ادب وفن

جماليات التسريد في الرواية الوثائقية / عبد علي حسن

تعد الرواية الوثائقية واحدة من الأنواع الروائية المهمة التي لفتت الأنظار إليها منذ خمسينيات القرن الماضي، ولعل وراء هذا الاهتمام عاملين، الأول هو ظهورها بعد الحرب العالمية الثانية معتمدة الأحداث الجسيمة والكوارث الاجتماعية التي جاءت بها الحرب كمادة حكائية بعد أن وجد الكتاب إن ما حصل في الحرب من أحداث يتصف بالغرائبية والعجائبية ما يفوق القدرة التخييلة لأي من الروائيين، والثاني هو ما تمكنت منه الرواية الجديدة في فرنسا من زحزحة وتجاوز للرواية الكلاسيكية والرومانسية والواقعية. ولعل ما نبهت اليه الرواية الجديدة هو خلخلة النظم الروائية السائدة واجتراح آليات روائية جديدة متجاوزة «خرق التتابع الكرونولوجي للأحداث، السرد الدائري، الميتا سرد.. وغيرها من الآليات المستحدثة» تسهم في ظهور رواية عصرية محايثة لتحولات البنية الاجتماعية والسياسية. ولما كانت الحرب العالمية الثانية إعادة لتوزيع المصالح الاستعمارية بين الدول المتنازعة فقد استجابت الرواية الجديدة لمعطيات هذه الحرب التي وضعت الإنسان في منطقة الاستلاب الكامل لحريته وطموحاته المشروعة خاصة بعد ظهور الكولنيالية الجديدة والتنافس المسعور بين الدول العظمى للحصول على أسواق دولية كان من نتائجه ظهور مبادئ العولمة ضاربة عرض الحائط كل ما شرع من لوائح لحقوق الإنسان. إذن فقد كانت الرواية الجديدة في فرنسا رد فعل لتراجع الاهتمام بالإنسان وتقدم الاهتمام بالأشياء عبر آليات سردية جديدة تتناسب والتحولات الاجتماعية الجديدة. ولم يتوقف الأمر عند التحول في المضمون والمفاهيم إزاء الإنسان والعالم وإنما تم وضع مفاهيم تخص بنائية الرواية. فظهرت بنائية جديدة متجاوزة وخارقة لكل ما عرف من آليات عدت قديمة ومحايثة للنظم الاجتماعية السابقة لمجتمع الحرب العالمية الثانية. اذن فقد كان ظهور هذه الرواية نتيجة لظهور تحولات جديدة في المجتمع دفعت بالروائيين إلى الالتفات إلى معطيات الواقع الجديد المتجاوز للوضع البشري العادي بفعل ويلات الحروب والأحداث الاجتماعية المؤثرة التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية وما نجم عنها من تغيرات في الخارطة السياسية والاجتماعية العالمية.
وتقوم الرواية الوثائقية «على جمع وثائق تتعلق بفترة زمنية محددة أو قضية معينة أو حادثة من الحوادث المهمة، ترتبط بها مجموعة من الشخصيات واليها تعود الوثائق المدمجة في النص السردي، ويكاد دور الراوي أن يقتصر على الربط بين هذه الوثائق» ونستدل من خلال هذا التعريف على:-
1- إن الوثائق هي مجموعة التقارير والمحاضر والمذكرات وإفادات الشهود والصور الفوتوغرافية فضلا عن وثيقة الواقع «الأحداث الحقيقية» الموثقة بالصحف أو الكتب وسواها. واعتمادها كمادة حكائية للنص الروائي.
2- إن اقتصار دور الراوي على الربط بين هذه الوثائق يعني أن لاشيء من الأحداث والوقائع والوثائق خارج حقيقية الواقعة واستقلاليتها عن مخيال الراوي. وبهذا الصدد يشير الكاتب الأمريكي ترومان كابوتي صاحب الرواية الوثائقية ذائعة الصيت «بدم بارد» إلى أن كل ما ورد في الرواية من أول كلمة إلى آخر كلمة هي أحداث ووثائق حقيقية ولم يضف أي شيء منه.
3- ولما كانت هذه الرواية هي تجميع لوثائق تخص أحداث تمر بها المجموعات البشرية خلال مدة زمنية محددة فإنها تسعى لأن تكون من الأجزاء المكونة للمخيال الشعبي الجمعي بما تتوفر عليه من حقيقية الأحداث والمواقف الواردة فيها وتكريسها في الذاكرة الفردية والجمعية نظرا لأهميتها وشموليتها وخروجها على ما هو مألوف في التفاصيل اليومية لحياة الأفراد والمجتمع. فالراوي يقوم هنا باختيار وانتقاء الأحداث والوقائع التي تعد مفصلا في حياة الجماعات البشرية.
