ادب وفن

"فجر النهايات".. أسطرة القصيدة ومهارة الاسترجاع / د. ناظم حمد السويداوي

لا جدال، ان الشعر حلم يسيطر على الذات، يبني فيها مدناً واشجاراً وحقولاَ شتى، وحين تمارس الذات حلمها، فإنها تمارسه بفعل الحياة، ليصير قضية تتحرك في دائرتها كل اشكال العطاء الذي يحيل كل منافذ التأمل والتصور الى واقع ملموس نمارس فيه حياتنا اليومية.
وبعيداً عن قوة العُرف ورتابة التقليد، قريباً من كسر المواضعات التي لا تريد للحلم ان يتصادر بزاوية خفية ضيقة وسلوك وهمي فارغ، لتتولد – عندئذ – اللحظة المشحونة بانسياح الرؤيا الى افق اكبر على ارضية الشاعر الخصبة ببذار العطاء. وهذا الفعل الابداعي غالباً ما يكون حراً يمارس سلطته بمهارة سحرية فائقة، وهو يندس عميقاً في دهاليز الذات المتألمة، ليمنحها شحنة تعبيرية طارئة، تحاول من خلالها الوصول الى كل الطقوس المقدسة التي جاء بها "الآخر" وهي تستفيق من مجسات الخلق الشعري، وتتماهى كثيراً مع الخيال عبر خبرة جمالية ترتقي الى التصوير العفوي للاشياء. على ان الشعر كما يعلمنا بيكاسو: ليس حقيقة ولكنه كذبة، تجعلنا ندرك الحقيقة، او على الاقل تلك الحقيقة التي كُتب علينا ان نفهمها.
وحين وقع بين يدي ديوان الشاعر أوس حسن رحت أقلب في تلابيب كلماته المنفتحة على اكثر من تأويل، فوجدته يلتقط حبات الاساطير لينثرها على مريديه، فعتبة العنوان "فجر النهايات" تدلنا على شيء تخفّى خلف هذا الفجر، وداخل قنوات النص تحديداً، بتعبير آخر، فان نصوص الشاعر بمجملها، تعالج الفجر بموروث ميثولوجي "اسطوري" ذلك ان تخصيب النص الشعري بهذا الشكل يطرح دلالة الانفتاح على اكثر من معنى، لذا فان المقترب من هذه النصوص، يمكن ان يجسّم تفسيره على تأويلات تخضع لرمزية الفجر وتموضعاته في داخل النص، ابتداءً من كتاب الخلود والنار، وصولاً الى جيفارا وابواب روما، ورمز الجمال فينوس، وحتى حصان طروادة وقداسة البحر لم يسلما من ذاكرة أوس المخيفة.
ويبقى السؤال المثير للجدل، لماذا اختار الشاعر هذا الاسترجاع الاسطوري والرمزي ليقيم فوقه بنيانه المرصوص. الاجابة لا تأتي تلقائياً، لكن ثمة امور تحتم على الشاعر ان يحتفي بكل هذا الارث، وان ينفتح اكثر على اسئلة واشكالات الكشف للواقع المزيّف الذي يعيشه بهذا الجلال المأساوي، وان يمنح ذاته المتخفية مناخاً تراجيدياً حزيناً، يمكن ان يتلون بكل قصيدة، ليعطيها نكهة القبول عند المتلقي.
ويقيناً ان استدعاء الالهة له ما يبرره ونحن نتابع اول نصوص الشاعر. ففي قصيدة "ابنة الخريف السمراء نلحظ مجموعة من بوادر الرفض في موسم تساقط الاوراق، التي تحيلنا الى خطاب ينتهك المهادنة ويلعب المفارقة والتجريب في اقصى حدودهما:
يا ابنة الخريف السمراء
ايتها المبللة بندى القمر
والمعمدة بماء العشب
ايتها المسافرة في حقائب كلكامش
والقادمة من الرحيل الى الرحيل
ايتها الغامضة كالموت.. والبعيدة كالطفولة
والحاضرة في دمي كالمستحيل
لن امتطي صهوة حلم عجوز
ينطفئ عند اول النهايات
لن ازرع النجوم في حدائق الشتاء
لن اشرب الليل..
