ادب وفن

الحلم الذي اثقل كاهلي (6) .. الحلقة الاخيـــــــــــــــــــــرة / مزهر بن مدلول

البيــــــــــــــضان
كانوا يظنون بأني عارف بكل شيء، وقادر على التنجيم بأكثر من طريقة، وانّ السنوات التي امضيتها في الاحراش والجبال اشرب الماء في قحف جمجمة!، لا بدّ وان منحتني هذه الجدارة الفريدة التي لا يستحقها من لم يشذ عن قاعدة تنفيذ الاوامر!.
لكنّي خيّبت ظنهم، عندما واجهت اسألتهم من غير اكتراث ولا انتباه، فالذي كان يشغلني في تلك الساعة، هو ان اصعد على غصن شجرة، واتأمل البيوت والسواقي وكلّ ما من شأنه ان يحفر بأزميل في جسد الماضي ويعيد لي شيئا من بريقه!.
كنت احلم بأن افترش العشب تحت ظلال شجرة التوت، لأستمتع بمنظر العصافير وهي تتقافز من غصن الى غصن وتتشاجر على حبّة نضجت مبكرا!، فأخذني المشهد الى عالم الخواطر، عالمي الخاص الذي ظلّ يصارع النسيان وعاش في رأسي لمدة خمسة وعشرين سنة من دون خدوش!. لكن اين هي شجرة التوت؟، ولِمَ لا اسمع خرير الساقية؟، والى اين غادرت العصافير!؟، وبستان أبي الأخّاذ، لا يرعى فيه سوى حمار هزيل!.
بيوت قريتنا تمردت عليها عاصفة الزمن فغيرت اماكنها وبدلت ملامحها!، فتحولت الى ما يشبه غرف المهاجرين الذين يسكنون بالقرب من معامل الطابوق!. ترى هل خطر لي في يوم من الايام ان اجدها وقد تخلت عن اسوارها القديمة!؟، أم أني ما زلت نائما في حماقتي ولا ادرك بأنّ كلّ ادواري التي اديتها، ماهي الاّ عبارة عن ألعاب بهلوانية لا تبهر سوى الصغار!.
جفّت الانهار، وتوقفت ضحكات القناطر. بئر صالح الذي تعلمت فيه السباحة، هاجرت ضفادعه بعد ان انطمر تحت التراب، وبستان حامد مازالت تستوطنه العفاريت ولا احد يستطيع الاقتراب منه!. ذهبت الى اشجار الأثل العملاقة، فوجدتها الوحيدة التي ظلت على حالها كما لو انها شجرة (ام النذور) في قصة عبد الرحمن منيف!.
تعرضت قريتنا لشراهة الاهمال والرمال، ولم يبق منها الاّ اسمها. قيل انّ (آلهة الاولمب) اجتمعوا في باحتها ذات ليلة، فتشاجروا في ما بينهم شجارا صاخبا، وكان إله الحرب (أريس) الذي وصفه هوميروس بأنه لعنة على البشر، يصرّ على تسميتها بقرية (السودان)، الاّ انّ رب الشعر والموسيقى (ابولون) استطاع ان يفرض جماله فاصبح اسم قريتنا (البيضان)!.