ادب وفن

عن شمران الياسري في ذكرى رحيله السادسة والثلاثين .. أبوكاطع.. ومشروعه الثقافي / إحسان شمران الياسري

الكنز العراقي الكبير الذي اغتنى بمئات الجواهر عبر آلوف السنين، أضاف اليه شمران الياسري جوهرة أخرى منذُّ وِلِدَ في ريف الكوت قريباً من أكواخ الطين على ضفة الغراف.. في تلك السنين، تدافع حشد جواهر ثمينة ليزيّن وجه العراق وصدره الثقافي، فغمر سماءه شعراً وغناء وأدباً وفناً ومسرحاً..
شمران .. تكفّلت دواوين ريف الحي ببناء إحساسه بجمال الكلمة وخفقة القلب عند كل صوت يصدح بغناء الريف المتنوع، وبرهافة الخصومة بين المعرفة والجهل، وبين الدين والحياة، وبين المرأة والرجل.. وبصعوبةوخشونة الخصومة بين الغنى والفقر، وبين الاقطاع والفلاح، وبين المستعمر والوطن..
ومن مخاضات الدواوين، وتراكم الجدل العذب، وأوتار الحناجر التي يفتح الفجر لها آفاقه فتبدأ حياتها برغيف خبز بلا غموس، وبإشراقة بلا أمل كبير، كان شمران الياسري قد تفقّه في تلك البيئة، وبين تلك الاكواخ، وتحت ظلال الصفصاف على اكتاف الأنهار مع أترابه من الصبية.. فإذا جاء العصر، ورنّ هاون القهوة في مضيف القرية، هبط مع والده ورجال القرية، لينصت لما يتحدثون، ويحوّل الحكايات، ويروي الشعر، ويفكك اسرارهم وحكاياتهم..
من أين جاء شمران بتلك القوة ليصل إلى أواسط الناس، فلا يمنعونه من أن يكون بينهم، بل ويطلبونه إذا غاب.. تلك هي استثنائية شمران في تدوين حضوره مثل (فانوس) في ليل طويل، ومثل جدول يدفق ماءه على أرض ٍتشققت عطشاً.. ومثل موعد عاشقة لم يتحدد أوانه..
كان السيد يوسف الياسري، والد بطلنا شمران، من أكثر الناس عناداً وصلابة في مواجهة المنافقين والفاشلين، وقد تمرّد على قيم العشيرة التي تتسامح مع الفاشلين والمنافقين والحاسدين، فاضطر شقيقه الأكبر السيد إبراهيم لترحيله عن (ديرتهم) خوفاً عليه من عواقب تمرده وبغضه للجبناء والفاشلين.. فترك ديرة أهله ورحل إلى الحي حيث استقبله أهلها البسطاء وهم يعرفونه شجاعاً، كريماً، شديد البأس مع النفاق وأهله، والفساد وأهله، فاحتضنوه، وفتحوا له بيتاً، وزوجوه من إحدى بناتهم، التي ولدت ابنه البكر شمران في نهاية عشرينات القرن الماضي.
وهكذا نشأ هذا الفتى في بيت تحفُّ به بيوت الناس وقلوبهم.. وفي سن العاشرة كان يدخل المضيف كما يدخله والده، ويجلس حيث يجلس الكبار، لكنه كان يسمع ويراكم خبرته وذاكرته وقواميسه في الشعر والامثال ومتطلبات النشأة الأولى لأديب سيصبح رقماً محسوباً في كنز الثقافة العراقية، وجوهرة لا تخفيها كل المظالم ومحاولات الإسكات وعمليات المراقبة والمطاردة والنفي إلى الخارج.
شمران الياسري كتب في الصحف العراقية في عمر الخامسة عشرة وهو في القرية.. أرسل المكاتيب للصحف، ولم ُيتابع ما نُشر وما لم يُنشر، فكتب في صحف الكبار، صحف يديرها الجواهري، وأخرى يكتب فيها البياتي وكبار الأدباء والصحفيين والعلماء.. صحف تنشر لساسة ورجال دولة وعلماء دين، فكان اسمه يكبر بين أسماء الكبار.. وما أن دخل العقد الثالث من عمره حتى استدعته بغداد بسحرها وجمالها وإغوائها الاخّاذ، فجاء المدينة الكبيرة وهو معبأ بأسرار الريف وحكايات دجلة والغراف والقرى التي نامت على وعودٍ لا طائل من ورائها. ومن هناك، حيث إرث الجنوب الغني، حمل زوّادته الفكرية والأدبية، وقوانينه في عدم التساهل أو التغطية على ظلم الاقطاع وظلم الفاسدين، وعلى التقاليد العاتية في ظلم المرأة وامتهانها، وفشل السلطات الحاكمة في تقديم الخدمات.