لن ارفع ثياب الفصول بقصائدي
ما يتوقعه القارئ هنا من تراتيبية سياق، هو هذا التأسيس الرافض لابنة الخريف السمراء المتعارضة مع الذات بهذا التصريح التأبيدي الذي تكررت به "لن" 13 مرة، وفي هذا اشارة الى قوة الردع الذي تمارسه الذات حين تشعر بالقهر والتهميش والاقصاء، وهي ذاتها التي لم تنجح في كسر ذات قوية عصية على الترويض، وهذا الفعل وهذه الممارسات ما هي الا دوال لقهر "الآخر" المنفي على الذاكرة، الداخل فيها.
ان الكشف عن نصوص أوس حسن لا توضح جانباً من تاريخية الرموز وحسب، وانما يخفف مقادير الالتباس كذلك، لاسيما في مسألة الترميز الاسطوري وبنائه الفني المتشكل على توظيف الذات وعلاقتها بالآخر. وهذا الذي يدعو الشاعر الى ان يضيء الكثير من الجوانب المظلمة بثقافة واعية فاهمة لمقتضيات المشهد.
ان هذا الجسم الجديد في قصيدة "أوس" ما هو الا فكرة فلسفية تخضع لمقاييس الذات، بتناولات توليدية وتجريدية ذات منحى تقني يصوغه بصورة ناجزة، وهو يقلب النظرة ويحدث تواشجات جميلة يبلغ من خلالها غالية نفسية تنزع الى التسامي، وقد نجح في اقامة علاقاته المتخيلة مع الرمز والالهة. وكل هذا يتصل بالمبثوثات المتناثرة في النص بشكل ملفت للقارىء:
لا تسأليني من انا يا صديقتي
انا من ارضعتني "فينوس" حزنها الابدي
واورثتني حصان طروادة
انا سفر الخديعة الاول في كتاب كلكامش
تخضع هذه الترميزات الى خارطة الاسترجاع التي يرسمها الشاعر للماضي العتيق المحمّل بكل هذه الشخصيات الاسطورية، ما شكّل قوة خافية في نصه. والشاعر لا يتوانى في هذا، تطميناً للذات، فهو يرى ان الجديد والمبتكر لم يعد ممكناً من دون هذا الوريث الخارق الذي يحقق له عالمه الاثيري. هكذا تبدو دعوات "أوس" وهو يخلط التغني بالماضي ومآثره بالتوق الى تجديد الحال بعيداً عن الراهن البائس. وهذه "الثورة" المقلوبة في قصيدته، هي ذاتها الثورة القائمة على عناوين تاريخية يضع فيها الشاعر قدمه ليسترجع اخبار السالفين في حاضره المقيّد المبني على الافتعال الذي يختزن الكثير من التقاطعات والتلاقيات في متن القصيدة.
ويبدو ان الطقوس والتقاليد والرموز التي يحتفي بها الشاعر، هي ذاتها التي تتباهى بها الطبقات الفقيرة في المجتمع. وقد نجح "أوس" في توظيفها لصالحه وتحويلها الى فعل حضاري ببناء مجازي جميل، وهذه اللازمة الجمالية، انما جاءت لتوكيد وجود الانسان، لذا بدا على الشاعر انه يعتلي قمة شاهقة، يستطيع من أعاليها ان يتأمل ما هو مذهل، وان يرى "الآخر" على انه الكائن الذي يشكل بواكير الجمال بسطوته المتعالية وهو يزرع كل هذا الايقاع في النص الشعري:
هل تذكرين عندما كنا طفلين؟
نلعب تحت غصن الزيتون
وسور بيتنا القديم
نفترش الارض عطراً ونوراً
نغني للثورة ... لجيفارا
والراية الحمراء
نكتب على تعاريج الغيم قصتنا
واحلامنا الصغيرة
ولأن الشاعر يخاطب لحظات التحول في عمر الانسان والوجود، وهذا الانسان "الآخر" انما هو معرفة على الشاعر ان يتقن صنعتها، فلا يسلبها شيئاً، بل يمنحها كل شيء. ففي الحب تجسّد الذات هويتها في التنوع، فهي منتجة الانفعال في الاتصال، والمتعة في الألم، والحياة في الموت، وهذه الجدلية في ادنى احتمال، هي المفازة التي يريد الشاعر تفسيرها لنا بطريقته الخاصة:
ليلك طيف حزين
يرتدي سكون الموج وبياض الراحلين
خلف الازمنة البعيدة
ليلك ليس كأي حزن تجره خطاي
ليلك وجع القصيدة
وانين الناي في منفاي ..
