ادب وفن

جثث النفايات أم نفايات الجثث؟! (مقطع من رواية) * / مصطفى محمد غريب

كان الظلام قد خيم على أجزاء واسعة من المرتفع المملوء بالنفايات وأجساد آدمية، كان جسده مرمياً عليها، ببطء عرف أن قنوطه ملزم ومتناقض كما كل شيء في الحياة وكانت أطرافه باردة وبدأت تثلج وأصبح خشبي الإحساس، أراد أن يحرك نصفه الأيسر فلم يطاوعه وبقى متمرداً لا يستجيب حاول أكثر من مرة لكن محاولاته باءت بالفشل واشتد الظلام وبقى جفن عينيه مستسلماً للإغلاق تشجع أن يتذكر أحزانه فلم يفلح فالحزن أصبح لصاً مُطارداً لم يشكل عنده شرخاً يحرق مشاعره كالسابق بل الذي احتل مكانه فرح غريب في متاهة لا حدود لها ، فرحٌ بدون أي مقدمات ، كان يجتاحه مجرد فرح حينما تمطر السماء أو تشتد الريح أو يرى فتاة جميلة تمرق كالسهم، حاول أن يتخلص من خدرٍ اخذ يسري وأصوات تتداخل معا ،حاول تمييزها ليوفر عليه عذاب البحث فلم يستطع أن يفرزها لكنه ظل معلقاً بهدير خفيف يخلق فيه ارتجافاً بين الفينة والأخرى، كان يتصور جسده الملقى على كوم النفايات المنتشرة على ذلك المرتفع وكأنه ورقة تبغ لها رائحة الدخان الذي يتصاعد من سيجارة قديمة رطبة، جسده بقى يتراوح بين الرجفة والرعشة والخدر لم تكن عيناه تدققان ما حوله فالظلام هو الظلام والسكينة راحت تلغي الهدير الطفيف وتلغي كل ما كان يحس به من فرح احتل مكان الحزن القديم وحاول التشبث بالحلم الذي أصبح خيوطا هلامية سرعان ما تناثرت بدون أي اثر أو ملامح، ذكرياته لم تعد ذكريات، جاهد باسترجاع صورة واحدة عن طفولته لكنه ظل يصطدم بالمبهم واللا شيء، لا شيء يشعره انه مر بمراحل عبر محطات عمرية عَبَرها بغثها وسمينها، وألح متضرعاً ـــ واحدة فقط، محطة منفصلة، وجه يذكرني بالوجوه.. لكن دون جدوى ودون أن يتصل، فهمد بدون هذا أو ذاك فقط نطقها قائلاً
ـــ يا للسخرية من كل شيء.. هكذا الحياة كأنها شيء هلامي تراه ولا تراه.. تعطل فيه الإلمام بالموضوع بشكل سلس لكنه عاد بحنين الذكريات ــــ أرقام تبدأ من الصفر حتى الرقم الأخير الذي ينهيك فتصبح كما كنت صفراً، وفجأة سمع همساً بعيد يطرق طبلتي أذنيه " ــــ هذا منهم يظهر من اسمه يجب التخلص منه" عالجته ضربة موجعة من قضيب أو أخمص رشاش ، صار الهمس حشرجةً " ــــ تخلص منه رأسه كبير يستاهل التفجير" كان الضرب كأنه طرق لطبلٍ أجوف، جاهد ليبتسم فأمتلأ وجهه بنوع من ملامح وجه مبتسم على الرغم من الخمود المائل للبلاهة والتيهان والاستغراب.. ملايين الذباب والبعوض والكلاب والقطط والفئران تتربص الجثث التي تلقى للتدريب على توزيع الحصص التي وضعت في خانات العقول التي تبث الظلمة وتتنازع من اجل المتعة، بدون مقدمات ولا إحساس بالرحيل انطفأ الضوء وانغمس في لزاجة شيء مُخَمر كرحلة لا قرار ولا نهاية فيها..