كان صريحاً عجيباً، يبحث عن الكلمة التي تقنع القاريء والظالم والمظلوم بأهميتها، فيدونها خالية من التكلف والزيف والاغطية الثقيلة.. هو يُنادي، ويرشد للطريق.. ويحرضّ من يستحق التحريض له أو عليه.
كتب العمود الصحفي في الصحافة السرية والعلنية، وتحدّث في الإذاعة، فدّوى صوته، فكانت الناس تنتظر إذاعة برنامجه في الخامسة عصراً، لتسمع خاطرته الصريحة، البسيطة، والناضجة..
بعد ثورة تموز 1958 التحق أبوگاطع بالإرشاد الزراعي، وقاد حملات التبشير بالإصلاح الزراعي وتنوير الفلاحين بقيمة استرداد أراضيهم التي استولى عليها الاقطاعيون بطرق ملتوية. وكتب في الصحف التي كانت تصدر آنئذ..
ودوّى برنامجه الإذاعي (احچيها بصراحة يبوگاطع)، فكان صوت من لا صوت له.
وعندما اختلف الزعيم عبدالكريم قاسم (رحمه الله) مع الشيوعيين والقوى الوطنية، كان طريق شمران إلى السجن واضحاً.. وكانت التهمة جاهزة، فقد وقّع الراحل مع مئات المثقفين نداء (السلم لكردستان) الذي اعتبره الزعيم تعريضاً به وبطريقته في التعامل مع القضية الكردية.. فأودع السجن مع المئات، وتنقّل بين سجون بغداد والعمارة وبعقوبة.. ولم يطلق سراحه إلا قبل شهرين من مجزرة شباط الأسود عام 1963.. وقد اختفى في ذلك اليوم المشؤوم وانتقل إلى الريف حيث بدأ مشوار النضال مع رفاقه لإعادة بناء منظمات الحزب. وفي تلك السنوات باشر كتابة روايته الرباعية التي أحدثت نقلة مهمة في صناعة الرواية العراقية، وأرّخت لمرحلة طويلة من حياة الشعب العراقي، ابتداءاً من حصيلة ثورة العشرين التي اجهضها الاستعمار، مرورا بنشوء الاقطاع في مرحلة الحكم الوطني، حتى بدء الاختلاف مع الزعيم عبدالكريم قاسم وعودة فلول الاقطاع وقوتهم إلى الريف (لم يؤرخ لسقوط الجمهورية الأولى لان الرواية صدرت عام 1972 أيام الجبهة وكان ايامها ضمن العمل العلني الجبهوي، فلم يشأ الإشارة إلى 8 شباط 1963 .. ولكنه سيكتب بعد مغادرته العراق عام 1978 الجزء الخامس من الرواية (قضية حمزة الخلف) الذي نشر بعد وفاته).
وظل متخفيا ناشطا في العمل السري حتى صدر العفو عن السياسيين نهاية عام 1968 فعاد إلى بغداد للعمل في الصحافة واحيا برنامجه الشهير (بصراحة أبوگاطع).. كما تولى مهام مدير إدارة مجلة "الثقافة الجديدة". غير أن السلطة لم تحتمل صراحته، فاوقفت برنامجه وبدأت المضايقات له، فعاد مجدداً الى التخفي والعمل السري في ريف الكوت.
ولم يعد إلى بغداد إلا قبل تشكيل الجبهة الوطنية ، وتعهد السلطة باحترام الحريات وعدم التعرض له ولرفاقه في العمل السري. وبعد ذلك عاد إلى العمل الصحفي في عموده اليومي في اكثر من صحيفة (طريق الشعب، التآخي) والكتابة في "الثقافة الجديدة" وغيرها من المجلات.
