ادب وفن

هادي الربيعي.. الشعر والزمـــن الخاطــف / جاسم عاصي

في رواية" الأخوة كارامازوف" لفيدور دستويفسكي؛ ظهرت لنا شخصية الأب" زوسيما" وهو يقدم اعترافاته أثناء احتضاره أمام" إليوشا" في الكنيسة، أمام أحد أفراد الأسرة، ذي الميول اللاهوتية من دون كل أفراد أسرته. والأب هذا شخصية حقيقية، أراد لها الكاتب أن تكون دالة تفتح طريق التعبد والتوجه الديني المسيحي في الرحيل من الدنس إلى الطهارة. وله حكاية من بين حشد من الحكايات التي سجّلت تاريخه منذ أن كان مواطنا ً إلى أن أصبح قسا ً، وتدرج حتى وصل راهبا ً وأبا ً. وهذه الحكاية، حدثت له إبان زمن روسيا القيصرية. إذ حدث أن بدأت مراسيم إعدام أول مواطن روسي أمام حشد من الروس. وقد حضر القيصر بنفسه إلى مكان الإعدام، ليطلع على ما يحدث أثناء هذا الفعل الجلل الذي جوزته القوانين آنذاك. وصادف أن رجل الدين الذي حضر مراسيم الإعدام كان الأب" زوسيما" حيث كان راهبا ً آنذاك. وروي أنه أدى المراسيم على وفق العُرف الكنسي، بعدها سجد أمام المحكوم بكل جلال. ونـُفِذ َ الحكم، ثم انصرف الجمع، بينما اقترب القيصر من الراهب، وسأله بدهشة : لماذا سجدت يا أبتي لهذا الرجل المحكوم. .؟ فقال بالحرف الواحد : إني لم أسجد له، بل سجدت لآلامه...!

لا شك انه يعني بسجوده إلى الزمن الخاطف أو المتبقي من العمر. وهنا يكمن السؤال، بأن افترض الأب أن هنالك شقاء جرى، شقاء ذهني، لكنه أقتصر على زمن مقتطع. ربما هو دقائق، أو ثوان. لا يدري بذلك سوى صاحبه. ولو شاء أن نوقظ كل من رحلوا، فهل يجيب أحدهم عن ذلك. السؤال يا هادي يا بن كريم حسين : ماذا تراءى لك في ذلك الحيّز الغامض. لقد وضعنا الأب زوسيما في الحيرة، ولم يُثر سوى السؤال، حين افترض العذاب..! العذاب من أي شيء..؟ ِ أمِنَ الخطيئة لوحدها، والتي جمعتها كثرة في واحدة..؟ ماذا رأيت؟ أو أحسست؟ هل ارتبكت وشـُلـّت قواك؟ وأمام أي قوة عجزت عن المقاومة؟ هل شعرت بخطيئة الوجود. وهل لعنت لحظة مغادرتك رحم الأم، فقد كنت تـُردد وأنت على تلك الحال التي بدأ جسدك يذوب خلالها كما الشمعة... ربي أمتني قبل أن تـُمسكني يد الذل لأحد... وأقول لك الآن؛ فقد اكتفيت بكل ما قدمت لك الدنيا من دهشة مرّة. وبكل ما منحتك من عطاء، أردت أن تمنح الحياة لأقرب الناس إليك ، فانقضَّ القدر على جسدك بقوة وبسرعة أوان. .!!؟ كان متعجلا ً يا هادي..؟ أم كان بطيئا ً..؟ بهذا سأجيبك: كان بطيئا ً، لأنه كثـّف رؤاك في زمن قصير، زمن لا شعر فيه، زمن قيّد أناملك عن قول أنقى الكلام وأسرعه في البوح. لقد كتبت دواوينا ً، غير أنك لم تدونها على الورق. أصبح لك الوجود بمثابة شعر كوّني، لأنك شاعر حقيقي، أخلصت لفنك ورؤيتك للوجود. وآمنت أن لا شيء باق سوى وجه الله، وتقصد وجه الشعر وصيرورته التي لا تجد من يعترض طريقها، أو يزوق حقلها سوى نقاء الورق. أنا أذكر بهذا الشعر النقي، الذي يصدر من رئة وأحشاء إنسان هو أقرب إلى الشعر من كل ظواهر الكون. الإنسان القصيدة التي لم تـُدوّن بعد، بل بقيت وستبقى معلقة في السماء.
لم تجبني يا بن كريم حسين، وأنا خلك منذ أربعين سنة، تقاسمنا أكثر الحالات ضراوة... لم تجبني. لا لأنك تبخل عليّ بذلك، لكنك في حيرة مما سوف تقول، وبحرج مما ستقول. أيعقل أن يكون لا شيء قد انتابك لحظتها، وأنت ترى ذلك الزاحف نحوك. على عجالة أو بطء، المعنى أنه أخذ يزحف..! ما هو؟ قل لي بالله عليك؟ أما تقدر؟ ولا أنا بقادر عليه؟! إنها محنة بالتأكيد ؛ أن يكون آخر الأسئلة بلا جواب.، حيث ستصطف الأسئلة مرارا ً عن كل راحل، ولا جواب. يا بن كريم حسين، يا خلـّي أتكون مجسِدا ً بصمتك هذا مشهد المسيح؟ لكن السيد الكبير قال كلاما ً ذا معنى. . خذوا الخبز فأنه جسدي، والنبيذ فأنه دمي. لقد انصاع إلى الأسطورة في آخر المطاف، وتشبث بعناصرها في الوجود، جسدا ً ودما ً، حيث توالى التاريخ في تنفيذ طقس التقدمات. فلم تجد بدا ً من تقديم جسدك قربانا ً لغيرك كي يحيى. تعذبت، ونلت من الشقاء ما استطعت فحق عليك الرحيل بطيئا ً.. بطيئا ً.. ووحيدا ً.. وحيدا ً، تأنيت في استقبال اللحظة، وبطيئا ً كنت تحاور المكشوفة عنه الحُجب، ووحيدا ً سرت على قدمين غير مرتبكتين إلى المدفن. نحن نحيط بك، لكنك كنت تـُحيط بنا جميعا ً لحظتها، فقد اتسعت رؤيتك. اتسعت رؤى ورؤيا الشعر لديك، فجانبت مقتربات العالم من حولك، تركت الحيّز لك وحدك لتقول: خذوا من جسدي ودمي العِبرة، فانهما زاد الموقوفين في الوجود، المرهونين في ملفاته النامية كالدغل البري، لا يدرون إلى متى وإلى أين. أسئلة لا يتمكن أحد من الإجابة عليها، لأنها من جمال وجودنا وسحر صيرورته المتركزة في الغموض الأبدي، فهو سر الشعر الذي تكوّنت منه يا بن كريم حسين.. يا هادي الربيعي. طوبى لك، وطوبى للذين سبقوك مكرَهين دون آباء يرعونهم، ولا أمهات تـأخذهم في دفء أحضانهن. . طوبى لك. . طوبى لك يا أيها الشاعر، فأني أشهد بأنك صبرت، وأعطيت وكتبت وفعلت، لكنها اللحظة الحاسمة التي لخـّصت كل السنين التي عشت، حيث عجزت كغيرك عن الإجابة على سؤالي، فأبقيتني أعيش زمن الانتظار لاستقبال ما أنا مكره عليه كما الآخرين.. طوبى لك يا هادي الربيعي ؛ فجسدك خبز ودمك نبيذ، منحته شعرا ً للآخرين.