ادب وفن

صفحات من قصص الحب الجميلة / خلود البدري

«الحب خلاصة الحياة، فمتى أحب الناسُ تقلصت عنهم كل ظلال الشناعة فرأوا كل ما فيهم جميلاً، ومتى رأى الناس كل ما فيهم جميلًا عرفوا الحب، ومتى عرفوا الحب عرفوا الحياة».
ميخائيل نعيمة
أخذ الحب مرتبة متميزة في الثقافة عموما وفي الأدب على وجه الخصوص، وكتب فيه الكثير من الشعر ونسجت حوله قصص وحكايات وروايات عديدة استطاع ناسجوها من روائيين أو شعراء أن يُعبروا عن العديد من تجاربهم الحياتية وما حملته من تفاصيل تنوعت بين مفاصل الحب ونهاياته وشجونه. وعبر تلك الكتابات من أشعار وروايات تمكن هؤلاء من أن يحملوا إلينا العديد من الرؤى والمفاهيم والتعبيرات التي جعلتنا نفهم طبيعتنا الإنسانية ومشاعرنا على وجه أنصع وأكثر وضوحا. وما زال الأدب العربي القديم والحديث لا يتوقف عن سرد قصص الحب الجميلة، وهو «الأدب الذي طالما بحث عن إجابة لسؤال لا ينفك يؤرق الجميع، ما هو الحب؟ وفي السعي الأدبي المتواصل هذا، حفلت النصوص بموضوعات الحب والمرأة والجنس والعفة، وأبحر في الحديث عن مواضيع الحب والعشق والغرام فقهاء كبار وشعراء وأدباء. نظر إليها أصحاب بعضهم، مثل ابن حزم وابن الجوزية بوصفها مواضيع تعكس العلاقات بين الناس يجب الحديث عنها، جسدتها الصوفية عن طريق نقل الوصف الحسي الى وصف رمزي ليؤكد العلاقة بين العاشق البشري والذات الإلهية. أما الشعراء ولا سيما من عرف بالمجون منهم، مثل أبي نواس وبشار بن برد، فبحثوا وتغنوا بمواضيع الحب والغرام بشكل حسي وجريء، لكن بمسحة إنسانية ما جعلها محبوبة ومقبولة لدى الناس على الرغم من خدشها للحياء في أكثر الأحيان».
ويبحث الشاعر في القصيدة «الرومانسية» خصوصا عن المرأة الملهمة فهي في تصوره تحفز فيه الإلهام على الكتابة, والكاتب كذلك يبحث عمن يلهمه ويحفز فيه طاقة إيجابية تثير القارئ ويتفاعل معها وتأخذ كتاباته حيزا في الذاكرة الجمعية .وفي بطون الكتب قصص الحب الكثيرة نقلها لنا الشعر أو المراسلات منذ بدء التدوين وعلق في الذاكرة, ورددتها الجموع حتى وقتنا الحاضر، من العصر الجاهلي حيث أمرؤ القيس وعشقه ابنة العم « فاطمة « كما كان يطلق عليها. إلى العصر الحديث.
« أفاطم مهلا بعض هذا التّدلّل
وإن كنت قد أزمعت صَرمي فاجملي
وإن تك قد ساءتك منّي خليقة
فسلّي ثيابي من ثيابك تنسلِ
أغرّك منّي أنّ حبّك قاتلي
وأنّك مهما تأمري القلب يفعل «
خلّد الشعر قصص الحب, وارتبط اسم العاشق بملهمة واحدة وفي بعض الأحيان بأكثر من واحدة. عموما الصدق في المشاعر الذي يطغى على كتابة ما ,هو الذي سيأخذ القارئ إلى ما أراده الشاعر أو الكاتب. لكننا نلاحظ الشاعر قد تحول من بحثه عن الحب الصادق الذي ينطلق من خلاله للكتابة, إلى صورة يرسمها في خياله أو من الواقع لتلك الملهمة فيغمره حب مشوش وغير حقيقي.
وقد يكون «الظل الذي رسمه شبحيا لامرأة ما, فيشعر القارئ الذكي بالشبح لا بظل الحقيقة, وقد نجد عند شاعر آخر تراقص عدة أشباح وليس شبح واحد.
كان لشعراء الحب الصادق الحضور الطاغي في أدبنا العربي, وقد خط اسم الشاعر واسم ملهمته على خط واحد. وعلى قائمة هؤلاء الشعراء مجنون ليلي قيس بن الملوح وملهمته ليلى العامرية ابنة عمه يقول في قصيدة له:
«أما والذي يبلو السرائر كلها
ويعلم ما تبدي به وتغيب
لقد كنت ممن تصطفي النفس حلة
لها دون خلاّن الصّفاء حجوب
وأنّي لأستحييك حتّى كأنما
علي بظهر الغيب منك رقيب
تلجين حتى يذهب اليأس بالهوى
وحتّى تكاد النّفس عنك تطيب
سأستعطف الأيام فيك لعلها بيوم سروري في هواك تؤوب».