كتب أبوگاطع في مواضيع كثيرة تمس الشأن اليومي للمواطن، وقضايا في السياسة المحلية والدولية، وناصب الامبريالية العداء مثلما هو موقف حزبه.
كذلك اسهم في شتى المحافل والمنظمات الأدبية والثقافية ووشارك في مختلف المؤتمرات. فقد كان عضواً في اتحاد الادباء والكتاب في العراق وعضواً في اتحاد الكتاب والادباء العرب وعضواً في اتحاد الكتاب الافروآسيويين.. وعضواً في اتحاد الصحفيين العرب، وعضواً في اتحاد الصحفيين العراقيين.. وكان تسلسله ثالثا بعد الراحلين الجواهري وجعفر قاسم حمودي..
مات أبوگاطع يوم 17 آب 1981 في حادث سير مريب في الخارج، وهو يبحث في قواميس التأريخ ويسهم في السعي لتقريب يوم خلاص العراق من الشر والظلم والهمجية..
×××
لم يكن عمله الإبداعي بعيدا عن القلق اليومي، بل في لبّ القلق في كل ساعة. ومع أني كنت اصغر من ان أنشغل به، إلا أن واجبات المراقبة والحراسة و(النطارة) الليلية كانت قائمة من كل العائلة، من والدتي بالدرجة الأولى وأعمامي وأخوالي ومن إخوتي الذين كانوا شبابا وربما يافعين.. كان رجال الأمن والمخبرون موجودين في الأنحاء، لكن الريف كان مكانا مفتوحا للتخفي والمناورة والخداع، والإنسلال حتى من (خرم الإبرة) إن اقتضى الأمر.
ومن أجل هذا، كان لا بد من إيجاد آليات وترتيبات لتغيير المكان في أية لحظة، ونقل أدوات العمل والمعدات، خصوصا الطابعة،او كما كنا نسميها (المطبعة)، والرشاشة (السمينوف) التي لم تكن تفارقه.
وقد تحدّث الراحل عن تلك الطابعة في إحدى الندوات، بعد أن غادر العراق، وكيف كان الحزب مضطرا الى تغيير مكانها عدة مرات لحمايتها من مداهمات الأمن.
يقول (أبوگاطع): كنا نتلقّى المعلومات من أصدقائنا عن تحركات الأمن وجواسيسهم قبل وقت مناسب، فنرتب الأوضاع وننقل الطابعة والمنشورات بالوسائل المتاحة، ومنها التراكتورات التي كانت متوفرة لدى بعض رفاقنا أو أصدقائنا، وأحيانا نستخدم (حمارا) قويا كان يملكه (أبو حسين)، وهو أحد أصدقاء الحزب والمتعاطفين معنا، ولم يكن شيوعيا، رغم أن كل إخوته كانوا شيوعيين منظمين.
ويضيف ان أبو حسين " يكن يبخل علينا بـ (المطي)، غير أنه (اي المُطي) يكون عزيزا في أيام الحصاد، لأن (رَبْطَة المُطايه) تُسند إليه في (المِدار) فوق البيدر نظرا لقوته وذكائه.. لذا نحرص على أن لا نطلبه منه في تلك الأيام.. غير أن يوما أسود حل بنا في موسم الحصاد، وأُبلغنا أن هجمة (زرگة) كبيرة للأمن ستداهم المنطقة، و(مطبعتنا) الثقيلة لا يحملها إلا (عبيّان) وهو (مُطي) أبو حسين الأثير. فأرسلنا على عجل من يبلغ أبو حسين بأن (الحزب) يرجوه أن يقوم (عبيّان) بهذه المهمة الطارئة!
وعندها صاح أبو حسين مستغيثا : الله أكبر.. حتى المُطي ما خلص من الحزب!".
