ادب وفن

"كائنات البن" أنموذجا .. تعديد العلاماتي في المسرود / مقداد مسعود

الكائن النصي في رواية بلقيس خالد "كائنات البن" يكتفي بالقليل من السرد والغزير من التخاطب العلاماتي وهذه الغزارة لا تتقدم نحو فعل قراءتنا دفعة واحدة بل تسيح ُ بطيئا مثل خيوط الفنجان فالكتمنة المنبثة من حيوية العلاماتية في النص. تزدهر، تتأرج بفعل القراءة المتأنية وهذا التأني هو الذي يفتح شهيتنا لتعدد قراءات النص. هنا تبرز وظيفة السرد فهو الذي يتحكم بحركة النول في نسيج الكلام وهو الذي ينتقل بمقدار موزون بين الشخوص والأمكنة ليثبّت نقشات ٍ متفارقة لونيا وهندسيا في نسيج النص.. والسارد الرئيس هو بحق "راوي الرواة" يقوم بالأشراف السردي على تفرعات الحكي وتوزيع الوظائف السردية والميتا سردية من قبل بلقيس خالد مؤلفة النص الروائي. والوظائف السردية تشمل الفصول كلّها باستثناء الفصل الأخير "ما بعد السرد – ما قبل البن" فهو ميتا سرد، أو ما يطلق عليه "الرواية الواعية بذاتها" تلاحظ قراءتي المنتجة ثمة تعديد صوتي يتماثل حكائيا في الرواية:
* قارئة الفنجان * سرد الحجر* سرد رسومات الكهف * الأم المفجوعة ب 1700* البنت العاشقة* الأب وعائلته في محل الأزياء* العائد إلى مدينته المغتصبة للتو..
(*)
للعنونة وظائفها، فالجمالية مشعة بتفردها المميز "كائنات البن" وهنا سحرية العنونة ، التي تتسبب في تموجات فضول القارئ.. وجمالية العنونة مشروطة بوظيفتها الشعرية تبثها شاعرة، شعرنة فتنة السرد، أعني بلقيس خالد.. وهناك وظيفة أخرى للعنونة، يطلق عليها جيرار جينيت ، الوظيفة الوصفية،، تحتوي داخلها عدة وظائف: الموضوعاتية – الخبرية – المختلطة. أما الأم أعني الوظيفة الوصفية فهي تقوم بتكليم النص لأن العنوان ، يقول عن طريقتها شيئا عن النص فالبن موجود في الفضاء الروائي باستعماله الرئيس في بيوتنا فنحن نحتسيه وهناك من تدعي أو تجيد قراءة الفنجان وهناك من يستعمل ما يتبقى في الفنجان كقناع جمالي للوجه ..إلخ .. وهو في الرواية يستعمل للفعل الاستباقي القريب .. "من خطوط الفنجان .. بعينين احتشدت فيهما كل تساؤلات النساء وقفت تتأملني".. وللقهوة فعل استقواء ٍ "صببت ُ قهوة في الفنجان: أشرقت الأشرعة".. السارد الأول هو البن، ويشهد بذلك السارد الثاني، السارد المشارك في صوغ الحدث والتروية "إلى الآن لم أعرف أن الفنجان عالم آخر تسير في شوارعه الكائنات وتحكي قصص الخيال الحياتي، الديني، العلمي.. كائنات مستنسخة تتمرد على الأصل تتلبس اشكالا عدة ..كائنات تحلق أحيانا وتزحف ..تأخذنا معها تحركنا كيفما تشاء.. بإمكانها ان تجعلنا نبتسم وبامكانها أن تزرع في روحنا غابت الكآبة" .. لكن سرد البن ليس حروفيا، قد يحتوي حرفا أو أكثر، لكن سرده ليس بالمسطور، بل معّلم أعني علاماتيا.. ترسيمات، خطاطات، وجوه ، عيون، خطوط ..إلخ .. ثم يأتي بعد ذلك من يفكك العلاماتي ويملي شفاهاً علينا وهكذا سرد البن، من صمته إلى عينيّ قارئة الفنجان ومن العينين إلى شفتيها.. وهكذا الأمالي تتمرحل نحونا.. "هذا الفنجان: عين ٌ..هو يرى ما لا تراه عيني".
(*)
إذن السارد الأول مَن هو؟ مَن الذي سيجعل الفنجان يومئ بعلاماته كلها ؟ لن يكون هناك أي سارد قبل توفير أدوات الاشتغال فالبن وهو في كيسه كمنتج صالح للبيع لا يساعدنا على أي قراءة سنجد الجواب في المفتاح الأخير من الرواية: المفتاح الذي يفترش ما قبل السطر الأول أعني الثريا الفرعية للفصل الأخير "لولا الماء والنار أبكم هذا الفنجان".. ولن يكون هناك سارد أول بلا حركية بشرية ولا يعني أن من يعد القهوة للشرب هو السارد الأول دائما ..كل ما يجري لحد الآن تحضيرات أساسية أولى لابد منها. السارد الأول هو ما تبقى في قعر فنجان القهوة المحتساة للتو، بعد قلّب الفنجان.. سيتحرك السرد حركيته الأولى وما بعد تخثر القهوة وقد استقر الفنجان سيكون جاهزا بسرديته البنية ..ستكون لدينا صفحة بيضاء هي باطن الفنجان وسردية بنية ملغّزة مشفرة تفكيك ترسيمات الفنجان يتجاور مع فاعلية التأويل فالفنجان حمّال أوجه حسب كفاءة من تقرأه.
