ادب وفن

«بوابة الذكريات».. حكاية جسد في العالم / سعد محمد رحيم

في سيرتها الروائية "بوابة الذكريات" يوغل وعي آسيا جبار عميقاً إلى جوف الكينونة، إلى بئر الليبيدو التي منها ينبثّ نور الوجود. النور الصانع لتلك التشكيلة المبهرة من الضوء والظل حيث صورة الحياة المجسّمة، الرجراجة، السعي الى التقاط لحظات الدهشة الأولى، لذة اكتشاف معنى أن تكون ذاتاً مع الآخرين، ومائزاً عنهم. إنها تتحرّى عن الأسرار الخبيئة الوحشية والبريئة، من غير مواربة وخوف غالباً، وبمناورات مجازية قليلاً، في محاولة للإمساك بجذر الأشياء والمشاعر والرغبات، كما لو أن العنوان الملحق، الثاوي بين الصفحات هو حكاية جسد في العالم.. مروية جسدها باستحالاته الطبيعية والعاطفية والرغبية.
تستخدم آسيا جبار لغة مهموسة، حادّة ورهيفة كالشفرة، لتُحدث جروحاً صغيرة في جلد ذاكرتها، لتقترب، وهي تعيش مسرّات الاكتشاف، أو بالأحرى إعادة الاكتشاف، والاعتراف، من ذاتها؛ عقلاً وجسداً وروحاً. أن تعرف كيف حصل الأمر عبر حسّها المغموس باستعارات اللغة وكناياتها، المتبّل بالشعر، والمعروض في صور تثير الفضول وتعطي وعوداً بمتعٍ خارقة.
إنها رواية عن نمو الوعي وتكوّنه، فوعي الأنا ينبثق على مهل، مع كل تجربة عابرة، مع كل مغامرة صغيرة أو كبيرة، مع كل انتهاك لنواميس ومواضعات مجتمعية قارّة. فثمة مسحة إيروتيكية للكتاب، قشرة خفيفة وامضة، لكنها مهذّبة، مثقّفة، هادئة، غير منفّرة، غير متطلّبة بإفراط، طبيعية جداً، متسائلة أحياناً، مفعمة بالرقّة، ببعض الخشية، وبنزر يسير من الحياء الشرقي.
تستعيد آسيا جبار بعضاً من التفاصيل الدقيقة لتحوّلات جسدها من طفلة إلى مراهقة، وشابة، إلى امرأة في أواسط العمر، ومن ثم لمّا تغدو في عمر الكهولة، وأخيراً حكيمة على أبواب الشيخوخة. تستحضر ثانية تلك الانتفاضات التي تثبِّتها، في النهاية، جسداً، ذاتاً في العالم. الجسد الذي يتشبّع بالإيقاع فيرقص، ويضيق ذرعاً بمكبوتاته فيتعرّى حتى وإن جزئياً بظهر وصدر مكشوفين قليلاً أمام أعين القريبات في الأعراس، حتى وإن في الفراش، في وحدتها، حتى وإن في أحلامها غير الفاحشة، وجسد الأنثى الموشوم، باعتبارات العفّة والشرف العائلي والستر، والمحبوس بين جدران البيت لهذا السبب، لا بد من أن تجد كوة للتنفيس كي لا يذبل وكي لا يختنق. فيما الرقص أمام المرايا، أو في الأعراس العائلية، قد يكون اختباراً لإعادة الثقة بالنفس، وتمريناً أولياً لمواجهة شرور الدنيا فيما بعد.
وتعرِّفنا آسيا جبّار على عالم النساء الجزائريات الضاج بالثرثرة، والنميمة، والألفة، والمؤامرات الصغيرة، والفضول، والكبت، والأسرار، والأحلام، وذلك في أواسط القرن الماضي، في العهد الاستعماري.. عالم كثيف، موّار بالحياة، يقبع فيما وراء الجدران الصلدة، تحميه الأعراف والتقاليد والقيم السائدة، وتحوِّله إلى محبس كبير.
أما الأصوات المتشابكة المتزايدة أو الناعسة بعض الشيء خلال القيلولات الطويلة في الصيف الخانق، فقد تدثّرت بها كقماط لذاكرة تبحث بشكل غامض عن مكان آخر أو مستقبل ما".
العين/ الباصرة هي الحاسة الأكثر حضوراً في كتاب آسيا جبّار. العين التي تراقب، والعين التي تُدين، والعين التي تُعرّي. وهي في تنقّلها بين قريتها والمدينة والمدرسة والعاصمة كانت تحسب حساب الأعين قبل الآذان. لكنها لا تكتفي بالبوح بموقعها مرصودة من قبل عين المستعمِر بل هي معنية أكثر برصد أبناء جلدتها لها؛ الذكر المستعمَر الذي يتعقبها بنظرة الشهوة، ونظرة الغيرة، ونظرة الشك. وكان عليها أن تخوض كفاحاً مريراً في وسط اجتماعي سياسي ملغوم بالمصدّات والمعيقات لتثبت ذاتها، ولتفرض على من حولها "أبوها، في رأس القائمة" احترام خياراتها. لكنها أيضاً استثمرت طاقة عينها الذكية، والتي ستغني تجربتها السردية، وتوفّر لها مخزوناً هائلاً من مشاهد الحياة:"كنت عبارة عن بصر، كصيّاد صور يجدِّدُ حصاده باستمرار".
