ادب وفن

أربعة عقود مع الطفولة لا تكفي! / طلال حسن

إشارة
بعد أن شرفني الحزب الشيوعي العراقي العظيم، في ربيع عام "2014" بتكريمي في القوش برعاية الرفيق العزيز مفيد الجزائري، يشرفني اليوم اتحاد الأدباء والكتاب في العراق بتكريمي، بمنحي القلم الذهبي، في افتتاح مؤتمر السرد الثاني "السارد.. رائياً"، دورة عبد المجيد لطفي، الذي انعقد للفترة:" 5-6" أيار 2017.
آثرتُ أن أنشر هذه الشهادة في جريدة طريق الشعب، التي كنت في السبعينيات مراسلاً لها في الموصل.
* * *
يختلف الكثير من النقاد والباحثين والأدباء، حول ماهية وأهمية أدب وأدباء الأطفال وفنانيهم، كما اختلفوا ويختلفون حول العديد من أنماط الأدب عند الكبار.
وعلى هذا، فإن البعض منهم، وهم لحسن الحظ الأغلبية العظمى، يرون أن أدب الأطفال ـ قصة، شعر، مسرحية، رواية ـ له أهميته الكبيرة، ودوره الأساس في تربية الأطفال وتعليمهم وتنمية أحاسيسهم الجمالية في شتى المجالات وإعدادهم للمراحل اللاحقة من أعمارهم، وصولاً إلى سن الرشد.
وبالعكس من ذلك، يرى البعض الآخر، وهم لحسن الحظ قلة قليلة، لا تكاد تذكر، بأن أدب الأطفال أكذوبة، ووهم وخداع، وأن أدباء الأطفال، فشلوا في الكتابة للكبار، فلجأوا إلى "السهل غير الممتنع" وهو أدب الأطفال، وهم كما يقول البعض، أطفال أدب لا غير.
ووسط هذه الآراء المتضاربة، يتقدم أدب الأطفال، وكذلك فنون الأطفال المختلفة، ليس في العالم المتقدم فقط، بل في عالمنا العربي نفسه، رغم ما يعتريه من هزات وتراجع، على شتى الصعد، منها، وفي الأساس، الصعيد الثقافي.
ومن الطريف، أن أديبين أخوين، في إحدى الدول الأوربية، وربما في القرن التاسع عشر، أحدهما شاعر، والآخر كاتب أطفال، دُعيا إلى حفل أدبي، وفي الطريق، قال كاتب الأطفال لأخيه الشاعر: لا تنسَ، قدمني لهم، وقل لهم، هذا أخي، إنه كاتب أطفال.
وحين وصلا مكان الحفل، التف العديد من المحتفلين بأديب الأطفال، يحيونه ويرحبون به، فاقترب منه أخوه الشاعر، وهمس له: قدمني لهم، قل لهم، هذا أخي، إنه شاعر.
ومن المؤكد أن الكتابة للأطفال، كما الكتابة للكبار، أساسها الموهبة، فالكاتب النرويجي هانز اندرسن، وهو من أشهر كتاب الأطفال في العالم، كتب أول الأمر الشعر والقصة والمسرحية والرواية، لكنه لم يحقق النجاح المطلوب في أيّ منها، لكنه عندما كتب للأطفال، كتب البلبل وملابس الإمبراطور وبائعة الثقاب والحورية الصغيرة ووو.. وصار هانز اندرسن.. الذي يعرفه العالم كله.
وهذا ما حدث لي، ولابني الفنان التشكيلي عمر، فقد كان عمر في البداية، يحاول السير على خطى الفنانين التشكيلين الكبار عربياً وعالمياً، وذات يوم، أعطيته قصة للأطفال من تأليفي، وطلبت منه أن يجرب، ويرسمها لي.
أخذ عمر القصة على مضض، لكنه ذهب إلى أمه، وقال لها: إن أبي يريد أن أرسم له بطة.
