ادب وفن

رحيل وتسامي ..سفر الفنان رزاق شناوة الأبدي / جاسم عاصي

هل هي مصادفة ؛ أن تفقد المدينة العريقة بفنها الأزلي داخل الأزمنة، فنانين مهمين وبارعين "كمال خريش، رزاق شناوة" ولأني لم ألتق بكمال بسبب هجرته المبكرة. لكني كنت أسمع أخباره المدهشة في حقل الفن من أخيه القاص محسن الخفاجي لكن رحيل "شناوة" سبّب لي صدمة نفسية، تلبستني لوقت لا أستطيع حسابه، ثم تحوّلت إلى عتاب معه. كنت أدير تداعياتي الذهنية تحت وقع الخبر، لأني لم أستطع البكاء لحظتها مكابرة من يجاورني في الجلسة، فقد قلت لنفسي موّجهاً الحديث إليك : لِمَ فاجأتني بالرحيل، فقد ادخرتك ليوم رحيلي، الذي أنا متأكد منه، ستمسك بريشتك ولوحك لكي تتذكر ملامحي من خلال لوح ذاكرتك. كيف استطعت أن تحرمني من نعمة طالما حلمت بها، أيها المبجل، الرشيق والوسيم، ذي الحياء الملفت. تدخر عبراتك، تلملم تقاسيم وجهك، لكي لا تفرط بمشاعرك نحوي، لكني أعرف جيداً أنك تدّخر الكثير، فأنا أقرأ حال اللقاء في زمن عسير كهذا، الذي حرمنا من لقاءات تعبّر عن هموم وانشغالات ابداعية، كنت أخاف عليك من ضياع الزمن ولا أتوجس اقتراب الموت منك ، أخاف من شدة قسوته على من مثلك. فأنت لا تتمكن من مجابهته بالثقة، فعودك السيسبان أرق من ان يكون طعماً لهذا الزمن المر. تنظر الي حال نلتقي، كنت صامتا. وثق أني كنت أسمع عبراتك التي لا تنطق بها، فأحس بالكثير يجمعنا، وتخطيطاتك تلملم تعثر خطواتنا في الزمن، أقلّب كل الأوراق التي شغلتها تخطيطاتك بالأسوّد الباهر. الأسوّد الذي يحتوي كل الألوان الإنسانية في لون، ليس حزيناً مع ذاته، بل حزين على ما وصلنا إليه مرغمين. .. صديقي وأخي وخلي "رزاق شناوة" كم كنت أحلم أن أراك، لكن، بين كربلاء والناصرية امتد حقل الشوك، باعد الزمن بيننا لأسباب وهمية ليست من صنعنا، هي جزء من عجز الزمن عن التوّفر على فرص لقاء الأحبة. قبلك الفنان فائق حسين ذهب ولم يوّدع أحداً، بل ترك الغصة تملأ الأفواه، لحقه كاظم الخالدي فنان المسرح الباهر، ذي الهم الفكري الوقاد، ثم تلاه الأخوين أحمد الجاسم وحيدر الجاسم كما حدثني الشاعر حسين عبد اللطيف في فتى من أور، الفنانة أختهما رملة الجاسم. أي فجيعة رأيت وعشت، كنت آمل بكم من يرثي رحيلي، لكني أرى أن لا أثر من بعدكم يؤدي رثاء الضائع في صحرائه، كنا جميعاً تفصل بيننا مسافات قصيرة جداً، كنا نلتقي في بروفات مهدي السماوي، وفجأة تبعثرنا، بينما بقينا وإياك كل في بقعة بعيدة عن الأخرى، شغلنا الزمان والمكان من مثابتنا، ولم يتم الحوار بيننا إلا في زمن متقطع، هو بمثابة لقيا عثر عليها المنقب في أرض بوّر، عثر على ماسة، وأنا أجدك أكثر من هذا. ما زلت أتذكر وجودنا في مكتب أمير دوشي للترجمة، وكيف سلمتني تخطيطاتك، وسلمتك كتابي أسئلة الثقافة والمعرفة. لحظتها قلت جملتك القصيرة على استحياء ممزوجة بفخر طاغ : أنت مثابر في كل مرة تفاجئني بجديد. وها أنت تُدهشني بجديدك. لا خلاص منه، جديد سوف لا يُعيدك لي من خلال متعة اللقاء. .. ألو. . أهلاً. . لقد هاتفتني، وتركت خبر رحيل شناوة. . كذا. . رحت اقلب كل من له أسم أبيه شناوة، لكي أعرف من الذي رحل هذه المرة في غفلة مني. ..ألو. . من يكون يا أخي . .. ألو أنه رزاق شناوة. ..!؟ هل كان مريضاً ؟ لا أدري. صُقعت ولم أستطع المطاولة. . فقط قلت : رحلوا جميعاً، فمن لنا غيرهم في هذا الوجود الغامض والمفجع. .. رزاق يا خلي لا يُثرك عتابي، فهو صدر من محب، أنا بحاجة لمعرفة ما رسمت كما وعدتني، معرفة كل شيء عن خطوتك الفنية طيلة أكثر من أربعين سنة منذ افترقنا، ها أنت توصلها بسني الانقطاع الدائم. ..رزاق ها أنا معتن بتخطيطاتك، ولي من انثيال ذهني الكثير، أعدك بأني سأندمج معها حد أغالط من ينظر الينا، لكي يُميّز من منا جاسم، ومن من الاثنين لوّحة التخطيط فتبرز هيبتك بيننا لتقول الكثير الذي لم يُقل، إني أرى نفسي ووجودي في تخطيطاتك، فهي ما بقى لي زاداً من أيامي الخوالي. لا. .. أقول وداعاً، بل إلى اللقــــــــــــاء.