* * *
لم تكن غرفته في الحي القديم إلا صومعة ذات إبعاد غير متساوية يدخلها في صمته المعهود، يخرج منها راكباً هاجس الصمت فاراً من هواجسه التي تشبه فقاعات هوائية سرعان ما تنفجر بهدوء دون ضجة، لطالما جلس على حافة السرير بعد عودته تستفزه مشاعر البعد عن الواقع ليعيش في عالم اللامعقول لكنه سرعان ما يهبط ليوميات وضعية تنهشه كضبع ينهش لحم فريسته المتعفنة، لقد اكتسب عادة الحديث مع نفسه بشكل صامت أو بصوت منخفض عندما يكون لوحده حتى أثناء المشي في الشوارع والأزقة أو الجلوس في الاماكن العامة وكثيراً ما كان يسأل ويجيب كشخص ثان ويحاور فيما يطرحه ،أما في غرفته فهو يعيش على حوار داخلي وخارجي ولم يكن يوماً ما قد فكر انه مريض بمرض انفصام الشخصية " الشيزوفرانيا" وكان يتلذذ بالحوار ليتخلص من هاجس التعقيد بالوحدة والاغتراب، واليوم احتار بماذا يفكر، عشرات من صورٍ لذكريات تمر كالشهب وتنطفئ في دائرة ضيقة كأنها دهليز من رخام حار مطلي باللون الأسود، لا يعرف كيف يمر الوقت ولا عرف يوما مقدار أهميته عندما يتعلق في رحلاته المكوكية التي ابتلي بها كمرض يصعب العلاج منه حتى يتساقط متهالكاً عندما يجد أن كل رحلاته تعود لنقطة الصفر الذي انطلق منها..
الآن لا بل في كل الأوقات جالس هو وحده أمام صورتها من الحجم المتوسط المركونة على رف صغير ما بين الحاسوب القديم الذي ضاعت ذاكرته والتلفزيون الصغير الهرم الذي أصبح قاعدة للصفع كي تثبت صوره المتقلبة، بوجهها الباسم وعينيها الغامزتين ذات الحول الخفيف وفمها الصغير الناعم وشفتيها المنفوختين والمفتوحتين قليلاً وحنكها الطويل، وجه فيه تباشير الجنة وجهنم حمراء.. السنين تمر وهو جالس أمامها ينفخ في أوردته فقاعات من ذكرياته وتخيلاته، لا يبرح مكانه إلا مضطراً لقضاء حاجة أو تناول كتاب، سمع أنفاسها الحارة اللاهثة قائلة " ـــ الطريق مسدود لا أمل كل شيء مغلق وأنت سلبي لحد النخاع، إلى متى؟ سألتك مليون مرة إلى متي؟ وها أني أمامك واعرف بأنك لن تجيب على سؤالي التاريخي" ظل قلقاً لا يحرك ساكناً وهي تحمل حقيبته السوداء الفقيرة جداً ورأى شعرها يتحرك بعفوية على كتفيها عندما صفقت الباب خلفها بقوة الضياع عند ذاك قرر الرحيل من سكنه الذي قال عنه " انه بيت لا يمكن إلا ويذكرك بالشبح!".. يجلس ويتتبع ، يشاهد نفسه في الصور القديمة يتصور نفسه في زمن عجز في ألوانه وساعاته بل انه الزمن نفسه مشحون في مخيلته بدون تغيرات خارجية أو داخلية إلا انه يفزع لمجرد مروره أمام المرآة الطويلة المعلقة في الممر الطويل المؤدي إلى المرافق الصحية فتنبسط أمامه تجاعيد وجهه الأسمر الداكن الذي أصبح أكثر سواداً بسبب ارتخاء قسماته، لقد أصبح وجهه كوجه فرس النهر الذي لا يفارق الماء، يخرج من غرفته إلى العالم الخارجي وسرعان ما يعود تعباً وتعيساً بعدما يتوغل إلى داخله توجس من وجوه تمر به وكأنها أشكال طينية بعيون تبحث في كل الاتجاهات وتحملق بشدة ببعضها البعض، أو عبوة ناسفة مزروعة على الرصيف أو بجانب الشارع أو في صناديق القمامة ومن السيارات المفخخة المتنوعة وانفلات الهمرات الأمريكية ورصاصها الطائش أو من تلك الأشكال السوداء الملثمة الوجوه والمدججة بالسلاح المتنوع تطلق الرصاص كيفما اتفق وبدون تحديد الهدف ،أو عمليات الخطف ورجال بملابس الشرطة والمغاوير المرقطة التي تذكره بالحروب السابقة يتدفقون إلى الدوائر والبيوت لا تعرف إلى من ينتمون، وجوه مخيفة مقززة تعلوها الكراهية والحقد وهي تلف جبهاتها بعصائب خضراء.. العالم الخارجي عن غرفته الذي يعج بالسابلة والضوضاء والاندماج الاجتماعي الذي يلبي رغبة الهاربين من جحيم الانعزال ويدفعهم نحو عالم غير رتيب تملؤه المفارقات تحتاجه الأكثرية من الناس..
