ادب وفن

لوحة "بائع الرقّي" لجواد سليم قد تباع بربع مليون دولار

عدنان حسين أحمد
ليس غريبًا أن تصل بعض اللوحات والأعمال الفنية العربية والشرق أوسطية إلى المزادات العالمية مثل كريستيز وسوذبيز ولكن اللافت للنظر أن تُخَصِّص هذه المزادات المشهورة منصات عالمية لجذب الشخصيات والتجّار المُولعين باقتناء الأعمال والتحف الفنية العربية والإسلامية. فسوف ينعقد مزاد كريستيز في 25 تشرين الاول الجاري ليقدّم لزبائنه قرابة 60 لوحة لعدد من الفنانين العرب والشرق أوسطيين أمثال محمود سعيد، ورمسيس يونان، وأحمد عسقلاني من مصر، وفاتح المدرِّس ومروان كسّاب باتشي من سورية، وشفيق عبّود وهيلين خال من لبنان، وبهمن مُحصّص، وسهراب سبهري، ومنير شاهرودي فرمنفرمائيان، وكوروش شيشه كَران من إيران، إضافة إلى ستة فنانين عراقيين وهم حافظ الدروبي، جواد سليم، شاكر حسن آل سعيد، محمود صبري، ضياء العزاوي ومهدي مطشّر وهم مدار بحثنا ودراستنا النقدية. فلقد ارتأينا أن نسلط الضوء على هذه اللوحات التسع من دون أن نهمل ثيماتهم وتقنياتهم ورؤاهم الفنية التي وجدت طريقها إلى سطوحهم التصويرية بعد عقود من الدراسة والبحث والتجريب.
يُعتبر الفنان حافظ الدروبي (1914-1991) رائدًا من الروّاد الذين أسهموا في تأسيس الحركة التشكيلية في العراق، تعلّم الرسم على يد عدد من الأساتذة نذكر منهم شوكت الرسّام. ثم بدأ برسم البورتريهات والموديلات التي جعلت منه فنانًا تشخيصيًا قبل أن ينتقل إلى رسم المَشاهد الواقعية لأَحياء بغداد، وشوارعها، وأزقتها. حصل الدروبي على بعثتين دراستين مهمتين، الأولى إلى إيطاليا عام 1937، والثانية إلى لندن عام 1946 لإكمال دراسته في جامعة غولد سميث. أسس مع عدد من زملائه "جمعية أصدقاء الفن" عام 1941 وشارك في جميع معارضها، كما أسس "جمعية الانطباعيين العراقيين" عام 1953 وأحبّ هذه النزعة الفنية التي تنقل صورة الواقع من الطبيعة مباشرة كما تراها العين المجرّدة بعيدًا عن التخيّل والتزويق. وسوف تُعرَض له في مزاد كريستيز ثلاث لوحات، الأولى تحمل عنوان The public accomplishment التي أنجزها عام 1972، أما اللوحة الثانية فهي مُجرّدة من العنوان وقد رسمها الفنان عام 1975، فيما لاذت اللوحة الثالثة باسم "مشهد لشارع في بغداد" وقد أنجزها الدروبي عام 1976، وتتراوح أثمانها التقديرية الأولى بين 13.000 ألف و 77.000 ألف دولار أمريكي.
أما الفنان جواد سليم (1919-1961) الذي درس النحت في باريس وروما ولندن وأسس مدرسة عراقية للفن الحديث، وله شواهد كبيرة مثل "نُصب الحرية" ببغداد وعشرات الأعمال الفنية الراسخة في الذاكرة الجمعية لمحبي الفن التشكيلي في العراق والوطن العربي. وسوف تُعرض له في المزاد لوحة "بائع الرقّي" التي أنجزها عام 1953. وقصة هذه اللوحة تعود إلى مشاركته في أحد البرامج التي تنظم المعارض الفنية في فيلادلفيا وشيكاغو وبيتسبيرغ وتتبادل الفنانين والدارسين والكُتّاب وتدعمهم. وقد شارك جواد سليم في هذا البرنامج وتبرّع لهم بلوحة "بائع الرقّي" تقديرًا لدعوتهم، وعرفانًا بالجميل الذي أسدوه إليه. تجمع هذه اللوحة بين استلهام جواد سليم لتقاليده الشرقية والتأثيرات الغربية التي تركت بصماتها عليه من خلال دراسته المتواصلة في باريس ولندن وروما. تمثل هذه اللوحة العراق الحديث أو كما يُطلق عليه بلاد الرافدين، ومهد الحضارات. رسم الفنان تكوين لوحته بأشكال هندسية متعددة يهيمن عليها الشكل الهلالي وخاصة شرائح الرقّي في إشارة واضحة إلى الهلال الخصيب في منطقة الشرق الأوسط. ما يميز هذه اللوحة هو مناخها اللوني الهادئ، وانسجام المفردات التشكيلية المكونة لسطحها التصويري. أما قيمتها التقديرية فتراوحت بين 200 ألف وربع المليون دولار وهي أغلى لوحة عراقية ضمن مجموعة الفنانين الستة إذا لم تحدث مفاجآت تقلب توقعات الخبراء رأسًا على عقب.
