ادب وفن

"العيون السود".. حين يقص الشاعر ويشعر القاص / عبد اللطيف الســعدي

القاص كريم عبد في مجموعته القصصية هذه هو شاعرٌ يكتب القصة. فليس غريباُ إذا أن تنساب استرسالات وصور وشخوص قصص الكاتب والصحفي، والشاعر كريم بتراتب يحكمه الإيقاع ويفصح في الكثير من الحالات، عن جمل وإيقاعات شعرية، بصياغات الراوي والسرد القصصي المحبك. فمجموعة القاص، الشاعر، أو العكس، "العيون السود"، تعجُ بالكثير من الأمثلة الصارخة التي تؤكد ما ذهبتُ إليه.
يصفُ حالة إنسانٍ، فيخيلُ لك وصفاً لحالةٍ من حالات الطبيعة، والعكس، إذ يتحدث عن واقع منطقةٍ، أو يصفُ مكاناً طبيعياً، ليعبر بتداخل، عن حالات وإيقاعات الروح لشخوصه كما أظهرت قصص المجموعة.
"إنتاج فيلم لمخرج في العاصمة الروسية موسكو، يستدعي إستحضار بيئة الفنان الحلبية. ففي حوار داخلي يقول المخرج أنا "بحاجة إلى بيئةِ حلب، كيّ أصوّر، أحداثَ الفيلم، حيث عاش الرسام الحزين، وأنهى حياته، منتحراً، بتلك الطريقة المأساوية". في هذه الفقرةِ، من قصته "زيارة"، يظهرُ حاجته، حاجة الإنسان، أيَ إنسان، لبيئته، لكي ينجز إبداعه، إيماناً بالعلاقةِ، بين الوجود والوعي، وثم الفعل والنشاط. فالكاتب هنا، وبنفس الوقت، يرسي أحدَ أركان بناء القصة. وقصة "زيارة" تميزت، بلغتها السلسةِ، والواقعية، المترفعةِ عن "الواقعية" الساذجة". وهو عبّر وبكل بساطةٍ، عن إحدى حالات القلق الإنساني، ووقوفه ربما حائراً، بين الطموح والأمل، والواقع.
قصص كريم عبد، وكما أشرنا، تورد حالات، إنسانية، تتسعُ مدياتها وتداعياتها ومعانيها. ويبقى القارئ متفكراً متأملاً بين موضوعات، مع جدلية علاقاتها: الريفُ والمدينة، الطفولةُ، والشيخوخة. المرأة كعنصر فاعل، وبكل ما تعنيه، من وجود وحاجات وحقوق، والأنوثة ومعانيها. فالسرد المكثف، يفصح عن، ويعج بقيم إنسانية، واجتماعية، وأخلاقية، وسياسية أيضاً. وكريم يورد في عددٍ من قصصه، مراحل إجتماعية وسياسية، في مسيرة بلاده "العراق". ولم يبخل بتحديد موقفه الواعي لابعاد تلك الظروف. وهنا تمتزجُ الذكريات، ذكرياته، كإنسان، ومواطن، وثم قاصٍ مبدعٍ، وتتوالى بقوة إسترجاعاته، وتظهر صور تتداخل فيها مراحل الطفولةِ والمراهقة، وصولاً إلى مرحلة البلوغ والرجولة. ونجدُ كل ذلك مجسداً، أو معبراً عنه في قصته، "العيون السود" التي صارت عنواناً للمجموعة.
في قصص المبدع، كريم عبد، تتزاحمُ المشاعر، والأحاسيس، المتناقضة أحياناً، وتبرز فيها في الغالب، التضادّاتُ: حبٌ- غضب. فرح وسعادة- ألم وحزن. وعبر هذه المتضاداتِ، يرسم القاصُ، سرداً لسيرة حياةٍ لمجتمعٍ عاش فيه ونشأ من أجله، بدءاً من عائلةٍ، صغيرةٍ عاش في كنفها، وانفتاحاً نحوالأعم والأوسع. ويضع خطوطاً لمراحل مرَ بها المجتمعُ ولأحداثٍ عايشها الكاتب، أو نقلها عن أسلافه من أب أو رجل مسنٍ، التقاه عبر مسيرةِ حياته.
في قصص كريم، تلمستُ الكثير من البوح، حتى عن هموم الجنس وأبعاده الإجتماعية في ظل سيادة الأفكار والقيم البالية. ولقد عبر عن ذلك بأصدق تعبير، حين أورد تداعيات شخصية سلمى، ومعاناتها وواقع كبتها لمشاعرها، في قصته المعنونة "وددتُ لو تجلس على الرصيف". وكثف هنا تلك الأحاسيس بصراخها الداخلي حين عبرت بقوة، وهي في لحظة خلوة "لو أنها وحيدة وسط الغابة، لتصرخ وتصرخ، حتى تصرخ معها جميع الاشجار".
وحين الحديث عن شاعرية، أو شعرية نصوصه القصصية، المكثفة نورد بعض جمل الكاتب التي تنطوي على صورٍ شعرية وخاصة في قصته "نهاياتُ الأشجارالعالية": "أشجارٌ عاليةٌ، لها نهاياتٌ خضراء، متطاولةً، تشرئبُ إلى السماء، فتكادُ تلامسها". أو "وتتوهج خضرةُ، الأشجار .. وتضجُ أغصانها، بضجيج العصافير، يتخللها ضوءُ الشمس، وبرد الفجر اللذيذ".
قصصُ الشاعر القاص، كريم عبد، عبرت عن توجهات، وقيم إنسانٍ، ملتزم بالحياة بأبهى معانيها، وأفصحت عن مواقف كاتب، عبر شخوصه، وأحداث قصصه، عن قضايا: الحرب، والقمع، والثورة. عن الحب. الجنس. الكبت. عن الرجل والمرأة. وكل ذلك جاء عبر، كلماتٍ وجملٍ، ربما تميزت ببساطةٍ، في بنائها، وتركيبتها اللغوية، دون الإيغال ببلاغاتٍ مفتعلة، ولكنها أظهرت عمقها بضرباتٍ مؤثرةٍ وفاعلةٍ، في تأثيرها على وعي الآخر، بوجهة الإرتفاع بإدراك الواقع، سبيلاً للإسهام في فعل التغيير، نحو الأفضل. وهذا جوهرٌ، أساسيٌ وهامٌ، أو خلاصةٌ جوهريةٌ، في رسم دور الكاتب أوالمبدع في جميع ميادين الإبداع والمعرفة. وجمعت قصص دحام، بين ثلاثة أركان يتمكن، أوأظهر الكاتب تمكناً فيها. وهي القصُ، وكتابة الشعر، والقدرة على كتابة المقالة الصحفية. هي أركان تداخلت في نصوص سرديات كريم وتماسكت، لتشكل معاً، وبجدليةٍ، أسلوبا أو منهجاً، مبدعاً، في كتابة القصة.
كتاب "العيون السود" لكريم دحام إذاً، يصح أن يكون أنموذجا للبحث الإبداعي، لإيجاد أدواتٍ مُحدَثة، متجددة، في خلق منجزات إبداعية. وهذا أحد سمات الكاتب أو الفنان في شتى ميادين الإبداع.