4 إن حيادية الراوي في تجميع الوثائق والتقارير والشهادات والتزامه بتدوين ما هو حقيقي دون إضافة أو حذف لا تعني خلو هذه الرواية من «وجهة النظر»، إذ ان عملية اختيار الأحداث والشهادات والوثائق والتقارير تعد تمثيلا لوجهة نظر الراوي وانحيازه إلى هذه الأحداث دون غيرها ،كما أنها تعبر عن موقفه في تقدير أهميتها الاستثنائية في حياة الأفراد والمجتمع وما تشكله من موقع في تأريخ المجموعات البشرية على صعيد تأصيل المواقف وعدها من الأسس المكونة لتأريخ امة من الأمم. وبإمكان المتلقي التوصل الى وجهة نظر الراوي والرواية هذه عبر تقصي دواعي اختيار هذه الأحداث دون غيرها فضلا عن فهم الوسائل والوسائط السردية التي اتبعها الراوي في سرد روايته.
5 - تفترق هذه الرواية «الوثائقية» عن الرواية التأريخية في وجود الأشخاص المعاصرين والذين كانوا من ضمن المشهد الحدثي الذي تختاره الرواية بعدهم شهودا وأبطالا لتلك الأحداث. في حين تتناول الرواية التأريخية الأحداث الكبيرة والمهمة في حياة مجتمع من المجتمعات في زمن ماض بعيد ولا يوجد في زمن كتابة الرواية على صعيد الواقع من كان موجودا في زمن وقوع الأحداث فضلا عن حرية كاتب الرواية التأريخية في الحذف والإضافة بما لا يؤثر على حقيقية وقوع الأحداث وسيرها ونتائجها.
ومن خلال ما سلف ذكره تتبدى لنا أهمية هذا النوع الروائي الذي استدعت ظهوره أهمية التحولات الاجتماعية والسياسية التي تمر بها المجتمعات وعلى الصعيدين المعرفي والجمالي وانتفاء الحاجة إلى تمثيل الواقع لغويا، وعلى الرغم من مرور المجتمع العراقي والعربي بأحداث جسام فاقت مخيالية أي كاتب روائي فإن الرواية العراقية والعربية تشهد غياب هذا الطائر عن السرب الروائي المعاصر، وان وجد فان جناحيه لم تكن من القوة بمكان أن يسمح له بالتغريد خارج هذا السرب، مثال على ذلك رواية بيروت لصنع الله إبراهيم، وإحجام الروائيين عن الكتابة فيه لإعتقادهم بعدم أهميته طالما هو خارج عن جهد الروائي من حيث توفر المادة الحكائية متغافلين عن قدرة الروائي المعاصر في استثمار آليات السرد الحديثة التي أتاحها التطور الكبير والمؤثر في الرواية العالمية منذ خمسينيات القرن الماضي وتحديدا منذ ظهور الرواية الفرنسية الجديدة بكشوفاتها التي تجاوزت الأعراف البنائية التقليدية للرواية. ولعلنا في هذا المقام نلفت النظر إلى إمكانية كتابة المئات من الروايات الوثائقية العراقية نظرا لما يجري من غرائبية الأحداث والوقائع ما تعجز عنه الرواية الواقعية القائمة على التمثيل اللغوي للواقع في الإحاطة بمجريات الواقع العجائبي والمكون فيما بعد للمخيال الجمعي والشعبي العراقي. وفي هذا الصدد نشير الى أن المنجز الروائي يحلق بجناحين. الأول المادة الحكائية ووسائل السرد التي تكرس جماليات الآليات التي تنأى بالرواية عن منطقة التكرار والتقليد وتسعى الى التجاوز الى الجديد والمغري لذائقة المتلقي.
ووفق ما أسلفنا آنفا فإن مهمة الروائي في كتابة الرواية الوثائقية تبدو صعبة للغاية وتتكشف هذه المهمة في قدرته على الحفاظ على حياديته دون إضافة أو حذف للأحداث والوقائع والوثائق التي يحصل عليها الخاصة بالقضية التي يتناولها. وكذلك قدرته على إدارة السرد وتنظيم المواد والأحداث بما يضمن فنية وأدبية روايته دون الوقوع في شرك التوثيق والأرخنة التي تقربه من المؤرخ أو الموثق. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار تأريخ ظهور هذه الرواية متزامنا أو بعد الكشوفات الجديدة لآليات السرد الروائي التي خرجت بها جهود الرواية الجديدة منذ خمسينيات القرن الماضي فإن جملة من هذه الآليات قد قدمت العون الكبير للروائيين في إدارة وتنظيم الوثائق والأحداث لتقديم رواية حائزة على فنية وأدبية عاليتين تمكنت من تقديم هذه الرواية كفرع أو نوع جديد استجاب للمتغير والمتحول في الواقع الاجتماعي والسياسي. إذن فهنالك عملية تسريد لتلك الوقائع بكل تفاصيلها . ونعني بالتسريد هو «إضفاء صيغة سردية على نمط من الخطاب ليس في الأصل كذلك ومنه الخطاب المسرد والراوي. وفيه تتحول أقوال الشخصية الى حدث أو عمل يعرضه الراوي». وهنا يجري وفق هذا التسريد تحول في الصيغ التي عليها الوثائق الى صيغ جديدة تكتسب الكثير من طبيعة بنائية الحدث المسرود، وبمعنى آخر يجري تبديل صيغة نص أصلي بأخرى في نص لاحق. وهذه الصيغ هي التي تكشف عن جماليات الرواية الوثائقية. إذ أن التقارير والمذكرات والشهادات لم تكن أصلا قد وضعت كمتن حكائي متخيل من قبل الروائي. وفيما يلي من السطور سنقوم بتقصي هذه الصيغ السردية في واحدة من أهم الروايات الوثائقية العالمية المعاصرة وهي رواية فتيان الزنك للكاتبة البيلاروسية سفيتلانا الكسييفتش.