ان الشاعر من خلال هذا التوظيف لليل الحزين، اراد ان يفسر لنا الفاعلية الشعرية على وجود آخر غير منظور في المدى القريب، لكنه استحضره كعنصر مركب للحزن، فهو عندما يستحضر الليل، فانه يستجمع في ذاكرته كل هذا الاستبداد الذي يعانيه من "الآخر" الذي لا يحقق له وجوده في الحياة. وهذا يشكل برأينا، صورة متأرجحة لعلاقة الذات بالحقيقة، فالصورة هي صورة الشاعر، والصوت هو صوته ايضاً. معنى هذا، ان الذات تريد ان تملأ فراغاً وغياباً، والقصيدة وحدها القادرة على ذلك.
هذا يعني ان اللغة عند الشاعر باتت هدفاً قابلاً للتحول، انها بالنسبة اليه تواصل وتبادل، وشاعرنا لايخترع الكلمات، لكنه يبتكر اشياء يريد منها ان يقنع "الآخر" بحجته، وبدت عنده براعة التوظيف حين لجأ الى المقدّس، وهو يسعى الى هدف معين يريد الوصول اليه، ليقنع المقابل بمناخه الشعري، بخفقات مضطربة. ويكفي ان نقرأ هذه القصيدة لنفهم على اي وعي حاد اتكأت الذات لترمي بثقلها على هذا التناص القرآني الذي تكرر عنده في اكثر من موطن:
تلك هي النفس وما سواها
فألهمها شعرها ونجواها
انا من سلالة الاحرار العابرين
والريح موطنها
والريح مأواها
هذه التناصية وغيرها، تعطينا تصوراً للمرجعية الثقافية والمخزون الثر الذي يرجع اليه الشاعر، وقد تفنن في هذا الاقتباس بوصفه لازمة لمواجهة شيء عارض في حياته، لما يحمله هذا التلاقح مع النصوص الأخرى، من ثراء في مدلولاته الرامزة، فهو اما يسعى الى اثبات هويته، او اعادة صياغتها من جديد بالشكل الذي يرضيه. وكأني بالشاعر قد شطر نفسه، وخلق لها ذاتاً أخرى يستعين بها على غربته التي يعيشها.
اخيراً.. ان الشاعر عمّق لنا رؤيته المعاصرة للأشياء، بشكل يعكس فيه عمق الجدل الذي يعانيه، وقد ساعدته مخيلته الخصبة على انتاج نص ثري بالدلالات والرموز المتناثرة، واختصر لنا الكثير من ما يود ايصاله الينا بلغة شفيفة، فكان بحق مليئاً بالثقة والتحدي.
ونحن اذ نحاكم نص الشاعر فلنا معاييرنا في تقييم تجربته، فكل خطابه عن الحب والانسان والجمال والحزن، انما هو تعبير عن ارضية "من – الى" وكل نصوصه الـ "34" كانت رسائل تنفتح على سؤال الهوية التي يريد الامساك بها ليعبر الى شاطىء الامان، الهوية التي تحاول عبر ارتحالاتها ان تلامس لحظة الدهشة المتمازجة بين التراث والحداثة. فله العُتبى ومزيد من الرضا وهو يحمل كل هذا الهم بخلفية ثقافية ندرت عند معاصريه، فكانت بصمته التشفيرية واضحة في سماء الحداثة.