ورسم ابني "البطة"، وهو منذ ذلك الحين، وبشغف وإبداع كبيرين، لا يرسم غير "البطة"، وقد رسم لأفضل المجلات ودور النشر العراقية والعربية، العشرات من القصص والسيناريوهات والكتب.
وأنا نفسي، جئت إلى أدب الأطفال، من أدب الكبار، فقد كتبت في بداياتي، منذ أوائل الستينيات، القصة والرواية والمسرحية، وكذلك المقالة النقدية، وخاصة حول المسرح، كما عملت في الصحافة سنين عديدة، لكني لم أبدأ خطواتي الأولى إلى النجاح والتقدم، إلا عندما بدأت الكتابة للأطفال.
وأولى خطواتي على طريق الألف ميل، بدأت بخطوة مشجعة، ففي أوائل السبعينيات كتبتُ مسرحيتي الأولى للأطفال بعنوان: "الأطفال يمثلون.." وقد نشرت فيما بعد في مجلة "النبراس" التي كانت تصدر عن مديرية التربية في الموصل، أعقبتها بمسرحية حول القضية الفلسطينية بعنوان "الوسام"، وقد مثلت هذه المسرحية مرات عديدة، في المدارس المتوسطة والثانوية داخل الموصل وخارجها، وكذلك في العديد من مراكز الشباب، بل وعرضت مرتين من تلفزيون الموصل، وخلال هذه الفترة كتبت العديد من مسرحيات الأطفال منها "المؤتمر الأول للسلام في الغابة والأسد والثور والصخرة" التي أخرجها الفنان التشكيلي المعروف ستار الشيخ.
وفي عام 1975 نشرت أول قصتين للأطفال في مجلة "المزمار" وكانتا على التوالي "العكاز" و"البطة الصغيرة" وكانتا حول القضية الفلسطينية، كما نشرت عدة قصص في صفحة "مرحباً يا أطفال" في جريدة "طريق الشعب"، وفي السنة التالية 1976 نشرت لي دار ثقافة الأطفال كتابي الأول "الحمامة"، وكان أيضاً حول القضية الفلسطينية، ورسمها لي الفنان المبدع صلاح جياد.
ومنذ ذلك التاريخ، منذ بداية السبعينيات، وأنا منغمر في أتون الكتابة، الممتعة والصعبة والعذبة والمعذبة، للأطفال، حتى إنني أحلت نفسي على التقاعد عام " 1986، و"لأسباب صحية" كي أتفرغ للكتابة للأطفال.
ووراء إحالتي إلى التقاعد حكاية طريفة، فقد رفض مدير عام التربية وقتها طلب إحالتي إلى التقاعد، إلا بتقرير طبي، فذهبت إلى طبيب أخصائي في الفقرات، وقلت له إنني أعاني من آلام في الظهر.
وفحصني الطبيب، وقال لي: فقراتك سليمة.
فصارحته بأني في الحقيقة، وإن كنت أعاني فعلاً من آلام في ظهري، إلا أن هدفي الأساس أن أحال إلى التقاعد لأتفرغ للكتابة للأطفال، وتعاطف الطبيب مع طموحي، فكتب تقريراً أكد فيه إنني أعاني من مرض شيرمان، وعلى هذا الأساس أحلت إلى التقاعد، والفضل في ذلك يعود إلى الطبيب المختص و"مرض شيرمان"، الذي فهمت أنه يعني، انحناء في العمود الفقري.
في مسيرتي، التي استغرقت حتى الآن، ما يزيد على الأربعة عقود، واجهت الكثير من العنت والصعوبات، لكني أيضاً حققت الكثير من النجاح والتقدم داخل العراق وخارجه.
لقد رفضت لي الكثير من القصص والمسرحيات، وكذلك العديد من الكتب، بحجة أو أخرى، داخل العراق وخارجه، لكن هذا لم يحبطني، بل زادني إصراراً على المواصلة، والكتابة المستمرة، مهما كانت الظروف.
