ادب وفن

الرواية والتصوف.. البحث عن آفاق جديدة لكتابة الرواية / داود سلمان الشويلي

الخطاب الروائي، ومنذ نشأته الاولى، يواكب العصر ومنجزاته على المستوى الاجتماعي، والاقتصادي، والثقافي، وحتى العلمي، ويبحث عن الجديد في طريقة تعامله مع مصدره الخام، ان كان هذا المصدر هو الواقع العياني المعيش، ام كان هو الذاكرة، أو المخيال.
ولا يخفى عن المُتابع الحصيف، ان الخطاب الرِّوائي في الفترة الأخيرة قد نزع الى سرد الآخر المعروف للجميع، او الحكاية عنه، او عن منجزاته، ان كان هذا الاخر شخصية دينيّة، أو سياسيّة، أو اجتماعية، أو ثقافية. وقد كان هذا النزوع مغامرة جديدة ارتادها هذا الخطاب، فكان ان وجد في التصوف والمتصوفة واشراقاتهم وشطحاتهم مرتكزات اساسية لبناء سردي متكامل.
فقد وجد هذا الخطاب في السنوات الاخيرة طريقه الى التصوف، فارتاده بلا خوف او وجل، وأنتج لنا مجموعة من الروايات التي عالمها التصوف، ان كان ذلك من خلال تتبع حياة المتصوفة، او من خلال تناصهم مع الرموز التي يحفل بها عالمهم، فتحول الخطاب الروائي من رؤية ادبية/ فنية الى رؤية ادبية فنية/ صوفية، اشراقية، عرفانية.
والتصوف عالم قائم بذاته، كالرواية التي هي كذلك عالم قائم بذاته. التصوف له تاريخ طويل منذ قبل الاسلام، بل انه رافق كل الاديان الوضعية، والاديان المسماة بالإبراهيمية، حيث يرى بعض الدارسين في الرهبنة البوذية، والكهانة المسيحية، والقبالة او الهكابلاه اليهودية، وغيرها، طرقا صوفية ايضا، كحالها عند المسلمين.
التصوف هو منهج، أو طريق يسلكه العبد للوصول إلى الله، أي الوصول إلى معرفته والعلم به، كما عبر عنه ابن عطاء الله السكندري في الحكم العطائية.
والخطاب الروائي كذلك له تاريخ طويل كعالم سردي اول ما نشأ في الكهوف على شكل رسومات تروي حكاية صيد الحيوانات التي يقوم بها الانسان، وبعد أن اكتشف الانسان اللغة اخذ يروي الحكايات التي كانت الاساس الامثل للرواية في العالم. وبالتقاء هذين العالمين راح السرد متمثلا في الرواية المعاصرة يدخل عالم التصوف.
ان ارتياد الخطاب الروائي عالم التصوف جاء لفتح باب جديد في طريقه، وهذا الباب يتكون من ضفتين اثنتين، الضفة الاولى التي يدخل من خلالها الحديث عن الاخر، الحديث عن علم من اعلام الصوفية، تسحبه من عالم التصوف الواقعي "كوجود معاش)" الى عالم الرواية التخييلي، فيكون العنوان الذي يمكن ان نطلقه على مثل هذه الروايات هو "الرواية والتصوف"، كرواية" موت صغير" مثلا، التي جعل الراوي من ابن عربي مادة اساسية لحكايته، ورواية "قواعد العشق الاربعون" عن جلال الدين الرومي.
والضفة الثانية تدخل من خلالها نصوصا روائية اتخذت من عالم التصوف، عالماً سرديا بدون ان تتحدث عن رجاله، تأخذ طريقة الكتابات الصوفية، او استخدام رموزه، اسلوبا لها في الكتابة، فيكون العنوان عند ذاك "الرواية العرفانية"، كرواية "التجليات" لجمال الغيطانى، وبعض روايات الكاتب عبد الخالق الركابي.