* * *
كان أبوگاطع يسخر من السلطة، وحتى من الممارسات البيروقراطية لبعض رفاقه.. كان يوصل فكرته للناس باقرب طريقة إلى قلوبهم وهي السخرية.. وكان مستعداً للسخرية من أي شخص حتى لو ألبسها نفسه.. ويصوّر الكاتب طيبة الفلاحين المتناهية، المتحدثين والمستمعين، بلغة العارف ببساطتهم وعفويتهم، وكم تلاعب بعضهم ببعض وهم يسحرونهم بكلام، بعضه صحيح يستخدم لغرض آخر وبعضه (مغشوش) يمر بعقولهم فتقف امامه مبهورة!:
"وبالغ عبيد بن غافل (بعد خروجه من السجن)، في وصف المشقة التي لاقاها السجناء خلال إقامة السد الترابي حول مدينة الكوت، لوقايتها من الغرق، والسد المقابل للمدينة. ثم تعمّد استدرار العطف على السجناء بقوله: وبيناتهم ساده أولاد رسول الله.. وأجاويد أولاد حمايل.. وكل واحد منهم هِزّته (كيس التراب الذي يحمله) ما يشيلها المُطي تكرمون عن طاريّهَ !).
* * *
من بغداد إلى برلين
كانت لـ (أبوگاطع) القدرة على أن يضع نفسه موضع التندّر، لإمتاع القاري وإيصال رسائل لآخرين.. فقد كتب عام 1971 تحت عنوان "من بغداد إلى برلين/ غنم الشيوخ وثروة أبوگاطع"، عن رحلته إلى المانيا الديمقراطية للعلاج مع زوجته..
"مَنْ كان القاموس عُدّته في رحلة تحصيل الانگليزية، واستظهار المفردات وسيلته لتركيب فقراتها، فتصوّر أنك هو، فتنكبّ على القاموس متابعا مفرداته، تُقّلب الصفحات بحذر.. ولكن صوت السجان، وفي هدأة الليل، ووحشة الزنزانة، يقطع سلسلة الاستظهار، ومن فرط مخافة تنفصم زُرد الأفكار: هاي شكو عندك؟!
تجيب وقد أخفيت الكتاب بارتباك: سلامتك..! ماكو شي.. أما عريف الخفر الطيب، الذي يعرف حكاية القاموس، وله الفضل الأول في وجوده بين يديّ، فقد كان يحلو له القول: يا إستاد.. عليمن شِلعان الگلب.. ودوخة الراس، ما اتگلي لو تعلمت إنگليزي ويامن تحچي بالسجن؟!
ويوم رحلنا (الى المانيا الديمقراطية)، قاصدين المستشفى، كنت على مدى 300 كيلو متر أتحدث مع السيدة المرافقة، المترجمة، بإنگليزية أعجبت زوجتي إلى حد الاندهاشـ وقد لحظتُ ذلك فاغتنمتها فرصة وهمستُ بأذنها:
ـ هم گولي، بعد، ابن عمچ امّخلي شي من رطين الأجانب ما يعرفه؟!
فأجابت بفرح:
ـ صلوات.. صلوات.. چا انته إگليل قريت.. موش چنت تقرا على ضوه الفانوس لوجه الصبح!
ثم غادرت السيدة المترجمة، وقد اطمأنت على ترتيبات إقامتنا في المستشفى، وزايلني الرعب من تراكم الثلوج خارج بناية المستشفى حين دب الدفء بأطرافي ورحت أخلع الثقيل من ملابسي.. واعتزمت التعرف على المستشفى ومن فيه.
وخطوت على مهل في الممر الطويل.. ونفحتُ أول قادم مما أدخرُ (گد افتر نون) فحرّك رأسه ولم يجب، قلت في ذات نفسي، لعل صوتي لم يبلغه.. ثم أمسكت قطعة (لفظية) أخرى ورميت بها قادما آخر، متسائلا عن مواعيد الزيارات في المستشفى.. فحرك رأسه، بمعنى لا أفهم ما تقول، فألحفت، وتحذلقت، لكن صاحبي حرك رأسه بشدة مع ابتسامة اعتذار، وسأله زميل له عما أريد، فعاودتُ الكلام بتأن.. مظهرا حرف الراء مرة ومضمره أخرى.. وتحلّق حولي عدد كبير من المرضى، فغدا الأمر أكثر تعقيدا.. وهرعتُ أخيرا إلى الممرضات مستنجدا فما كان حالي أفضل، ووجدتهن أكثر جهلا بإنگليزيتي.
وانقضى يوم آخر، وكل شيء على حاله، وخامرني شك، بلغ مرتبة اليقين، أن الألمان لا يحبون التكلم بالانگليزية، حتى أولئك الذين يعرفون بعضها.