ـــ إلا أنا..
قالها بتأنٍ وخمول مفرط، كثيراً ما يدخل في نقاش مضنٍ مع نفسه ويعيش هاجس ورشة العمل التي تناقش الإخفاقات والمنجزات وبهذه الطريقة يتآلف مع الوقت ويعم حاجز الخوف من العالم الخارجي
ـــ أحبُ طراوة الحديث فيما يخص المخاطر التي تتربص بنا عن طريق الموت المفاجئ.. لا عفواً القتل المفاجئ الذي يدخل في لحظة لا على البال ولا على الخاطر يحييك بطريقة ساذجة لكنها رعناء.
ليس بالمقدور محاسبة ما يدور من حوله أو وضع علامات أو إشارات للحدود التي يجب التوقف عندها وعدم تجاوزها..
ـــ هنا المجاملة خطرة والحديث ليس عن الإقدام والخوف بقدر ما أنك تفقد رؤيا العبور ما بينهما فلا توجد حدود ما بين الإقدام والخوف كلاهما متداخل متناقض في الوقت ذاته.
حدد طريقة وحدته التي ابتلت به وابتلى بها فقد الزمه هجرها بدون أية مقدمات وعمله الوظيفي اليومي بالتخطيط المستقل عما يرغب فيه من لذة أو الخروج عن المألوف وكان يجد لذة في حواره مع نفسه أو مع وجوه هلامية تزوره كلما يطفئ مصباح غرفته، يغلق أجفانه فتزوره ضاحكة ومبتسمة، رقيقة وسمحة لكن سرعان ما تتغير إلى وجوه غاضبة وشرسة ومقرفصة. يتحدث معها ويطالبها بالكف عن العدوانية والعودة إلى أصلها الإنساني.
ــــ ليس لأحد أن يفرض على أحد خصوصيته فنحن ووجوهنا المستقلة نتآلف ونتناقض كما هي الحياة وعليك فقط الاستسلام لفكرة الاستقلالية التي تنفرد بها، أليس أنت المستقل المنفرد والمنعزل في الدائرة التي تعمل فيها؟ لم يطلب منك أحداً أن تندمج معه أو تتمازج مع أفكاره كل ما في الأمر أنك قد تركت نفسك كما يحلو لك الوضع! ألست أنت الذي لم يجب على سؤالها إلى متى؟ مع العلم وببساطة تستطيع الإجابة بسلبية أو ايجابية لكنك كالأفعى بقيت تزحف وتتحسس بلسان مليء بالمشاعر! قل أليس ذلك صحيحاً أم ماذا؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* رواية "متاهات - الخروج من الشرنقة"، للشاعر والكاتب مصطفى محمد غريب، صدرت حديثا عن دار نسيم للتوزيع والنشر في القاهرة