ادب وفن

"جلال خالد".. رواية النشأة والتحول / احمد عواد الخزاعي

نشأ السرد العراقي الحديث في مطلع القرن الماضي، متأثرا بتطور هذا الفن في الدول الغربية، ووصل إلينا عن طريق مصدرين رئيسين: الأول، الأدب التركي أو ما ترجمه الأتراك، وقد تأثر به جملة من رواد السرد العراقي وعلى رأسهم مؤسسه محمود احمد السيد، الذي قرأ هذا النوع من الأدب باللغة التركية.. أما المصدر الثاني، فهو المنجز السردي المصري والسوري، والذي يعد صورة أخرى أكثر سطحية للسرد الرومانسي الغربي وبالأخص الفرنسي، وكذلك ما ترجمه الأدباء المصريون والسوريون من الأدب العالمي.. وقد اكتسبت رواية جلال خالد أهمية كبيرة في السرد العراقي، على الرغم من كونها تعد الرواية الثالثة في تاريخه، كتبها محمود احمد السيد 1928، بعد روايته البكر "في سبيل الزواج" 1921، والرواية "الايقاظية" لسليمان فيضي 1919.. ونالت هذه الاهتمام لأنها تمثل النشأة الحقيقية للسرد العراقي، كونها لامست الواقع العراقي، وتناولت قضاياه المفصلية وجزئياته برؤية ناضجة أكثر جدية، لذا يعد محمود احمد السيد مؤسس السرد العراقي الحديث، واحد أهم المنظرين له، وبالأخص ما عرف لاحقا بالأدب الواقعي، حيث عمل جاهدا على أن يعيد صياغة السرد العراقي بطريقة تمكنه من الوصول إلى فن قصصي يتفاعل مع الواقع بطريقة موضوعية، وأكثر رصانة وحرفة، فبعد سلسلة من الإصدارات الأدبية له تمثلت في مجموعتين قصصيتين هما "النكبات ومصير الضعفاء" ومن ثم روايته "في سبيل الزواج"، انقطع عن كتابة القصة لمدة خمس سنوات انشغل فيها بدراسة الأدب الواقعي الروسي وكتابة مقالات أدبية هاجم فيها المنجز الأدبي العراقي في فترة العشرينيات بصورة عامة، وما كتبه هو بوجه خاص، حتى قال "إن كل ما كتبه سابقا لم يكن أدبا بالمعنى الحقيقي"، وتمنى أن يمتلك سلطة تمكنه من إحداث محرقة كبيرة لكل ما كُتب من فن قصصي وروائي في تلك الفترة، وأسس لاتجاه جديد في السرد العراقي، هو صورة أخرى للأدب الواقعي الروسي، مستخدما الاسم اللاتيني للتعريف به "الريالزم"، وحاول إيجاد مقاربة لفظية له تتناسب مع الظروف البيئة للمجتمع العراقي الشرقي، فأطلق عليه مصطلح "الأدب الشعبي" وعرفه "هو الأدب الذي يكون مرآة لحياة الشعب، يعبر عن شعوره وأحلامه وأحزانه ومسراته وآماله، ويمكن أن يتحول في المستقبل إلى مصدرا للمؤرخين الذين يكتبون تاريخه الصحيح، ويبحثون في كيفية العيشة التي عاشها في ذلك العصر".. وانطلاقا من هذا المفهوم الأدبي، فإن رواية "جلال خالد" لمحمود أحمد السيد تعد نقطة تحول مفصلية في تاريخ السرد العراقي الحديث، وهي رؤية أدبية جديدة للواقع العراقي والعربي والإسلامي، من منطلق فكري حداثوي.. كونها كتبت في مرحلة انتقالية حرجة بين عالمي "التقليد والحداثة".. غير أن هذه الرؤية كانت محكومة بأدوات عصرها، والتقنيات السردية المهيمنة آنذاك على، الأسلوب، واللغة، وطريقة الوصف، وسيمائية الصورة والحركة والدلالة.. و ليس من الإنصاف إسقاط روح العصر الحديث نقديا عليها، وإخضاعها لأدواته وأساليبه ونظرياته ومدارسه.. لذا سأركز في دراستي هذه على