ادب وفن

التميز و التفرد في ايقاعية العملية التوثيقية / جاسم المطير

حمل لي صندوق البريد هدية جميلة. كتاب ارسله الي مشكورا، الكاتب الصحفي النشيط صلاح العمران. حمل الكتاب رائحة الرطب البرحي بنضوجه الكامل مشتاقا لتذوقه، رائحة شط العرب بمائه المج حالما بالسباحة فيه، رائحة البصرة بعد خرابها املا في ان يفيق اهلها لأعمارها.
تلقيت الكتاب متلهفا لقراءته لما يحمل من جمالية المضمون, لم يكن هذا الكتاب من نوع كتب الشعر ولا القصة ولا الرواية ولا النقد، لكنه شكل من اشكال البنية التوثيقية للاجتماعات والندوات والمحاضرات والمهرجانات الادبية التي اضطلعت بها مدينة البصرة خلال العام 2015.
قرأته بسرعة وقد وجدتُ فيه منحى ذوقياً وانطباعياً عمّا يجري من افعال وفعاليات في بعض مؤسسات ومنظمات مدينة البصرة. الذوقية الاولى والرئيسية في هذا الكتاب تجسدت بمواكبة مؤلفه الصحفي صلاح العمران، لتلك الافعال والفعاليات عارضا ومستعرضا البنى الجمالية الاولى والرئيسية بما تتركه من قيم فنية – ادبية جمالية بهدف توثيقها لأجيال المستقبل.
حملتْ احدى صفحات الكتاب الاربعة والسبعين اشارة الى ان كتابا عنوانه "اصوات خضر في ذاكرة القارئ" هو الكتاب الاول معنيّ بفعاليات عام 2015 . تلمست من هذا القول بمعنى من المعاني ان الصحفي صلاح العمران سينجب شقيقات كتابه الاول في المستقبل.
فكرة جديدة مبتكرة، من دون شك، بفن الكتابة التوثيقية الورقية في عصر الأنترنت و الكتابة الرقمية الهائلة. ربما يفكر صلاح العمران بالتعبير المباشر عن بداية منطقية توثيقية شاملة هدفها تحقيق حلم ادبي اكثر واقعية وتأثيرا، لتحقيق الامكانية والمساعدة في وضع نتائج الفعاليات تحت تصرف اقلام ادباء ونقاد المستقبل والباحثين فيه. نفس الفكرة هيمنت في هولندا وجميع الدول الاوربية حيث اصبح النتاج الرقمي – الديجتال - عن طريق "السيديات" كأداة من ادوات الظاهرة التوثيقية.
ليس في كتاب الزميل صلاح العمران مقدمات ولا فصول ولا مباحث ولا استنتاجات، لكن القارئ يجد فيه خلاصات متنوعة تتناول مجموعة من الفعاليات الادبية – الفنية عن قضايا الحداثة والتجديد في مدينة الجاحظ والاصمعي والمعتزلة.
مثلما كان عبد الملك الاصمعي ( 740 – 831 م ) يتحرك في اول عمره ونشاطه في "البوادي البصرية" ليروي لنا في هذا الزمان عن مشاهداته للمناظرات الشعرية والادبية فأن صلاح العمران يتجول في "النوادي البصرية" ، ليروي لنا ولأجيال ما بعدنا عن صناع العلوم والآداب والفنون على ضفاف شط العرب او في صحراء البصرة وقراها حيث يسلط الاضواء على ادوار المثقفين فيها وعلى القضايا، التي تعالجها او تتطرق اليها الندوات والمهرجانات والمحاضرات موضوعة التوثيق.
كتب مقدمة الكتاب الناقد الادبي مقداد مسعود احد اعمدة الجبهة الفكرية في البصرة مؤكدا ان هذا الكتاب يشكل خطوة ضرورية اولى لإبقاء الاصوات الخضراء في ذاكرة القراء.
تركزت روح هذا الكتاب ونصوصه على عملية التوثيق بمعنى ان هذا النوع من الكتابة يعتبر من مصنفات وسائل التذكير والذاكرة. هذا المصنف يحتاج الى الامساك بجميع خيوط الفعاليات وبثها بين ثنايا التقارير الصحفية المتحولة الى كتاب في ما بعد، كما فعل صلاح العمران بمتابعة مجريات وفعاليات النوادي البصراوية عام 2015 ..
يعني هذا، اول ما يعني، توفير ضرورتين:
الضرورة الاولى تعريف القراء بـ "مكان" الفعالية. مثلا التعريف بملتقى جيكور من هو؟ .. ما هو؟.. من يتسلم امور قيادته؟ ..من هو قصر الثقافة وما هو؟.. من هي رابطة الفاو؟.. ما هي خاصية ورودها اول مرة بكتاب؟
الضرورة الثانية هي "توثيق" - ولو بالإشارة المكثفة او في هامش صغير – الى اهم المداخلات النقدية والاشكاليات المفهومية في اثناء الفعالية لتوخي الاحاطة بمجموع علاقاتها وتأثيراتها.