قلت ذلك شأنهم، وليس لي أن أفسّر أو أعقّب.. وحسبي منهم تلك الابتسامات الحلوة. وجلست مع زوجتي، وليس لأحدنا فضلُ علمٍ على آخر، فمثلما تستعمل الإشارات باليد للتفاهم مع الممرضات، كذلك أفعل، وتبخّرت نشوة التفوق التي استمتعت بها لأمد محدود. وذات مرة تشاركنا بالإشارات لتفهيم الممرضة ما نريد، فاغتنمتها زوجتي فرصة وثأرت لنفسها من غروري السابق وقالت:
ـ أثاري سوالفك، على راي أبو المثل (إقران الحويزة، ما ينصرف إلا بديرته..)، هم گمت اتسولف بيديك مثلي.. هلبت متعلم لك چلمه ألمانيه بهالمده الطويله اللي چنت ساجمنه بيها: خلّوني أقرا.. خلّوني ادرس.. لحد يحچي وياي.. تالي طلع تعلومك إقران احويزه!
غرقت في ضحكة طويلة، تحمل معنى الإقرار.. ثم قلت لها إن ثروتي من الانگليزي تشبه ثروة صالح بن أحميّد، واوجزت لها (السالفة).
* * *
إلهام ربّاني!
يمثّل هذا المقال ذروة استخفاف ابو كاطع بعقول المسؤولين والتحريض على اختيار الأفضل منهم.. فعندما كان خلف الدواح يصغي إلى إجابات مدير مؤسسة النقل، وهو يُعدّد أسباب أزمة النقل والمواصلات، التي كان من أهمها في نظره (تواجد!) سيارات الفولـگا والمسكوفيج في العراق، لأنها (تحمى) بالصيف و(توگف) ولابد أن يتعرقل السير وتنقطع المواصلات! فيتعطل وصول الركاب وتتعرقل الأمور! وهنا يلتفت خلف الدواح إلى الجالسين بمقهى الميثاق ويقول:
- ذيچ السنه ساچت العباس (سركال الجريه) حط عينه على ابنه الزغير (احميدي)، وصار عنده اعتقاد بأن (احميدي) لـگطه.. يفتهم أكثر من أخوته الكبار.. وگام يجيبه ويّاه للدواوين. ومعلومكم چانت الاصول بالريف، ما تسمح للطفل بـگعدة الديوان، لكن ياهو إله خلـك ويتبالش ويّ ساچت العباس بحچي زايد وناگص؟!
يوم من الأيام جابو (غِده) لساچت، والغموس دهن ودبس.. واحد من جماعتنا مقهور من الولد، راد يبهذله بالديوان، وچان ينشده: يگولون عنك يا (احميدي) تفتهم حيل.. اريد اسعلك سوعال: منين يطلعون الدبس؟
جاوبه احميدي: أم.. م.. ! حتى هاي ما تعرفها؟! يطلعون الدبس من (مزاليج) البصل!
وچان يگوم ساچت العباس على حيله ويگول: هاي خطوه.. خطوتين لبو فاضل.. إن چان امعلّمه.. يو گايل له على هالجواب.. ولكم هذا (إلهام ربّاني)
* * *
سناين جعـلوط
الازدواجية في المعايير وعدم المساواة، واحدة من القضايا التي ظل ابو كاطع يؤشرها في الصحافة وفي مجالسه.. وقد استخدمها للتعبير عن الاحتجاج على سلوك شاع في ذلك الزمان، ولازَمَ الطبيعة المشينة لسلوك السلطة في التعامل مع المجتمع فضلا عن المعارضين، بعد أن استبعدت الحلفاء عن طريقها..
وقد لازَمْتُه مدة طويلة، فلم أجده إلا منسجماً مع نفسه. وهو مستعد لأن يضرب مثلاً بنفسه، أو بصديقه خلف: "زارني خلف الدواح ضحى، في إدارة الجريدة، وجلس كعادته دون كلفة. قدمت له سيگارة وأشعلت واحدة لنفسي، ثم انصرفتُ للكتابة غير متحرّج من إعراضي عنه. وبعد قليل رفعت عيني عن الورقة وابتسمت له، لكسر حدّة الصمت، فحرّك رأسه حركة مألوفة لي، وأجاب عن ابتسامتي بأحسن منها، ثم نفض سيگارته دون عناية فسقط رمادها على المقعد..
