ادب وفن

د. مالك المطلبي: قصيدة النثر تخاطب العين / حاورته: بلقيس خالد

في الملتقى الثالث لقصيدة النثر الذي انعقد في البصرة مؤخرا، كانت ثمة اسئلة وحوارات تدور وتناقش حول قصيدة النثر وماهيتها، ولأن الوقت المحدد للجلسات النقدية كان غير كافِ للطرح والمناقشات، ومِن أجل تسليط بعض الضوء على قصيدة النثر، حملت اسئلتي وتوجهت الى الناقد الدكتور مالك المطلبي.
سألته أولا: لماذا هذا الملتقى الثالث لقصيدة النثر؟ ما الغاية من انعقاده؟
أجاب: عادة ما تُعقد الملتقيات للبحث في الظواهر الأدبية والفنية. ولا شك أنّ قصيدة النثر تُعدّ من الظواهر الإشكالية، أي غير اليقينيّة، التي تتجاوز حدودُها الفنيّةُ والجماليّةُ الأبعادَ الأيديولوجيّةَ، حيث تحلّ البروبغاندا "الدعاية" محل السببيّة، وحيث تتراجع الأفكار لتدور حول شرعية أو لا شرعيّة هذا الطارئ بإزاء البناء التأريخي الذي شيّدته التقاليد والأعراف الشعرية. من هنا يحاول ملتقًى كملتقى قصيدة النثر، أن يتجاوز المانع الأيديولوجي إلى فضاء شعري لا يخضع للرفض القبلي، ومشغل نقدي لا حظر فيه على الأفكار. كما أن انعقاد أي ملتقًى، أو ندوة، أو مهرجان، له فوائد عرضية، كاحتكاك الأدباء بعضهم ببعض، الأمر الذي يساعد على حضور مفعم بالأحاسيس التي تقرّب عالمنا الأدبي الافتراضي من الواقع، وتذكّرنا - نحن كائنات الورق "أو السطح الإلكتروني" بأننا، في النهاية، كائنات من لحم ودم تترك آثارًا محسوسة، تسمّى نصوص الإبداع، ونصوص معرفته.
هل أنجزت الملتقيات الثلاثة خطوات جديدة من طموحات هذه القصيدة؟
طموح القصيدة لا يحققه ملتقى، أو ندوة، أو مهرجان، إنه ملتصق، في جوهره، بمنتج القصيدة، ونفوذ الناقد إلى أغوارها. ما يفعله الملتقى هو تمهيد الأرض لحركة هذين العنصرين. ويرتبط هذا التمهيد بالإعداد والتراكم إن الإعداد " وأضع تحته خط" فعل متشابك فهو لا يتطلب امتلاك الأدوات اللازمة لأداء وظيفة التمهيد هذه، حَسْب، بل هو مرتبط ارتباطًا وثيقًا، بالزمن. ومع الأسف فإن مهرجاناتنا تنعقد كما لو أنها حالات طارئة. ولا أشير إلى ملتقى النثر، على وجه الخصوص، بل الطارئيّة هي المتحكمة في أعمالنا الأدبية كلّها. أما التراكم فهو منوط بالأرشيف. أي بإعداد صيغة للتسلّم والتسليم للوثائق بين السابق واللاحق، وتخزينها، لتصنيفها، وإعدادها للدراسة، إنه فعل مؤسّسي محض. ويبدو لي أنّ الملتقيَيْن؛ الأول والثاني، مثّلا تمرينًا "بروفة" لما سيحدث بعدهما، وهو الملتقى الثالث. وقد نجد العذر لمسؤولي هذا الملتقى، لأنه يحمل عنوانًا مثيرًا، كما أسلفنا، يحتاج إلى مقدّمات. أما الملتقى الثالث فهو يُشعرنا، ببيانه الختامي، بأنّ خطوة قد وُضِعت على الطريق الصعب هذا. وأعتقد أن حواراتنا مع رئيس الملتقى، رئيس اتحاد الأدباء في البصرة، الدكتور سلمان قاصد، والزملاء أعضاء اللجنة التحضيريّة، كان حوارًا مفيدًا، بهذا الصّدد. وإنّا من الناظرين.
بعد عمرها العربي المعاصر، هل تكوّنت رؤية جديدة لقصيدة النثر؟
ليس بمقدوري أن أحدّد رؤية جديدة لقصيدة النثر. ما يمكن أن أدلي به، في هذا المجال، هو بعض الخطوط، أو ما سميته بالمفاتيح الأربعة لقصيدة النثر، التي ألقيتها في حدود الدقائق العشر ـ الممنوحة لكل بحث. إن المفتاح الأول يدحض الرأي الذي يذهب إلى أنّ قصيدة النثر نتاج غربيّ؛ ترتبط، منهجيًّا، بديوان "أزهار الشرّ" للشاعر الفرنسي بودلير - صدر عام 1857، وإنْ كان هذا صحيحًا، في الإطار المنهجي لقصيدة النثر، فإنّ التفكير الشعريّ في النثر سابق لذلك بقرون من الزمان. الأمر الثاني أن النثر ليس حبيسَ المفهوم المورّث بكونه جزءًا من الحياة اليومية، أيْ إنّه فعل شعبوي استهلاكيّ؛ يُبدي محتواه دائمًا، في حين أنّ الشعر فعل نخبويّ إبداعي؛ يُخفي محتواه دائمًا، بل للنثر جانب شعري، يسمح متنه بسبر أغوارٍ، وولوج أصقاع، لا يمكن لأي جنس شعريّ آخر، الوصول إليها. أمّا تاريخيا فسنجد لقصيدة النثر جذورًا بهذه الكيفية في ما اصطُلح عليه بالنثر الفني، وإن ظلَّ مصطلحًا يدور في فلك النثر النقيّ.