***
الرواية والتصوف:
ينشأ حوار بين النص الروائي والنصوص الأخرى السابقة له بمختلف أصنافها، وتعدد دلالاتها، ومن ثم ترابطها بعلائق جديدة تجعل منها إما ان تكون وحدة دالة، أو ذات دلالات مغايرة للدلالات التي كانت لها ضمن سياقها الذي كانت عليه، وهذا ما يمكن ان نسميه التناص، وهو الآلية التي يمكن من خلالها فحص ودراسة النصوص السابقة واللاحقة وترابطاتها، وهذا ما حصل في الروايات التي اتخذت من عالم التصوف عالما لها، ان كانت صوفية بحت، او عرفانية.
ويمثل هذا العنوان الروايات التي اتخذت احد شخوص التصوف بطلا لها" الشخصية الرئيسة"، فتابعته من المهد الى اللحد، مثل رواية" موت صغير" للسعودى محمد حسن علوان، ورواية" قواعد العشق الاربعون" للتركية اليف شافاق، عن جلال الدين الرومي.
ففي رواية "موت صغير" يتابع الكاتب بطله ابن عربي من المهد الى اللحد، فهو يقول في اول صفحات الرواية: "أعطاني الله برزخين: برزخٌ قبل ولادتي وآخر بعد مماتي. في الأول رأيت أمي وهي تلدني وفي الثاني رأيت ابني وهو يدفنني".
ويقول في الصفحات الاخيرة من الرواية: "ما أسهل حياة البرازخ. إن تتأمل الحياة وأنت مجرد من الإرادة. لا تفعل. ولا تنفعل".
وبين القول الاول والقول الثاني تنكشف امامنا حياة ابن عربي على مساحة 591 صفحة.
فالقول الاول ينقل لنا ميلاده، حيث يرى "مجازاً" البرزخ الذي يخرج منه اثناء الولادة "عنق الرحم"، وينتقل من ظلام الرحم الى نور الوجود. وكذلك يرى برزخ القبر عندما يرى ابنه وهو يحمله من خارج القبر، نور الوجود، الى داخل القبر "ظلمة الوجود"، وقد استبق الحدث اكثر من500 صفحة. اذن هو يقع بين ظلمتين، ظلمة الرحم، وظلمة القبر، والفسحة التي يرى فيها النور هي قصيرة جدا يشغلها الانسان بما تمتلئ به الحياة من نشاطات مثل العمل الذهني والعضلي، والسفر والترحال المكاني والزماني، الخيالي والواقعي الحقيقي، وكانت حياة ابن عربي كما قدمتها الرواية هي هذا التعدد والتنوع.
وانت تقرأ رواية كتبت عن حياة شخصية تاريخية، يتبادر الى الذهن بانك ستلتقي بهذه الشخصية وكأنها ولدت في عصرنا لتنقل لنا احداثا معاصرة، حيث يستخدمها الكاتب كالقناع الذي استخدمه في الشعر، الا ان الكاتب استخدم اشخاصا جاؤوا بعد ابن عربي ليروي عن طريقهم احداثا لها صلة بإبن عربي، او الواقع الذي تنقله لنا تلك الاحداث.
فقد تابع الكاتب شخصية ابن عربي، حتى وصل بنا الى عام 2012، فنقل لنا كل شيء عنه، تكوينه الفكري، وعلاقته بالقشيري والحريري، وصلته بالخلفاء، وأصحاب الكرامات، وما لاقاه من آلام بسبب حبه لـ "نظام" ابنة شيخه الاصفهاني.
وفي رواية "قواعد العشق الاربعون – عن جلال الدين الرومي – اليف شافاق - ت: خالد الجبيل نجد الكاتبة تتحدث عن جلال الدين بأسلوب الرواية الحديثة، ميتافكشن، كسابقتها "موت صغير"، بوجود ابطال اخرين، فهي رواية داخل رواية، كما في الليالي. اما شمس الدين التبريزي الذي وضع الاربعين قاعدة للعشق، فهي شخصية رئيسة مؤثرة، هو وقواعده.
ان القواعد الاربعين، التي جعلتها المؤلفة في عنوان روايتها، مبثوثة، ومنثورة بين سطور الرواية، "راجع قواعده مبثوثة على طول الرواية.