لم تكن سفيتلانا اليكسييفيتش مجرد صحفية أو كاتبة تقارير وحسب وإنما كشفت من خلال رواياتها -- وجميعها وثائقية عن معرفة باتجاهات الرواية المعاصرة وأساليبها البنائية فضلا عن إيمانها بأن الحروب محض تهديد مباشر للوجود البشري أيا كانت أهدافها، وبأن من الضروري ان يعرف المجتمع البشري حجم الدمار والانتهاكات الجسدية والنفسية والاجتماعية التي تسببها تلك الحروب، لذلك فلم تكن مهمتها محصورة في جمع الوثائق وشهادات الشهود ومذكراتهم ونشرها على ما هي عليه، بل كانت تختار من تلك الوثائق والشهادات ما يتناسب ورؤيتها الداخلية وتنظيم خط بين البنية السردية التي تكونها عبر الاختيار والصياغة السردية وبنية الوثيقة، وبهذا الصدد تقول الروائية سفيتلانا اليكسييفيتش في دفاعها عن روايتها في المحاكمة «ما الذي يجب أن أدافع عنه؟ أدافع عن حقي ككاتبة في رؤية العالم كما أراه وعن حقي في كره الحرب؟ أم يجب علي ان اثبت بأنه توجد حقيقة وشبه حقيقة، وإن الوثيقة في الفن هي ليست وثيقة صادرة عن مكتب التجنيد وليست تذكرة الترامواي، ان الكتب التي اؤلفها هي وثيقة وفي الوقت نفسه رؤيتي للزمن». ويستفاد من هذا القول أن لكاتب الرواية الوثائقية دور ومهمة لا تتوقف عند جمع الوثائق ونشرها وإنما هنالك تدخل يتضمن رؤية الكاتب الفكرية والجمالية طالما انه مزمع على كتابة عمل أدبي، وقد توضح كل ذلك في الكيفية التي اختارت فيها الروائية عددا محدودا من الوثائق الكثيرة التي حصلت عليها وإعادة صياغتها سرديا لتتخذ الرواية مواصفاتها الفنية.
ولعل شهادة أم احد الجنود الذين ساهموا في الحرب الأفغانية تشير الى دلالة العنوان، إذ كانت الجثث توضع في توابيت من الزنك وترسل من أفغانستان، وبذا فإن اختيار هذا العنوان من قبل المؤلفة كان موجها الى ان الرواية ستتحدث عن الجنود «الفتيان» الذين يقتلون في الحرب وترسل جثامينهم في توابيت مصنوعة من الزنك.
لقد كان مخطط الروائية السردي ينصب على تقديم رواية بوليفونية جديدة، وجدة هذه الرواية في حقيقية وصدق الأصوات المتعددة التي أظهرها الرواة المتعددون دون أن تكون متخيلة كما في رواية متعددة الأصوات الباختينية وعمدت الروائية.
وعمدت الروائية الى اختيار عدد من الشهادات التي قدمها عدد كبير من الشهود الذين توجهت اليهم الروائية للإدلاء بشهاداتهم، ولعل عملية الاختيار هذه تنطوي على حرص على تنفيذ مخططها السردي لتكريس تعددية الأصوات لضمان شمولية الشهود على ما جرى باختلاف مستوياتهم الثقافية والاجتماعية والمهنية وإيجاد خط سردي جامع وفق رؤية الروائية ما تريد تكريسه. وهنا يتبدى لنا تدخل الروائية في إضفاء صفة السرد على هذه الوثائق بما يمنحها صيغا فنية شكلها إعادة صيغة الشهود التعبيرية دون المساس بالوقائع إضافة أو حذفا. إذ لا يمكن أن توضع تلك الشهادات كما أوردها الشهود من الناحية اللغوية على إن هذا التدخل من قبل الروائية لم يعدم الحفاظ على المستوى الثقافي أو الاجتماعي بما يضمن تفرد تلك الأصوات واختلافها عن الأصوات الأخرى وهو ما تمكنت منه الروائية على نحو لافت للنظر في هذه الرواية ورواياتها الوثائقية الستة الأخرى.