المنطلقات الفكرية والاجتماعية والقيمية التي استند إليها الروائي، واهم المحطات التي مر بها، وطبيعة الأساليب والتقنيات التي تأثر بها واستخدمها في نصه هذا، والتي تتماهى مع ما كان سائدا ومتداولا آنذاك.. ويبدو هذا التأثر واضحا من أول عتبة سردية لهذه الرواية، وهي الإهداء "مهداة إلى فتية البلاد التي تربت على الجهاد في سبيل الحرية والحق"، خطاب مسرحي ملحمي، بلغة حماسية فخمة، يمثل هذا الفن جزءا مهما من الثقافة البكر التي نشا عليها الكاتب، والتي وظفها كمقدمة استشرافية للقارئ، يعرف من خلالها طبيعة النص الذي سيلج إليه، وتوجهاته الفكرية.. ينتقل بعدها إلى المقدمة التي ركز فيها على إشكالية ما زالت ملازمة للسرد، وهي "التجنيس الأدبي".. فحاول أن يفسر للقارئ ويعرفه بنوع الجنس الأدبي الذي يقرأه، مستخدما مصطلح قصة، ومن ثم يصل إلى مصطلح غريب عن مفهوم التجنيس، لكنه حاول من خلاله أن يقرب الصورة إلى القارئ في ذلك الزمن، باستخدامه مصطلح "الحديث"، ونلاحظ إن هذا المصطلح هو نتاج لبيئة أدبية، كانت مهيمنة إلى وقت قريب على البيئة الشعبية التي نشأ فيها الروائي، وهو فن "الحكواتي"، الذي كان شائعا في مقاهي بغداد القديمة، وقد ذيل مقدمته بعنوان يشير إلى هذه البيئة الاجتماعية التي كتبت فيها الرواية "بغداد: باب الشيخ".. وقد اثر هذا الفن أيضا على طبيعة خطابه للقارئ في هذه المقدمة، فعمد إلى استخدام صيغة الخطاب بالمفرد المذكر.. "ولا تعجب فقد قدر لي أن ازور الهند ..."، انسحب هذا النوع من الخطاب على معظم مفاصل الرواية وهيمن عليها، من حيث القصدية واللغة المستخدمة، فكان خطابا حماسيا يحمل أفكارا ثورية تنويرية تحررية، يميل إلى التعقيد في اغلبه، مقارنة مع المستوى الثقافي والتعليمي لجيل عصره، لذا نجده يعمد إلى الشرح والتفسير لبعض فقراته، وهذا الأسلوب كان شائعا في ذلك الوقت للسبب الذي ذكرته أنفاَ، حتى يصل في بعض الأحيان إلى حد السذاجة.. وسأضرب مثالا على ذلك، قصة ذو النون أيوب كتبها في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي حملت اسم الثأر.. "استيقظ وحيد بعد أن حل العصر، وبسط عضلاته الفولاذية ليواجه زوجته، وكانا في ثوب ادم قبل خروجه من الجنة" وهنا يستدرك ذو النون أيوب شارحا للقارئ سبب حب وحيد لزوجته "ولا يظن القارئ إن حب وحيد لزوجته لأنها من أبناء جلدته.. كلا.. بل لأنها ذات بشرة سمراء جميلة، وان الكثير من نساء الغرب يتمنين أن يصبحن بلون بشرة المرأة العربية"..
أما اللغة التي استخدمها محمود احمد السيد، فعلى الرغم من محاولته الجادة انتشالها من سياق ونمطية عصره، إلا أن ثقافته الحتمية الأدبية فرضت نفسها على نصه، فغلب على لغته التصنع والمحسنات اللفظية والاستعارات، والتراكيب اللغوية الفخمة، والمفردات الغريبة مثل "خرثى، فرضة، تكأكأت، معمعي".. وهذه المحددات اللغوية، لم تمنع نصه من أن يكون منسابا مسترسلا.. أما الوصف فحمل رؤية طوبائية جميلة تتناغم مع جماليات عصره، كما في وصف البطل خالد جلال حبيبته اليهودية سارة.. "الجميلة جمال التمثال نفخت فيه الروح، وجرى في عروقه دم الحياة".