«قيس» الذي مات هياما. عندما تزوجت ليلى بغيره فتاه عقله وبات لا يعرف من الدنيا غير التغزل بليلى ورسمها «أطلالها». فهل انتهى الإلهام عند الشاعر بإبعاد ليلى عنه؟ نحن نعلم أن قيس هام حبا وجنونا بليلى وقد أزداد عشقا بها فقاده هذا العشق إلى التيه « الجنون «.
« أيا هجر ليلى قد بلغت بي المدى وزدت على ما لم يكن الهجر
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر
فيا حبها زدني جوى كل ليلة ويا سلوة الأيام موعدك الحشر
.......
فيا حبذا الأحياء ما دمت فيهم ويا حبذا الأموات إن ضمك القبر
وإني لتعروني لذكراك نفضة كما العصفر بلله القطر
إلى أن يقول في نفس القصيدة :
فلو أن ما بي بالحصا فلق الحصا وبالصخرة الصماء لانصدع الصخر
ولو أن ما بي بالوحش لما رعت ولا ساغها الماء النمير ولا الزهر»
ولو أن ما بي بالبحار لما جرى بأمواجها بحر إذا زخر البحر .»
وقصة حب الوزير ابن زيدون مع ولادة بنت المستكفي والتي حفظ لنا التراث العربي أجمل ما قيل من شعر فيها ، ألا تكفي قصيدة أبن زيدون أضحى التنائي التي أطرت حبهما بإطار خالد قلّ أن نجده في الشعر الرومانسي الحديث .
«أضحى التنائي بديلا من تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا
ألا وقد حان صبح البين صبحنا
..حين فقام بنا للحين ناعينا
من مبلغ الملبسينا بانتزاحهم
.. حزنا مع الدهر لا يبلى ويبلينا
إن الزمان الذي مازال يضحكنا
أنسا بقربكم قد عاد يبكينا
غيظ العدى من تساقينا الهوى
فدعوا بأن نغص فقال الدهر: آمينا
فانحل ما كان معقودا بأنفسنا
وأنبت ما كان موصولا بأيدينا».
الحب الذي لم يدم بين الأميرة الأندلسية الجميلة «العاشقة»وبين الشاعر الوزير «العاشق» ينتهى بغيرة ولادة من الجارية السوداء التي كانت تملكها على حبيبها الشاعر.
مي وجبران خليل جبران شاهد آخر على حب عذري .لم يلتق جبران بمي رغم استمرار علاقتهم لأعوام . مي التي أحبها الجميع المرأة المثقفة التي تجيد عدة لغات, تتورد كزهرة فواحة بهذا العشق وتذبل وتنطفئ عندما يموت جبران لتدخل مستشفى الأمراض العقلية وتموت بعد فترة من الزمن وقد خلفت وراءها قصة حب خالدة. نقرأ ذلك من خلال الرسائل التي كانت تتبادلها مع جبران..
«.. تقولين لي أنك تخافين الحب, لماذا تخافين يا صغيرتي؟ أتخافين نور الشمس؟ أتخافين مد البحر؟ أتخافين مجيء الربيع؟ لماذا يا ترى تخافين الحب؟
أنا أعلم أن القليل من الحب لا يرضيك. كما أعلم أن القليل في الحب لا يرضيني. أنت وأنا لا ولن نرضى بالقليل. نحن نريد الكثير . نحن نريد كل شيء. نحن نريد الكمال. أقول يا ماري إن في الإرادة الحصول. فإذا كانت إرادتنا ظلا من أظلال الله .فسوف نحصل بدون شك على نور من أنوار الله .لا تخافي الحب يا ماري».
لقد خافت ماري من الحب وكانت النهاية المأساوية كافية لشعورها بهذا الخوف وبما سينتظرها في المستقبل.
الشاعر الطبيب إبراهيم ناجي وملهمته لقصيدة الأطلال ملحمته المطولة, القصيدة التي تغنى بها العشاق والتي غنت أم كلثوم بعض أبياتها. ومطلعها : يا فؤادي رحم الله الهوى
كان صرحا من خيال فهوى «
وقد أنهت أم كلثوم اختيارها لأبيات من القصيدة بالمقطع التالي :
« يا حبيبي كلّ شيء بقضاء
ما بأيدينا خلقنا تعساء
ربّما تجمعنا أقدارنا
ذات يوم بعدما عزّ اللّقاء
فإذا أنكر خلّ خلّه
وتلاقينا لقاء الغرباء
ومضى كلّ إلى غايته
لا تقل شئنا فإن الحظّ شاء».
قصة الحب العاثر. الذي خلف وراءه الاطلال تلك القصيدة الخالدة, التي تحكي حب إبراهيم ناجي لجارته التي تزوجت وابتعدت وظل هو يتزود من منبعه ليكتبه أجمل قصيدة.