ادب وفن

كم ليلاً = غابة؟! / مقداد مسعود

جبار الكواز هو الذي يقول الأنا ويعني سواه وهو المجبول من الغرين وحمامة الروح وهو الذي لا ينام إلاّ ناشئة الليل ثم يوقظه فرح ُ ندي فيهرول متأرجحا نحو سيدة الفجر ثم يتشظى فرحا بين ثريا كتابات متعقبا ثريا الأنهار ليحط رحاله وراحلته لدى آخر جسر ٍ في العشّار وحين أسأله عبر الموبايل: يا كواز ما الفرق بين ورقة الحلة وأوراق الحناء؟ فيغني لي: أحيى وأموت ع البصرة ..وأنت تدافع عن ظل أيها الكواز الشاعر كم المسافة بين ضيق الغابة وسعة الظلال؟ ومن هذا الذي لا يشبهه سواك ولا تشبهه؟ ويضحك في مرآة بلا بورخس ..؟ وهل يمكن
أيها الجبار الكواز أيها الشاعر الصديق والإنسان الفذ: أن يكون كلامي بدون اعوجاج وأنا أقطف من بساتينك الثلاثة :"ورقة الحلة، مَن الضاحك في المرآة ؟ ما أضيق الغابة ما أوسع الظلال !!".. ولا يفضحني ضعفي ..
(*)
هندسة ورقة الحلة وأعني الصفحة المطبوعة في "ورقة الحلة"
* مستطيل أسود أفقي تخترقه عنونة بالأبيض
* مستطيل أبيض عمودي كأنه سلم من الكلمات
* يمين العمود الأبيض تنتصب قصيدة قصيرة
الثابت هو المستطيل الأسود والمتغير هو العمود الأبيض: يقصر ويطول .. أو يستلقي في نهاية القصيدة .. أو يتماثل أفقيا مع المستطيل الأسود..
وهذه الهندسة تتواصل مع معظم نصوص الشاعر
(*)
ندخل من باب عشتار ونطوف في خرائب بابل بمؤثرية الراهن بعين القناص / الكواز جبار وهو يبكيها كلمّا كليما..
"غاباتها قمامة ُ
وثمارها صبية ُ يتسولون
أفقها موتى يتسامرون
ونارنجها رماد وشظايا
كيف يغنّي الموتى في مشرحة العياريّن ؟
والأشجار رحال ٌ
سرقه ُ البدو
كبدر في الصحراء".
نلاحظ أن الاستعارات واخزة جدا مثل صورة فوتو تقنص ما يفضح مكياج السلطة ..وهنا في هذه القصيدة أن الانزياح هو المولّد لهذه الصوّر الشعرية الجائرة
فقد استبدلت الأماكن والأشياء وظيفتها الحقيقة :
لم تعد الغابات سوى مطمر غير صحي للنفايات
والغابات هنا لا تذكرني بغير شجر الزقوم ، لكن الكواز الشاعر ترفأ بنا، فجعل ثمارها لا تتدلى بل تتحرك بجهوية رثة "ثمارها صبية ُ يتسولون" ونارنجها وهذه المفردة لها وقعها الخاص منذ طفولتي وحاولت الوفاء لها قبل سنوات فأطلقت "شمس النارنج".. وماء زهور النارنج تنعش الذاكرة وتسحب المغمى عليه من الموت وتعيده لوعي الحياة فالمتداول بين الناس ان ماء النارنج هو روح الحياة
فمن سلب كينونة هذا الكائن النباتي ومسخه وبشهادة الشاعر "ونارنجها رماد وشظايا"؟! بل يندب راهننا الرث بطريقته الفذة فالقمامة لاتوسق الأطلال فقط بل تشمل فضاء العرض والطلب اليومي ..
"آسِنة ٌ ضفافه ُ
الحالم ُ عود ُ ثقاب
والخارج ُ محض ُ سراب".
إذن نحن على عتبة جحيم دانتي بطبعته العراقية ..
والسوق في حالة انتهاك يعلن ذلك قول الشاعر، والليل هنا على مستوى الشعري فقط هو نائب فاعل وليس على المستوى النحوي:
"فالأقفاص هرّبها الليل
وخلّى في المحنة ِ هذي الناس".
وما بين أسطر عتبة الجحيم العراقي والانتهاك، يشهر الرائي: سؤال التغيّب
"أين مضى الحرّاس؟".. إذن من هذا التغيّب: تسللت سيادة الخراب الوطني ..