تطرح آسيا جبّار مسوِّغاتها دائماً، لكنها لا تكتفي بها، تلك المسوِّغات التي تريد من خلالها إقناع نفسها بحشمتها سرعان ما يبدِّدها دنوّها من دوافعها الأعمق، دوافع الجسد والروح، دوافع شخصيتها العميقة القابعة وراء قناع الالتزام بوصايا العائلة والمجتمع.
تمرّ الحريّة دائماً، عند امرأة من نمط آسيا جبّار، في البدء، عبر ترويض الخوف من الجسد.. ذلك الخوف الذي لن يزول تماماً، ويلبث بعضٌ من بذوره التي تتفتق بين الحين والحين، في شكل هواجس، وذكريات صادمة، ومشاهد حلمية خاطفة، وتوقّعات تأنيب ومعاقبة. فكأيّ أنثى شرقية لا يمكن أن تتعرف على جسدها؛ هواجسه، ورغباته، ومآلاته من غير أن تواجه بشجاعة أعراف المجتمع، ومحرّمات الشرع مثلما أوّله الفقهان الرسمي والشعبي، وما ترسّب في اللاوعي من أوّليات التحريم.
الجسد الأنثوي، في الشرق، مشكلة اجتماعية، حتى وهو غض في مرحلة الطفولة.. في فصل "الدرّاجة" تخبرنا آسيا جبّار قصة صعودها لأول مرّة على درّاجة تعود لابن جار لهم لتتعلم سياقتها وهي ابنة الرابعة أو الخامسة.. مشهدٌ تقول عنه إنه "ظلّ عالقاً في ذهني كحرقة، وهو بمثابة لوثة في صورة الأب المثالية، أخذت أشيدها رغماً عنّي، لأنه غائب غياباً مبرماً".
كان هذا أول تماسٍ واعٍ، ولو بشكله الخام، مع جسدها بعدِّه أمراً يتسبب في مآزق، ولا بدّ من أن يُدجّن، ويُستر، ويسوّر بمحرّمات. وقد شعرت بغرابة الموقف ولا معقوليته، وكأنه صادر من شخص آخر، بلا هوية، غير أبيها "خيّل لي أن أبي أُجبر على شيء غامض فجأة.. "وقد" بات أكيداً أن أبي قد أمسى شخصاً آخر"! وكانت في سنّ العاشرة لمّا قالت جدتها بشيء من الندم والأسف بأن عيونها كبيرة، وهذا ربما يعني أنها ستكون متمردة من نوعٍ ما، أو بحسب حكم أمها.
تتحرّر في المدرسة الداخلية نسبياً، فهناك لا تشعر بنفسها معتقلة، وتشترك معها في ذلك الشعور قريناتها من الطالبات العربيات، طالما لم يعدن، مثلما في البيت "تحت رقابة حارس حريم متغطرس". لكنها تصاب بصعقة حين تحكي لها صديقتها الفرنسية "جاكلين" عن علاقة لها مع فتى خلال عطلتها الصيفية، وكيف أنها سمحت له بتقبيلها.. تقول "بدت لي حريتها عبارة عن وقاحة وخرق، بل مغامرة حقيقية". وكانت جاكلين، وهي تتحدّث، تظهر ثقة عالية بالنفس وراحة، فتشعر آسيا بالإعجاب نحوها.
و" في الواقع، لم يكن المراهقون العرب من الجنسين ليحلموا بمثل هذا الانقطاع للرقابة العريقة". فكان هذا الاختلاط باعثاً على الدهشة، على الرغم من أنه أقلّ من أن يوصف بكلمة "حرية". وبطبيعة الحال، فإن كل شيء، ها هنا، يحدث بتأثير من اشتراطات السياق الاستعماري، حتى اللقاء الفني يجري، من غير أن يغيب الافتراض الخاص بواقع وجود الفارق بيننا وبينهم؛ هم الأسياد، ونحن الغرباء في وطننا.
هذه حادثة من زمن شبابها المبكر ترويها آسيا جبّار. يومها لم يكن بمقدورها أن تفصح عن رأيها في شاب، من حلقة الطلبة الشبّان، لفت انتباهها بمظهره الخارجي، من غير أن تشعر بأن جرأتها هذه ليست سوى وقاحة.. ففي خضم التمرينات الخاصة بأوبريت "أجراس كورنفيل" حين تسألها صديقة لها عن أيّ من مربّع الشباب يعجبها أكثر، فتجيب بعد تردد "ثمة شاب أجد أنه… ذو ميزة" وعلى هذه الفاصلة تعقِّب "وأنا مستغربة من جرأتي "راح جزء منّي، أظنه الجزء المتعلِّق بالصرامة الأبوية، يعاتبني على الفور" فهمت حينها، بأني أقع تحت تأثير وسامة الولد".
