وما خلفه من دمار في البنى الفوقية والتحتية للشعب العراقي، وما تركه من خلفه من اذناب له كذلك، وعلى العراقيين ان يجمعوا قواهم في الخلاص من هذا الاحتلال واذنابه الذين بقوا من خلفهم ليديروا دفة حكم العراق نيابة عنه والوصول بشعب العراق الى حالة التفتت والتفكك لكي يتم القضاء عليه نهائيا، انه هجاء للاحتلال واذنابه، بل هو طريق لمقاومته.
***
القاموس الشعري:
باب الاسماء :
سالومي، يوحنا، ذي الجوشن، القاسم، سيدة النجاة، يهوه، الكيلاني، بوذا، عزرائيل، ابن ملجم، ابو لؤلؤه، رضوان، يأجوج، الاخطل، الفرزدق، جرير، ابن ابي سلمى، هرم بن سنان، الليدي ماكبث، ديوجين، زوربا، مواكب فهد، عبس وذبيان، خمبابا، كلكامش.." الخ
في هذا الباب من القاموس اسماء خاصة بالدين، واخرى خاصة بالشعراء، وثالثة خاصة بشخصيات روائية ومسرحية واسطورية وفنية، ورابعة خاصة بالقواد العسكريين .
باب الثقافة :
دار المخطوطات، متحف الفنانين الرواد، متحف كولبنكيان، دواوين ابي العلاء، تمثال السعدون، قبة سامراء، نصب جواد.
باب الرموز السياسية:
القبة "يقصد قبة البرلمان"، تورا بورا، النصرة .
باب المدن :
النخيب، الربذة، القوش، طوب زاوه، سنجار، بحزاني، جبل عامل، الرطبة، تكريت، مدينة اكد .
باب المناطق :
منطقة "الـ" خضراء، الباب الشرقي، باب الشيخ، نفق التحرير، خلف السدة، مثلث الموت، باب الدروازة، السفينة، خضر الياس.
باب الجسور:
المعلق، جسر الائمة.
باب الاحتلال:
المارنيز، سبايكر.
باب الاعراق:
تتر، صفويون، سلاجقة، الاعراب، قرامطة، الخوارج، المعدان.
ماذا يعني استخدام هذا القاموس وبهذه الابواب التي تنم عن اختيار واع لما فيه؟
لنأخذ قصيدة " متعثرا في الاناء النذري "، ونضعها تحت مبضع الفحص والدراسة لنرى ما فيها من افكار ورؤى اعتمادا على هذا القاموس الذي استخدمه الشاعر في قصائد مجموعته التي تحمل الاسم نفسه.
لا أريد ان افسر القصيدة، لان التفسير يذهب بالشعر ويفسده، بل قل اني في هذه السطور سأأول القصيدة حسب ما فيها من مفردات ترابطت فيما بينها وقدمت لنا رؤاها ودلالاتها، ولا اجبر المتلقين على تبني تأويلي، الا اذا كان متوافقا مع تأويلاتهم هم .
تحمل القصيدة "والمجموعة كذلك" عنوانا له علاقة بالتراث العراقي السومري، وهو "الاناء النذري " الذي هو: "تـحفة فنية أثـرية يبـلغ عـمرها أكثـر من 5000 عام وهي عبارة عن زهرية محـفورة من حجر المرمر عـثر عليـها في مجـمع للمعـابد تعود إلى الآلهة السـومرية إنّيانا في آثار مـدينة أور الأثـرية".
ولما كان العنوان يحمل لفظة " متعثرا"، فيكون العنوان عند ذلك هو اصطدام هذا الاثر/ التحفة بالأقدام، أي "دفره" وازاحته، وهذا المعنى وما يعطيه من دلالات هو " دفر "التاريخ الحضاري للعراق منذ 5000 سنة، أي ضرب حضارة العراق عرض الحائط من قبل قوات غازية لا تمتلك تاريخاً مثل تاريخه، وهذه مأساتنا إذ نملك الماضي ولا نملك الحاضر، فيما الغازي يملك الحاضر ولا يملك الماضي .