(*)
الكهف: رحمة، رحم (ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىئ لنا من أمرنا رشدا"، وفي الكهف ستكون الولادة الثانية لأصحاب الكهف في السورة الكريمة بعد نومتهم الطويلة والكهف ملاذ اضطراري أي وجود وانوجاد وموجود بالقوة وليس بالفعل وإذا الكهف الأول بهوية ٍ رجولية إيمانية : أصحاب الكهف .فإن الكهف الذي اجترحته المبدعة بلقيس خالد ذاو هوية نسوية وطنية عراقية ، فالنسوة هنا في تضاد مع بربرية المعتدي الداعشي .. لذن بالكهف ولم يستسلمن للمعتدي، والكهف هنا مثنوي فهناك البرابرة في الجانب الآخر من هذا الحيز المغلق. وهندسيا هو ظاهر، باطن وللكهف في الرواية علاماتياته المكثفة التي تستحق اشتغالا نقديا خاصا والترسيمات التي في الكهف سيتم تحريكها بالاختلاف حول شيفراتها القابلة لتأويلات شتى والكهف هنا كأنه ممر ضيق مثنوي الانفاس: الرجال الوحوش، والنساء اللائذات منهم.. ومؤثرية العنف عليهن عمقت التماسك الاجتماعي والتضامن الداخلي والتكيف للتطورات الخارجية وكيفية التصدي الخفي، من خلال التناسق والتكافؤ فيما بينهن".
(*)
شخصنة الصوت، الصمت تتساوق مع اشتغالات مكونات الرواية.. وبتوقيت تخفيض الصوت بقوة مغناطيس الحجر والعتمة والرطوبة والظلام ستكون الصورة الاسم الثاني للصوت: "كهف التصقت الأصوات على جدرانه. من الأصوات: صورٌ تنهض ..تستبق والظلال"
نلاحظ: صوت، صمت--------------- صورة • صورة ظلية.
في فصل آخر "مرتعشة الظلال أمشي إلى ذاتي تنهض من الصور ضحكاتهم والأحلام المؤجلة ورائحة قهوة الصباح ورنين الأساور والأغنيات". هنا كقارئ أكون مع صورة سردية مرّكبة منبثة من مخيلة ثرة التنوع وهذه الصورة السردية لها شروطها على مخيالي كقارىء. ضمن منطق وطوق الحالات والتحولات: فهو "لا يمكن أن يستوعب إلاّ إذا كان وعاء لتغيير وضع الأشياء والكائنات". والضيق ينصب فخاخه حتى في اللا متوقع.. كما جرى في محل الأزياء.. والضيق متوفر حتى في الفضاء المفتوح.. حتى في الشوارع العامة: فالضيق له سيادته المطلقة الموشومة بالوضر..
وإذا كان الموت ضيقا لابد منه فهو أنظف من حياة ٍ مهددة بالنجاسات "كن يحسدنها لأن الموت أختارها دونهن"..
(*)
العلاماتية هي حبر رواية "كائنات البن" وترسيمتها "البن خرائط مسردتي".. والبن عاطل بشهادة اثنين من شهود العدل "لولا الماء والنار أبكم هذا الفنجان" ما بين القوسين لا يشتغل على عنونة فرعية لفصل من فصول الرواية المشعرنة سردها فقط.
ما بين القوسين: المعلن من العناصر الأربعة وحين نلفظهما سنلفظ أربعة وليس اثنين "الماء، النار، التراب، الهواء" فمن الليّن المطمئن والملجوم في البيوت ومن الشبقية الملجومة في عين زرقاء سنصوغ مفتاحا لقفل القهوة ثم يتسايل المفتاح في الفنجان.. ثم يسيح من خلال الحركة المقلوبة للفنجان.. هذه الحركة المتباطئة لسيحة بقية الفنجان: هي نفسها تفترش الفضاء الورقي للمطبوع.. وتباطؤ الحركة يمكن صياغتها عين الكاميرا يحملها فعل السرد ليبئر الحدث الروائي ويطوقه بالضروري المقتصد سردا ورشاقة والعلاماتية سيادتها شبه مطلقة وهذه السيادة تختزن علاماتيات شتى في داخلها. على مستوى ثان ٍ نلاحظ أن ّالكلام: صائم.. عاطل.. معطل.. عقيم.. الكلام مصادر.. مجتث.. صادره المحذوف من مدار أدبية النص المكتوب بشعرية مسردنة، شهية الكلام بين الشخوص ممحوة.. ثمة شافطة بربرية انتزعت الكلام وغير الكلام من كائنات النص في الراوية، ما جرى في العراق أشرس من كابوس وخارج الأطر.. دويلة بريرية في وطن مذبوح بتواطؤات عالمية وجوارية وحثالات في مؤسسات الدولة وأذنابها في مجاري شوارع المدن.. إذن الصدق مع الذات يلجم الكلام والثرثرة حين نؤمن أن ليس كل ما هو واقع: هو حقيقي. فالواقع هو باطل الأباطيل ضمن سياق النص المتصل بسياق الوطن المخرّب الذي أصبح عرضة للتفريط والأذى والفرجة العالمية بلا استثناء، ولنرتل جميعا مَن هو داخل النص ومَن يدخل النص قارئاً (لا فرق بين الغرائبي الذي مسخ حياتنا وبين الواقع المتراجع في شبحيته.. كل حرب لها أشباحها الذين يطوفون في كل الأمكنة والأزمة نسمع حركتهم في أبواب الغرف والبيوت".