"أكتوبر 1953" بعد خلاف معه تقف في طريق الترامواي كي تنتحر، "نعم، أنا أتألم لأن سائق الترامواي، في ذلكم الصباح، على شارع سادي كارنو، لم يترك آلته الزاحفة بسرعة تواصل انطلاقتها! حينئذٍ يُسحب جسدي أشلاءً بينما تظل عيناي وحدهما مفتوحتين على سماء الخريف الصافية".
أرغبت في الموت حقاً؟ أتراها جادة، وهي على أعتاب السبعين، تتمنى لو يكون السائق مضى قدماً وسحقها؟!
وإذن، ماذا كانت تعني محاولتها للانتحار؟ أكانت محض تمثيل لاستمالة الحبيب/ الخطيب وجعله يشعر بالذنب، ولكي يعود إليها؟ أكانت حقاً تحمل بذرة الانتحار في دخيلتها خوفاً قابعاً فيها، من سلطة الأب، وردّ فعله المحتمل فيما إذا عرف بعلاقتها الغرامية؟ هل ذهبت إلى سكّة الترامواي وهي تدرك بوضوح ماذا تفعل؟ أم كانت تحت تأثير قوة غير واعية لا سيطرة لها عليها؟
كتبت آسيا جبّار هذا كله بعد خمسين سنة أو أكثر من وقوع أحداثها، وأحياناً بتفاصيل دقيقة في وصف الأشياء، وفي تصوير المشاعر المرافقة للأحداث، فهل علينا أن نثق بذاكرتها، ونعدّ هذا الكتاب وثيقة لا يطولها الشك عن مرحلة حياتها الأولى؟ أم علينا التعاطي معه بوصفه مادة سرديّة تمتاح من التاريخ الشخصي والعام.
خبرت آسيا جبّار منفى اللغة. الترحال بين لغتها العربية الأم ولغة المستعمر الفرنسية تركها، كما حصل مع معظم كتّاب الجزائر الفرانكفونيين، في حالة من صراع داخلي ألقى على وضعها وأدبها وموقعها الثقافي ظلاله الثقيلة. ذلك أن حدّ التوتر بين اللغتين يجعل منها ذات هويّة ملتبسة. فهي لا تستطيع الثبات في أيّ من الطرفين. إنها فاقدة الأهلية في هذا الطرف، وفي ذاك الطرف. والانتقال بينهما هو انتقال يبعث على الريبة والإدانة، لا سيما عند الطرف الذي تنتمي إليه دماً وواقعاً.
"هذه اللغة المسمّاة اللغة الأم أتمنى مع ذلك إشهارها في الخارج كمصباح! بينما يجب أن أضمّها كنشيد محظور.. لا أقدر إلا على الهمس بها وترتيلها بالسجود أو بدونه وحصرها في فضاءات عائلية أو في الفناءات القديمة".
المذكّرات انتقاء، وما تنتقيه آسيا جبّار تشرِّحه بتفاصيلها، بظلالها، بجزئياتها الدقيقة، بالمشاعر التي تخلِّفها، بالانطباعات التي تتجذّر في الروح وتعاود الظهور مع كل مؤثِّر أو إشارة تذكِّرها به.
أيمكن عدّ هذه المذكرات تصفية حساب، من نوعٍ ما، مع النفس حيال خيبة الحب الأول. وهل النهاية، توضيح/ تسويغ متأخر لتصرّف أو سلوك لحظوي انطوى على كثير من الفظاظة والضعف والغيرة. أتريد أن تقول لنا إنها أخطأت حين لم تجعل من تلك اللحظة/ الفاصلة ما كان يجب أن يضعها على سكّة أخرى في الحياة.
كتبت آسيا جبّار هذا كله بعد خمسين سنة أو أكثر من وقوع أحداثها، وأحياناً بتفاصيل دقيقة في وصف الأشياء، وفي تصوير المشاعر المرافقة للأحداث، فهل علينا أن نثق بذاكرتها، ونعدّ هذا الكتاب وثيقة لا يطولها الشك عن مرحلة حياتها الأولى؟ أم علينا التعاطي معه بوصفه مادة سرديّة تمتح من التاريخ الشخصي والعام، لكنها تتبرقش بالخيال الذي هو منبع السرد الأول وعلّة جماله؟
هناك ما انمحى وتحوّل إلى غبار، وهناك، ما لبث صلداً كحجارة الجبل، فكيف لها أن تمارس تمرينها الخشن في الكتابة عن الذات المتلهِّفة، باستعارة عبارة حنا أرندت؟ أن تنفتح على الكتابة لتشي بذاتها بدل التنكّر والنسيان، على حدّ تعبيرها هي. كما لو أنها ترثي تلك الذات، من غير أن تتمكن من تخطّي الشعور بتأنيب الضمير، والأسف على الإخفاق. فلكلّ حياة عثراتها، وأحلامها القتيلة. وذلك كله قبل أن تقول لنفسها: وداعاً.