تتألف رواية "جلال خالد" من قسمين رئيسين.. القسم الأول وصف عام لمجمل الإحداث الرواية، واهما رحلة جلال خالد إلى الهند وتأثره بالأفكار التحررية والتقدمية، نتيجة لصداقته الحميمة مع الكاتب الهندي ذي الأفكار اليسارية، وأما القسم الثاني، فكان عبارة عن رسائل متبادلة بين البطل وصديقيه العراقيين احمد مجاهد و "ك س".
غلب على السرد تقنية السارد العليم، لكن الروائي ينزع إلى تقنية السارد الضمني، في بعض محطات النص، كما في ذكره عدد ركاب الباخرة التي سافر عليها جلال خالد إلى الهند "كان المسافرون عشرة من التجار العرب، وأربعة أو خمسة هنود"، وعمد على اختزال التصورات والأحداث بطريقة متداخلة، ليؤكد ما ذهب إليه في مقدمة روايته، بأن نصه هو اقرب إلى الحديث.. "حسب إنها كانت تحبه وتعشقه منذ أن ركبوا الباخرة النهرية أمام بغداد، وإنها تزوجت بفتاها مكرهة وكان يحبها فجفته ثم قتلها الحب....".
جلال خالد هو نص انطولوجي مؤدلج، اقترب من الواقع فكريا ولامسه في أدق مفاصله، وشخص مكامن القوة والضعف فيه، وحدد المشكلة بطريقة ناضجة سبقت عصره بسنوات، وتناولت الأسباب الحقيقية التي تقف وراء تخلف العرب والمسلمين عن ركب الحضارة، استخدم فيها الروائي أسلوب التورية في التعبير عن آراءه الجريئة والحساسة، عن طريق طرح المشكلة في ساحة بعيدة عن مجالها الحيوي، فنقلها من العراق إلى الهند، في حوار بين البطل جلال خالد وصديقه الكاتب الهندي، يفصح فيه الأخير عن أحد هذه الأسباب بقوله.. "لكن هذه المعابد لا تنفعنا نحن الهنود اليوم، ليس لدى الشعب مدارس بقدر ما لديه منها".. لكنه ابتعد عن الواقع عمليا، سواء على مستوى الأسلوب الذي طرح فيه هذا النص، فقد غابت عنه الكثير من التفاصيل المهمة بالنسبة للقارئ مثل "تحديد ملامح ابطاله، ووصفهم هيأتهم والبيئة المحيطة بهم، كذلك انعدمت سينوغرافيا المكان، وندرة السيمائية بكل أبعادها ودلالاتها".. إضافة إلى غياب الأدوات التي يمكن أن تعالج المشاكل الاجتماعية التي طرحها .. كما في رسالته الأخيرة إلى صديقه احمد مجاهد.. اجتمعنا فتحدثنا كثيرا ثم انتهينا فلم نرسم خطة عمل، ولن نقدر على ذلك.. فإننا اتفقنا على أن لا نتفق".
لقد مثل جلال خالد شاخصا توارى خلفه محمود احمد السيد، وما رحلة جلال خالد إلى الهند إلا رمزية مادية، لرحلة فكرية عاشها الكاتب نفسه، أسفرت عن تحول قناعاته ورؤاه الفكرية والدينية والاجتماعية، نتيجة تأثره الكبير بالأطروحات الفكرية الحداثوية، القادمة من الأدب التركي والروسي وجزء من الأدب الفرنسي.. وقد وضح هذا الأمر في الفصل التاسع، حين تحول البطل من الفكر الديني القومي إلى الثوري التحريري الاشتراكي، بعد استماعه لعدة دراسات أدبية وفكرية، مثلت تجارب أدبية وفلسفية وسياسية عالمية، في احد المنتديات، أثناء تواجده في الهند.. غير إن مفهوم الوطنية كان ضبابيا لدى الروائي، والسبب يعود إلى أن مفهوم الوطنية لم يتبلور كحقيقة سياسية واجتماعية في معظم الدول العربية، كونها حديثة عهد بالتخلص من الاحتلال العثماني وحكمه الشمولي، الذي ينظر إلى جميع البلدان التي تحت سيطرته على إنها ارض خلافة واحدة .. لذا كان هناك خلط بين مفهومي الوطنية والقومية داخل النص.
وتبقى رواية جلال خالد للروائي محمود احمد السيد، علامة مضيئة في تاريخ السرد العراقي الحديث، تستحق منا الدراسة والاهتمام والاستذكار.