اغتنمتها فرصة لمناكدته وقلت: والله مشكله.. المعيدي ما اتصيرله چاره ! غير حاطين جِدّامك نفّاضه، ليش تنفض رماد جگارتك على القنفه؟!
ضحك خلف وقال: من أول ما ورّثت جگارتك لهسه، فاطنلك، واشوفك كلما تجذب نِفَس تنفضها على اچتافك، هم موش على السكـملي! وانت جدّامك نفّاضه أكبر.. ردت اگلك.. وتالي شاورت روحي وگلت خايب يخلف اتظل طول عمرك شرّاي طلايب؟!هسّه ما دام انت بديتها وعاتبتني، لازم اگلك: علّم روحك يالله تحچي على الوادم !
قلت متصنّعا الجد!: آنه وحّد وانت وحّد.. آنه اكتب ومشغول فكري بالكتابه.. انت شنهو عذرك؟
قهقه خلف الدواح منتشياً وقال: سالفتك مثل سالفة شيخ جعلوط.. يوم من الايام، گِطع عگله ايسوي سناين للعشيرة.. جمع كل رؤساء الافخاذ ومذاريب العشيرة.. گاللهم: كثرت طلايب العشيرة ومشاكلها، واريد اسوي سناين مكتوبة، حتى تنضبط. صيحوا للملا يكتب المضبطه..
بدأ شيخ جعلوط يملي على الملا بنود المضبطه: أول شي، اليبوگ گرايبه ترجع البوگه امربّعه. ثاني شي اليصوّب ابن عمه هيچ عقوبته.. واللي.. واللي. ما أطوّلها عليك، سوّاها سير وسريده.
وآخر شي التفت جعلوط للملا وگال: اكتب ياملا.. اكتب: اولادي واولاد اخوي ما تشملهم هاي الشروط!
* * *
حيّة شيخ دبس
استخدم أبوگاطع، هذه الحكاية في تحريضه على سلوك بعض رجال الدين، وهم يعيشون على جهل الناس ويحوّلون وظائفهم الأساسية إلى ممارسات لا صلة لها بما رسمته الشرائع لهم.. فضلاً عن استخدام بعض السياسيين لهم أو لأساليبهم في الإيقاع بخصومهم..
وهذهِ الحكاية واحدة من أقدم الحكايات التي سمعها الكثيرون:
منذ مئة عام تقريباً، وفي مكان منعزل من هور الچبايش عاش الرجل المُسمّى (شيخ دبس) في سَلَفٍ عامر برعاة الجاموس والصيادين.. وقد جمع شيخ دبس كل السلطات بين يديه، يساعده في ذلك (مذروب السَلَف).
وقد وضع الشيخ قواعد لحياة السلف غدت أشبه بالقوانين فيما بعد، واختار لها صياغات مُحكمة، حتى يسهـل استظهارها وتداولها.
أذكر منها قوله حول ميراث الميت: (ثلث لشيخ دبس. وثلث لمذروب السلف.. وثلث للقُصّر الأيتام !)
ومنها قوله في الصيد: (لو صدت بُنّية وشبّوط، الخيار لشيخ دبس. ولو صدت حُرّة وچوشمه كلمن يندل اهلـه الحرة للحر! والچوشمه للصياد).
ومن حين لآخر يبيع بضعة أذرع في الجنة، لبعض العجائز، والشيوخ مقابل (طاسة روبه) أو (دالوچة) زبد.. وعلى العموم فقد كان الشيـخ، الذي لا يقرأ ولا يكتب.. ولا يفقه من أمور دينه شيئا، يعيش في بحبوحة ونعيم.. حتى حَمَلتْ إليه ريح لعينة، شيخاً حقيقياً اسمه شيخ علي، لا يدري كيـف أو مَنْ ذا الذي دلّه على هذا المكان المنعزل..
وقدّر شيخ دبس، أن أيام النعيم توشك على الانتهاء.. وأن أمره سيُفتضح على يد هذا (الطويرني) الذي يقرأ ويكتب ويعرف الكثير من أمور الدنيا. وفكّر الشيخ مع نفسه: إذا لم اتغدَّ به، سيتعشى بي. وأجهد فكره بحثاً عن وسيلة.. ثم بعد جهد هتف لنفسه (لگيتها) ونصب الفخ، جيداً، لاصطياد خصمه، والتخلّص منه.. وحالما اكتمل عقد الديوان في ربعة (مذروب) السلف. توجّه شيخ دبس إلى شيخ علي قائلا: شيخنا سوعال!