تُعرض للفنان شاكر حسن آل سعيد (1925- 2004) لوحتان متناقضتان في الشكل والمضمون، الأولى غير معنونة يتألف تكوينها من ثلاثة طيور واقفة على أغصان شجرة يانعة الخضرة تُذكِّرنا بالزخارف العربية والإسلامية التي انهمك بها ردحًا من الزمن قبل أن ينتقل إلى المنحى الصوفي والتجريد المطلق. وقُدر ثمن هذه اللوحة المنفّذة عام 1952 بـ 90 ألف دولار . أما اللوحة الثانية التي تحمل عنوان "جدار من الكرنتينة رقم 1" فقد أنجزها عام 1979، ونفّذها بتقنية التطريس "المحو والكتابة من جديد" وهي تُحيلنا مباشرة إلى العديد من لوحات أنطونيو تابيس. العمل متناسق لونيًا ومريح بصريًا، ولم ترتفع توقعات ثمنه عن اللوحة السابقة.
ساهم آل سعيد مع جواد سليم في تأسيس جماعة بغداد للفن الحديث التي تركت تأثيرًا كبيرًا على الفن العراقي الحديث، كما ساهم في تأسيس "جماعة البُعد الواحد" واستلهم الحرف العربي بعد أن ودّع التشخيص كليًا ولاذ بالتجريد ومعطياته الفنية التي أخذت بتلابيبه في العقود الأخيرة من حياته.
لعلها سانحة حظ أن يُشاهد المتلقي العراقي بلندن لوحة Grief للفنان الراحل محمود صبري (1927-2012) الذي تبدلت ثيماته وتقنياته بعد أن أعلن نظريته الجديدة آنذاك "واقعية الكم" ليثبت علاقة الفن الوطيدة بالعلم. لا تنتمي هذه اللوحة إلى المنحى التشخيصي فقط، فثمة لمسات تعبيرية لا تخطئها العين المدربة. قُدر ثمن اللوحة التي أنجزت في ستينات القرن الماضي بمبلغ يتراوح بين 52 و 77 ألف دولار. تجدر الإشارة إلى أن محمود صبري قد درس الفن في معهد سوريكوف ضمن ورشة الفنان التشخيصي الكبير ألسكندر دَيْنيكا وأفاد من تقنياته كثيرًا.
تحتل لوحات الفنان ضياء العزاوي (1939) مكانة مرموقة في المشهد التشكيلي العراقي فقد اسلتهم موضوعاته من الموروث الشعبي العراقي تحديدًا ولعل لوحة "رمز شعبي" التي أنجزها عام 1970 هي خير دليل لما نذهب إليه. وسوف تُعرض هذه اللوحة في المزاد بقيمة تتراوح بين 65 و 90 ألف دولار أمريكي. ارتبط العزاوي بهموم وطنه العربي قاطبة، فلم تقتصر اهتماماته بالعراق وإنما امتدت إلى فلسطين ومعاناة اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات الأردنية واللبنانية، وقد وثّق العديد من المذابح والمجازر التي تعرّض لها اللاجئون الفلسطينيون مثل مذبحة صبرا وشاتيلا ومجزرة جنين وسواهما من المحن التي ألمّت بالشعب الفلسطيني داخل حدود فلسطين المحتلة وفي خارجها.
أما الفنان السادس والأخير فهو مهدي مطشر (1943) الذي استقر في فرنسا منذ عام 1976 ويَعتبِر فنه "برزخًا صوفيًا يتوسط بين الفن الإسلامي والتيارات الغربية الهندسية المعاصرة". يعتمد مطشّر في لوحاته على تقنية الألعاب البصرية ولعل لوحته المعنونة Zone B 1-8 التي أنجزها عام 1976 هي نموذج مدهش للرسوم الهندسية الناجمة عن "عين البصر وعين البصيرة في آنٍ معًا.
على الرغم من تسيّد لوحة "بائع الرقّي" لجواد سليم وتوقعات الخبراء والمختصين ببيعها بربع مليون دولار أو أكثر إلاّ أن مزاد كريستيز ينطوي كعادته على مفاجآت غير متوقعة قد ترفع سعر أي لوحة من اللوحات التسع المعروضة إلى رقم خيالي لم نكن نضعه في الحسبان أبدًا، وهذا هو سرّ المزادات الفنية على وجه التحديد.