في القصيدة يرد اسم " متحف كولبنكيان " و"المارينز " في ترابط ابداعي وثابت لا يمكن الفكاك منه:
* "بصوتِ ابنِ آوى
اندلقَ من بينِ الظلماتِ
تحتَ مطرٍ أسودَ
تسلّلَ من جُرْحٍ بجداريةِ "متحفِ كولبنكيان"
متتبِّعاً حوافرَ "المارينز".
وكذلك نجد ترابط الآثاري" ليونارد وولي "مع ما قبله :
* "وإذ تنفّس بشغفٍ..
دخانَ قيثارةٍ بكْتها أصابعُ "ليونارد وولي"
استحالتْ أذرعُه مسوخاً ".
وايضا ترابط" انوبيس" وهو إله الموت المصري، الذي يجمع بين "ابن اوى" و"المارينز" و "متحفِ الفنانينَ الروّاد "مع ما ورد قبل قليل:
* "تسجدُ لـ "أنوبيس" على أنقاض "متحفِ الفنانينَ الروّاد".
و تمثالَ "السعدونِ" و " دارَ المخطوطاتِ" ايضا:
* "تصهرُ تمثالَ "السعدونِ" في فجرٍ انتحرَ ضوؤه
تسحلُ "دارَ المخطوطاتِ" لدجلةَ
وتسحلُ دجلةَ للنار".
كل هذا تدمره طائرة " b2 " القاصفة العملاقة، فتحيل تمثال "السعدون" رمز الوطنية العراقية والذي كتب بوصيته قبل الانتحار "الانكليز يريدون شيئاً والشعب يريد" كما تذكر المصادر، و"دار المخطوطات " التي تضم ذخيرة الكتب المخطوطة لحضارة العراق منذ السومريين الى الان، ونهر دجلة الخالد، الى رماد .
الرابط الذي يجمع هذه الصروح الثقافية مع "المارينز " – القوات الامريكية الغازية - هو صوت "ابن آوى" الذي خرج من جرح اصاب احدى اللوحات الفنية في متحف كولبنكيان، فهطل المطر الاسود، وتحركت سرفات الموت، فدمرت كل شيء امامها، الحضارة الماضية المتمثلة برموزها المعروفة في الاناء النذري، وفي دار المخطوطات، والآثاري "ليونارد وولي"، وما اكتشفه عند السومريين، ودمر التقدم العلمي والثقافي والفني والسياسي للعراق في التاريخ المعاصر، والرابط الذي يربط الاثنين هو تمثال السعدون .
ويقول كذلك في هذه القصيدة :
* "جاءَ بلا عينينِ
اخطبوطاً يركض حاملاَ سكاكينَ التاريخ
سقطتْ عمامتُه..
حينَ تعثر بالإناءِ النَذْريّ
و إذ تنفّس بشغفٍ..
دخانَ قيثارةٍ بكْتها أصابعُ "ليونارد وولي"
استحالتْ أذرعُه مسوخاً".
هنا تأتي مفردة "العمامة" لتقول اشياء واشياء، انها ترمز للمد الديني الواسع الذي اصطبغ به قسم من ابناء الشعب، وانما الخشية من القتل، فسقطت العمامة وتراءت للآخرين تلك السكاكين التي تحملها باسم التاريخ، وهو صراع طائفي انكشف للجميع.
ان قراءة متأنية للروابط التي تربط المفردات والرموز التي تحملها قصيدة "متعثرا في الاناء النذري" قد اوصلتنا الى الدلالات والمعاني التي يريد ان يوصلها لنا الشاعر، وهي دلالات ومعاني تمثلت في اغلب قصائد المجموعة .
ان الحرب و الاحتلال واذنابه، هو موضوع قصائد هذه المجموعة، الا انه لم يكن موضوعا مكشوفاً نصل اليه بلا تعب لذائقتنا المستقبلة للشعر، وانما سار الشاعر بنا في مجاهل الاسماء الادبية والسياسية والعرقية، واسماء المدن والمناطق وغيرها ليعطي قصيدته بعدا ابداعيا.