- تفضّل مولانا..
- تگدر تكتب (حيّه)؟
فسارع شيخ علي يكتب (حيّه): حاء.. ياء.. هاء.. فتناول القلم (شيخ دبس) من يد صاحبه ورسم إزاء كلمة (حيّه) صورة حيّه بلسانها الأسود، وذيلها الطويل!..
ثم حمل الورقة، ودار بها على الحاضرين، مصوّتاً:
- سامع الصوت عليكم.. بحظكم وبختكم.. يا هي الحيه الصدگ؟ اللّي سواها هذا المومن يو اللي آنه كتبتها؟
فدقّق الحاضرون النظر (وكلّهم أميّون) وأعلنوا: الحچايه للبخت.. الحيّه الصدگ اللّي كتبها شيخ دبس!
وهنا التفت إلى خصمه مزهوّاً، وجمع السبابة والإبهام، وحرّك ذراعه بقوة وقال: اشحسبالك؟ هذا العلم!
الخاتمة
كتبها المقاتل سيف الدين من الموصل
خاتمة هذا الاستذكار رسالة وصلتني اخيرا من أحد المقاتلين ونشرت على موقع التواصل الاجتماعي.. كانت أبلغ من كل ما كتب عن الراحل لارتباطها بحدث مهم:
سيدي شمران الياسري.. لم ألتقيك، لكني سمعت أبي يُحدّث صحبه غير مرة، بأنك أحببت العراق، ورفضت التعاطي والتآلف مع المنافقين والفاسدين، ونذرت نفسك، ثم منحتها للعراق، ففاضت روحك وانت تنشد قصيدتك عن العراق..
سيدي..
من الموصل، حيث وقف مليون عراقي أو يزيد على ثراها، منافحين عن كل شبرٍ فيها، حريصين على أن لا تصاب طفلةً، أو شيخٍ بأذى.. وحيث جاست حوافر خيولهم وهي تبرق مجدا وحماسا لطرد أعدائنا، من هنا، من بين ركام المعركة المجيدة، حيث سنبنيها بعرق أهل البصرة والناصرية والكوت والعمارة والرمادي وبغداد ومدن العراق الأخرى، من هنا، من مدينة تعذبت بخرافات العصر، أحييّك يا فارس الكلمات البليغة، ويا شاعر اللغة العراقية اللذيذة، ويا قاريء حروفها على صدى شعبية اللغة وحسچة المعاني العميقة..
أحييك حيث يرقد جسدك المعافى في تراب بعيد عن عراقك الغالي.. أحيي ذلك التراب الشريف الذي اصبح عراقيا حيث استراح جسدك فيه..
أحييك يا شريفا بلا حدود، وأحتفي معك بنصر العراقيين المظفر.. نصرهم المعفر بالدم بلا إنصاف.. أحييك وانت لم تشهد عذاب غزوهم الأرعن، وتفاهة من باعنا إليهم، وأحييك وأنت لم تشهد حلاوة نصرنا المقرون بحشود من التضحيات الغالية..
أحييك أبا گاطع يا فارس الصمت الحزين وفارس القول والكلمة.. ويا شجاعا لم تحفل بإرهاب الحاكم، ولم تتق غدره، حتى أتاك غادرا فنفحتهم بآيات حكمتك، ولم تزل تطوقهم تلك الحكمة البليغة وتنزع اقنعتهم..
بوركت يا شمران، وانت تنتصر اليوم مثلما انتصرنا، غير أن نصرك محفور في ضميرك أصلا كأي واثق به مذ ولادته..
سلاما لروحك ترقد في محبات العراق بلا منافسين..
لن تنسينا فرحة النصر قوافل الشهداء وانت منهم، ومعكم ملايين الشهداء الذين تروّت بهم مدن العراق وقفاره وزنازينه ومهاجره.. لن تنسينا بهجتنا بالمضحين من المقاتلين والنازحين.. فكلهم قدموا تضحياتهم وكلنا نمنا ليلنا بظلال سيوفهم ووهج رماحهم..
ابن صديقك
سيف الدين ناصر