ويمكن ان نذكر بعض الروايات التي اتخذت اشخاص التصوف ابطالا لها مثل: رواية"فضاء أزرق لحلم غريب للروائى محمود عبدالله، ورواية "جبل قاف" للأديب المغربى عبدالإله ابن عرفة، و رواية "أسد القفقاس" للروائى منير عتيبة، وروايته "كوميديا الحب الإلهي" للروائي لؤي عبد الله.
***
الرواية العرفانية:
يلعب التناص دورا فاعلا في هذا الباب الا انه مخفي ومضمر، كما كان في الرواية والتصوف، لأنه يستدعي عند القراءة للرواية نصوصا سابقة له، تتأسس على مفردات مزروعة في تلك النصوص المتناص معها.
وعلى الرغم من ان العنوانين" الرواية والتصوف" و" الرواية العرفانية" يمكن ان يتداخلا في نص روائي واحد، الا ان الحديث عن العنوان الاخير يمكن ان يعطي لبعض الروايات استقلالية تامة عن العنوان الاول.
و"الرواية العرفانية" التي نعنيها هنا هي الرواية التي اتخذت مما في هذا العالم، عالم الكتابات الصوفية، والمنهجية الصوفية، عالماً سرديا بدون ان تتحدث عن رجال التصوف، تأخذ طريقة ومنهج ومفردات الكتابات الصوفية، او استخدام رموزها اسلوبا لها في الكتابة الروائية، كرواية "التجليات" لجمال الغيطانى، وبعض روايات الكاتب عبد الخالق الركابي.
"التجليات" بأسفارها الثلاثة، ومن خلال لغة تأخذ من عالم التصوف الكشف والغوص في عالم روحاني، وعالم الرحلة المعراجية الخيالية التي تأخذه الى عالم سماوي غيبي، كالمعراج الروحي عند المتصوّفة، فكانت تجليات النص بإشراقات اللغة الصوفية، والرؤيا الصّوفية، واضحة وماثلة للعيان.
ان اكتساب "البطل" وهو السارد في بعض الروايات، للطبيعة فوق بشرية، قد اتاحت له ان يمضي دون عوائق في تجلياته تلك.
وقد ذكرت مصطلحات صوفيه في الرواية، من مثل: المقام، الحال، الوصل، القبض، البسط، السفر، الجمع، الموقف، الأبدال، الحبّ، الفوت، الغربة، الحلول، الرؤيا، الهاتف.
ان استعانة الروائي بمجموعة من المفاهيم والاصطلاحات والمعاني الصّوّفية هو الذي جعلنا نطلق على مثل هذه الروايات "الرواية العرفانية"، والقول كذلك على بعض روايات الكاتب عبد الخالق الركابي، مثل رواية "سابع ايام الخلق" التي يتابع القارئ فيها رؤى عرفانية صوفية، واعطاء عناوين لفصول روايته مأخوذة من عالم العرفان الصوفي، ورواية" مقامات اسماعيل الذبيح" التي على الرغم من ان الكاتب ذكر اللفظة "مقامات" التي اراد بها ان تكون مشابهة لمقامات الحريري، الا اني كدارس ومحلل للنص ارى عكس ذلك، إذ انها من التأثيرات الصوفية/ العرفانية.
اذن، الرواية العربية الحديثة قادرة على قراءة التاريخ العربي غير الرسمي قراءة تناصية، واستغلاله خير استغلال بإشغال مخيال الروائي الابداعي في ذلك.
الروايات الصوفية والعرفانية كثيرة الا انها متفاوتة الجودة والطرح، فبينما نجد روائيا يجتهد في ان تكون روايته تمتثل لشروط الرواية الجدية، الا انها تأخذ من عالم التصوف بحديه التصوفي "شخصية صوفية" والعرفاني "مصطلحات ورموز لغوية من عالم التصوف"، نجد بعض الروايات، وهي قليلة، تنزع الى تتبع شخصية صوفية تتبع الصحفي الذي يريد ان يقدم ريبورتاجا عن شخصية ما، فتضحى ريبورتاجا صحفيا ليس الا. او ان تكون روايته تلك مترهلة بما فيها من مادة كتابية غير منتقاة، وهذا مرض اصاب الروايات الجيدة الممتثلة لشروط النوع.