والخراب .. وسيطلق الكواز الشاعر كلاب صيد تصطاد الخونة
"الأبواب التي تتكئ
على رقم الطين
جندلها،، خمبابا ،،
وقدمها نخبا للغزاة
فصارت دربا للمهربين
ومنارة للمفسدين -
وعذرا فهنا أكون مع لغة معلوماتية ، خارج لغة الكواز الشاعر .. التي تنبجس ساخرة من انقلاب الموازين فتحاكيها ساخرة:
"لم يعد الأحمرُ أبيض َ
ولا الأبيض ُ اسود َ
ولا الأخضر احمر َ
ولا الأسود ُ أخضر َ
يا ابن سرايا / الكلام لؤلؤة ٌ مشظاة
والصمت غابة ٌ عرجاء
والعيون سؤال أخرس
وما قلته محرّم ومدنس ٌ كالحليب
مرٌ كالعسل
وحلوٌ كالحنظل.
(*)
والكواز الشاعر مهموم بمؤثرية سرديات الزمن في الإنسان والمكان والأشياء ،يلتقط لحظة ويقلّبها بين يديه كلقيا ولأنه لا يكتفي من الخطوط بالمستقيم فهو يرى تنويعات الصفات في الواحد، بل يرى وحدة الأشياء وصراعها فالدقائق : تقاس بالضوء ونقيضه وبالطول والقصر وكل صفة بموصوفها الخاص
"مضيئة كضحكة طفل
مظلمة كاحتراق خطى
طويلة كانتظار مكتوم
وقصيرة خلف دويّ الطلقات".
ولا يكتفي بذلك فهو يشاكس النحوي بالشاعر في عنونة أحدى قصائده "الفاعل منصوب والمفعول به مرفوع".. وهو يعي جيدا ما يقول فالأشياء تضطرب في سنوات الحرب بكل أظلافها أما في قرارة السلام فالسيادة للمنفعة العامة وليس لأمزجة الكراسي:
في زمن السلم
تكون الإبرة إبرة
في حافظة الخياط
أو ياقة رواف
في المدفع أو في القنباص
في كف طبيب
أو في خاتمة الزنبور
لا رمز لها إلا في نفع الناس".
(*)
نصوص الكواز هنا لها قدمان وعينان ومن خلال هاتين الحركتين نتجول ونطوف وتتكشف لنا المدينة فنحن نتجول فيها ونطوف بمعية ولدها البار المعتق كنبيذ كنائسي ..نغادر مدرسة لندخل سينما ونطوف لندخل جامعا أو جامعة ..
والشاعر لا يكتفي بالرؤية بل يخون أسرار عينيه ويعلنها
"حين عرق الحصان الخشبي
من لهو الأطفال
جففته الأشجار
بظلالها"..
(*)
الكواز الشاعر جبار : كتب الحلة مساءلة في هذا السفر الحاد والخلية الموقوتة في ورقة الحلة لا سؤال الغياب بل سؤال التغيب :
أين هي الآن؟
في المسجد
أم في الملعب ؟
في الشارع
أم في القفص ؟
والشاعر الكواز لا يسأل عنها وبشهادته هو
"لا سؤال سواها ولا جواب بغيرها ".
وبدون حياء أقترض من الكواز الشاعر وأتوعده ..
"ثمة من يصنع الشروق
ان حياة تولد من حبة قمح
أو ضحكة طفل
أو دمعة يتيم
أو موعد عشاق .."
ولا حيرة في الأمر أيها الشاعر وأنت تقضم التفاحة لاعليك بحواء ولا بنيوتن .. فالتفاحة التي بين يديك من ملكيات ما تقضمه أنت وحدك.. وأنت تدري جيدا.
"المدن التي تتشح بالسواد أتقنت صنع البياض / .. وأني لأخاف على أخطائك الذهبية من ذباب الصاغة ولحى الخيميائيين ،أنهم يكيلون قيراط هواء بقيراط دم والبكاؤون في الجب لم يذرفوا دمعة واحدة فقد ارتووا بالدم..أما الذهب ، فلطالما لمع الذهب نكاية ً بقارون".
أملأ الليل َ : ضياء ً
ولا حاجة لي بقمر ٍ ضجر ٍ مل َ حراسة ِ
النائمين .
فغفى مُلتحِفا غيوماً سود ..
أملأ عيون الأزهار ِ بالندى
أسحب ُ شموساً
لأروي عطش النخيل ..