إذا تحولنا إلى مسألة الإيقاع، يواجهنا الرأي الذي يذهب إلى أنَّ قصيدة النثر هي قصيدة غربية صرف، باعتبار أن الشعر الغربيّ "الأوروبي"، أساسًا، هو نثر يخلو من الأوزان كالشعر العربي. وهذا أمر غير صحيح، ومردّه ما يقع تحت أيدي القرّاء من شعر غربيّ مترجم. إذ لا يمكن أن يُترجم أي شعر إلّا بالتضحية، بشكله وترجمة معناه، لتُوسَم ترجمة الشعر بأنّها نوع من أنواع الخيانة. الشعر الغربيّ يخضع لنظام الأوزان والبحور، ولكن إيقاعه لا يقوم على الوحدات التي يُصطلح عليها بالتفعيلات، كما هو حال الإيقاع الشعري لدينا، بل يقوم على التقابل بين المقاطع المنبورة، وغير المنبورة، التي تخضع لوحدة قياس الوزن: foot
وهذا يعني أن الشعر الغربي ثار على نموذج الانتظام الصوتي الكميّ، وأنّ قصيدة النثر كانت جزءًا من الصيرورات الداخلية للشعر، وليست إملاءً خارجيًّا تستدعيه ضرورات الواقع. وأخيرًا فما يُتداول في الجدل حول سهولة كتابة قصيدة النثر، إنّما تأتّى مِن مُضاهاة تلك القصيدة بالكلام الذي يُرسله الإنسانُ المتكلّم متى يشاء. وهذا رأي يُصدره مَنْ لم يسَبْرٌ أغوار روح الإبداع، وفضاء الخيال، وتناقضات الواقع.
في ضوء ما تقدم يمكن أن نذهب إلى أنّ قصيدة النثر تمثل الشكل الوحيد الذي بإمكانه استيعاب التحولات الكبرى في واقع متشابك، ممزّق الهويّة، يتداخل، فيه، ما هو واقعيّ، وما هو افتراضي، على نحو مخيف.
ما نسبة رضا النقّاد عن المساهمات الشعرية في الملتقى؟
لم يجر استطلاع تُسْتَكشف فيه اتجاهات رأي النقاد عن القصائد التي ألقيت في الملتقى الثالث لقصيدة النثر، وقد تجاوزت خمسين نصًّا. ولهذا فما أدلي به، عبارة عن انطباع شخصيّ. وأول ما أشير إليه هو أنّ القصائد لم تُغربل، ولم يجر لها أيّ تقويم لجواز مرورها إلى المنصّة. ولا أذهب إلى أنّ هناك تفاوتًا في القدرات الشعرية، لأن النسبة الغالبة من النصوص لا تعبّر عن طبيعة قصيدة النثر، وإنما تُكتب بوهم أنّ كتابة قصيدة النثر، كما أوضحنا، سهلة كالكلام الذي ننطقه، ومرّة أخرى، لا يعكس هذا الرأي حقيقة قصيدة النثر التي تقوم بسلسلة من الحفريات الجيولوجيّة في تضاريس اللغة، للقبض على روحها المخفيّة. ومدياتها غير المحدودة. غير أنّ بعض القصائد، وهو نَزرٌ قليل، يُمكن التنويه به، والاستيحاء منه بأنّ ثمة في افق الشعر العراقي التماعاتٍ تَعِد بتعاقب الموجات الحيّة فيه.
هناك مَن يراها أقرب إلى الخاطرة بطبعة منقّحة! ما سبب هذه الرؤية؟
أظنّ أن إجابة السؤال السابق قد تضمن الرؤية التي تشير إليها.
إلى أين وصلت قصيدة النثر مع الأذن التي أدمنت الإصغاء إلى العمود الشعري القديم؟
بادئ ذي بدء نقول إن قصيدة النثر لا تخاطب الأذن أبدا. إنها قصيد تخاطب العين. إنها رسم تسمع فيه الأذن من وراء حجاب. القصيدة التقليدية تقوم على التحصّن في نبرة الخطاب، في حين تقوم قصيدة النثر على صدمة الكلام. ومن الزاوية الثقافية، وفي العصر الإلكتروني، يكون الإدمان السمعي في المجالس، قد بدأ يطوي بساطه، ويرحل. إن الجيل المعاصر يقترب من التصفّح للغة الصورة التي صارت لها الأولويّة على لغة الكلام، ووحدها قصيدة النثر مهيَّأَة لاستيلاد الفعل البصريّ، وعبور الحدود القارّة للمجاز.
لا علاقة لقصيدة النثر مع تصفيق الجمهور! هل هذا صحيح؟ ما السبب؟
يستدعي جواب هذا السؤال، الاقتراب من "نظرية القراءة واستجابة القارئ "السامع". ولا يسع المجال، هنا، للبحث في طبيعة التلقي في بيئتنا، والإجابة عن سؤال: مَن المتلقي؟ والوقوف على تيارات مصطلحاتها كالقارئ المتفوّق، والقارئ الضِّمني، والقارئ المشفّر، مقابل القارئ المُعيّن باسمه. ولكن بإمكاني القول إن التصفيق في بلادنا أصبح جزءًا من تجميل السلطة "السياسية"، في جهة، وتعبيرًا عن المشاعر الغريزية، في الحفلات الغنائيّة، في جهة أخرى. وهو جزء خاضع لمنظومة الخطاب الذي يُعد للاستثارة، والحماسة. في حين تقوم قصيدة النثر على صدمة العقل، واكتساب صبر المتاهة. إن متلقي قصيدة النثر كمن يمتلك يدًا واحدة، تفتقر إلى الإيعاز العصبيّ بالتصفيق!