(*)
شبحية الكينونات نتاج مؤثرية صدمة الخرافة المسلّحة بتقنيات العولمة المتساندة فيها كل الأصعدة.. لذا يكون الكلام عاطلا عن الإيصال، التواصل.. وتتهشم الذوات ويتراكم هشيمها في بئر معشوشبة..
(*)
لا شيء سوى اللون البني بعتمته الأشد بلاغة من سواد السواد، وباتزانه الذي لامثيل له بين الألوان. في غلاف الرواية الفضاء الروائي الأبيض الموجود محض فاصلة غير موسيقية .ربما يتقشر عن دعوة لدى قارئ نوعي، فيكتب هذا القارئ قراءته في مجسرات البياض وحيزاته ويطلق الأسامي التي يحبها على الكائنات السردية ربما.. كل ذلك مساج جمالي "تطل وجوه.. لتزيل تجاعيد الحاضر" بشهادة الشاعرة مؤلفة الرواية بلقيس خالد.. وكل هذا صحيح جدا.. "فإن العمل الأدبي هو التعبير الوفي عن تجربة ما مرّبها المؤلف ويتمنى أن يشاركه إياها آخرون غيره". الشاعرة التي حاولت الرواية، لم تذهب إلى مسرح الجريمة، لكنها مثل أغلب العراقيات تجرعت مرارات حروب وتابعت كل ما يجري حسب طاقتها، وكدست الواقع والوقائعي المدوّن والمرئي في سلالها، ثم نضدّت كل ذلك في لوح السرد بالشطب والتثبيت
(*)
المتخيل في رواية كائنات البن : في إطار التوقعات العراقية.. فالمتوقع صار ممكن الحدوث على مدار الساعة.. ورواية كائنات البن قامت بترجمة اللحظة العراقية في اجتياح الموصل، ترجمة روائية مشعرنة سرديا.
(*)
كل ما كان في الرواية هو مخاض عسير في ملاذ اضطراري "عليك أن تلدي، بصمت، صمتك ِ ولادة كبرى. لا.. لا ترفعي صوت َ أنفاسك ِ.. حسُبك ِ الصمت .كل شيء سيكون على ما يرام".. هذه اللحظة هي خلية السرد الموقوتة في رواية "كائنات البن" وستقوم شعرية السرد بتشظيتها على مدى "99" صفحة من الحجم المتوسطة.. ولنقشّر هذه الخلية تقشير وردة جوري ما تزال في طور "الجمبدة":
• هص .. أص.. أص: نلاحظ أن الجملة الأولى في السطر الأول من الفصل الأول يبدأ بقمع الصوت
• عليك أن تلدي بصمت، وهذا هو الصعب والمستحيل! أي امرأة لها طاقة كهذه ، عليها أن تصمت وهي على شفا حفرة الصمت الأبدي!! والصوت بل الصريخ ضرورتها الفيزيولوجية؟!
•صمتك ِ ولادة كبرى: إذن هناك ولادتان: صغرى، كبرى: ولادة الجنين هي الصغرى وهذه الولادة هي الحد الطبيعي. أما الولادة الكبرى فهي الولادة بحدها المجازي بدلالته المكتنزة
•الصمت ُ.. يقلق السمع َ يربكه: فيختص ويختض، إذن للصمت استعمال ثان هو إقلاق المتلقي
•الصمت ..ينتزع الثقة بالحياة، هنا نكون مع الاستعمال الثالث للصمت وهو الأشد قوة ً ثم ينتقل الصمت من الاستعمالات إلى جماليات الاستعارة مرتين.
•... ضجيج ٌ يحجب الرؤية
•الصمت: عمى الأذنين
(*)
الشاعرة بلقيس خالد، لم تتنازل عن عرشها الشعري، مرضاة للسرد، بل مشت خطوتها الروائية محفوفة بحشدٍ من شعرية المسرود وللعنونة الفرعية تعديد الوظائف منها: ترشيد انتاج المعنى بالنسبة للقارئ "كونها عناوين تقوم، عبر تجاورها الفضائي النصي بوظيفة الحصر السردي، وذلك بغاية عدم ترك المجال لانفلات السرد داخل كل عنوان.