ففي عام 1979 سُحب كتابي "الزهرة" من الطبع، بعد أن رسُم وصُمم، بل ودفعت لي مكافأته، وقال لي الأستاذ الراحل شريف الراس، أنه أرسل الكتاب للنشر في بيروت، ويبدو أنه احترق مع ما احترق في الحرب الأهلية اللبنانية في ذلك الوقت، وفي أواخر أعوام الحصار، طبع لي كتاب بعنوان "وردة من بلاط الشهداء"، يتناول الجوانب المأساوية للحرب، لكنه لم يوزع بأمر من أحد المسؤولين، وفي عام 1999 طبع لي كتاب في عمان في دار كنده، بعنوان "حكايات ليث"، ويضم أكثر من "30" قصة حول الانتفاضة، لكن مكتبات عمان جميعها رفضت توزيعه، بسبب التطبيع مع "اسرائيل".
لكني مع كلّ ذلك، استطعت أن أنشر داخل العراق وخارجه، حوالي " 35 " كتاباً للأطفال، وأكثر من " 1700 " قصة وسيناريو ومسرحية ورواية للأطفال والفتيان، بينها أكثر من " 270 " مسرحية للأطفال والفتيان، ولي تحت الطبع، في دار البراق لثقافة الأطفال "، التي أصدرت لي ستة كتب عام " 2013 "، وأصدرت لي ستة كتب أخرى هذا العام " 2014"، رشحت في القائمة الطويلة لنيل جائزة الشيخ زايد لكتاب الطفل، ولدي في دار " البراق " عشرة كتب، ستة للأطفال، وأربع روايات للفتيان.
كما أنني، وبفخر واعتزاز، أستطيع أن أقول، إنني وضعت اللبنات الأولى لأساس واعد لصحافة الأطفال في محافظة نينوى، ابتدأت بزاوية ـ نصف صفحة ـ للأطفال في جريدة "نينوى" عام " 2000 "، وفي تموز عام " 2003 " بعد التغيير، أصدرت أول مجلة للأطفال في العراق، بالتعاون مع مطبعة الزهراء في الموصل، وتلاها ملحق جريدة عراقيون "براعم عراقيون" الشهري عام " 2004 "، وتتالت زوايا متعددة في صحف ومجلات موصلية منها، جريدة الحقيقة، وجريدة المسار، وجريدة دجلة، ومجلة الأسرة والطفل، ومجلة زرقاء ـ نت، وغيرها، وفي عام " 2010 " أصدرت مجلة " ينابيع " بالتعاون مع جريدة عراقيون، والآن، وعن المركز الثقافي والاجتماعي، صدرت مجلة واعدة للأطفال بعنوان "بيبونة"، عمل معي فيها نخبة من أدباء الموصل، المعنيين بأدب الأطفال، من بينهم الكاتب المسرحي الكبير ناهض الرمضاني، والأستاذ فارس السردار، والدكتور أحمد جار الله، مع نخبة من الفنانين يأتي في مقدمتهم حكم الكاتب، وليث عقراوي، ومحمد العدواني، وعمر طلال، وقد صدر منها عددان، وأعددنا العدد الثالث لكنها توقفت عن الصدور بعد احتلال داعش الكارثي لمدينة الموصل.
وخلال مسيرتي الطويلة هذه، حصلت على العديد من الجوائز العربية والعراقية، في مجال السيناريو والمسرح، كما كرمت مرات كثيرة، من أطراف عديدة، من داخل مدينتي الموصل، ومن بغداد، كتبت عني وعن أعمالي الكثير من المقالات والبحوث، كما اهتم بها طلبة وطالبات الدراسات العليا، فكتبت عن أعمالي القصصية ومسرحياتي للأطفال والفتيان العديد من رسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه.
وما أقوله في النهاية، إنني كنت وسأبقى سعيداً، لكوني واحداً من كتاب أدب الأطفال في العراق، وسأبقى كذلك حتى النهاية.