انجز الكاتب صلاح العمران هذا الكتاب لهدف محدد هو "التوثيق" أي الحفاظ على الذاكرة الثقافية في البصرة . كُتبت نصوص او محتويات الكتاب على مراحل، أي على ضوء فعاليات متعاقبة بمناسبات متعاقبة، ولا شك ان كل فعالية يحتاج توثيقها الى كثير من العناية والمعرفة والحضور.
اول العناية بهذ الاسلوب التوثيقي هو معرفة المعنى الاساسي للذاكرة والذاكرة الثقافية بالذات, حتى عنوان الكتاب معنيّ بالذاكرة اذ اختار غلافه الاول :"أصوات خضر في ذاكرة القارئ" مما دلل على ولعه بـ "الذاكرة" وحفظها.
حقا ان "حفظ الذاكرة" بطريقة اصمعية أمر مفيد جدا في خزن المعلومات لعدة سنوات او عقود او قرون، حسب اهميتها. اتاحت لنا معلومات الاصمعي وامثاله من العلماء والمبدعين والتلامذة البصريين وغيرهم منذ اكثر من الف عام الكثير من الفوائد في التعرف على طبيعة وتناقضات المجتمعات التي عاشوا فيها من خلال ثقافتهم ومهرجاناتهم وحفظ اشعارهم.
حياتنا الثقافية المعاصرة معقدة ومعقدة جدا في هذا الزمان. ربما اكثر تعقيدا من زمان الاصمعي بالرغم من وجود الكثير من وسائل تنشيط الذاكرة وحفظها في عصرنا الحالي "تلفزيون.. يوتيوب.. موبايل.. صحف.. كتب.. مجلدات.. مكتبات ألكترونية ومعمارية"، لكن ربما يواجه المثقفون والثقافة ظروفا فيزيولوجية – عصبية اشد صعوبة في التأثير على "الذاكرة".
قدّم صلاح العمران نفسه للقراء بكتابه "اصوات خضر" بمقدرة توثيقية متابعة، للمساهمة في حفظ ذاكرة الثقافة العامة بمدينة البصرة، من خلال مشروع كتاب سنوي، كما وعدنا. اختار لنفسه وظيفة تخصصية ليست هينة. صحيح انه اختار نظرية ملائمة لحفظ الذاكرة لكنه يواجه الضرورة الثالثة أيضاً، عن طريق الالمام الواسع الدقيق بكل الخاصيات المتعلقة بهذه الوظيفة النبيلة، وظيفة توثيق الاحداث الأدبية والفنية بمدينة الانتاج الثقافي في محافظة البصرة الواسعة الارجاء.
ليس في هذا النوع من الكتب اشكالية محددة، لكن المؤلف والمتابع في حاجة الى استكمال التشخيصات المطلوبة المهمة في العملية التوثيقية. هنا اشير الى بعض الملاحظات حول كتاب الناشط صلاح العمران:
1 – الصور التوثيقية لم تكن ناجحة او واضحة بسبب تعارض ورق الطباعة الاسمر مع اصول الصور الملونة.
2 – تصميم الغلاف كان بصورة غير قادرة على الاجتذاب التوثيقي.
3 – اغفل الكاتب عملية التوثيق بالزمان والمكان. مثلا قام بتأشير الزمان بـ "يوم السبت الماضي" في صفحة 14 وصفحة 16 وغيرهما. لا معنى لهذا النوع. التأشير الافضل هو في تحديد اليوم والشهر والسنة للفعالية الموثقة.
4 – عرض ونقل ومتابعة سلسلة الموضوعات الادبية والفنية ذات العلاقة بالفعالية الموثقة بالإشارة الى الحاضرين والمتداخلين.
5 – ضرورة الوقوف على اهم نقطة موضوعية في الاجناس الادبية والبنية الموثقة خلال المناقشات.
ان جميع المقاربات والرؤى، مهما كانت مكثفة ببضعة سطور، تظل حتما عاملا مساعدا للقارئ البعيد عن البصرة، مكانياً، وربما البعيد عنها في المستقبل، زمانياً، في فهم واستيعاب دلالة الفعالية واهدافها، خاصة في عصر يشهد المزيد والمزيد من التطور المتفاعل مع كل جديد في حياة الناس والمجتمع.
كتاب صلاح العمران التوثيقي، يعزز من دون شك، دور ادباء البصرة وفنانيها ونقّادها وكتابها وعلمائها في جعل الثقافة التنويرية في متناول الجميع من جهة، كما يمهد سبيل المراجعات النقدية للتراث الادبي في البصرة ودفعه في الحاضر والمستقبل نحو الالتصاق بالمعاصرة والحداثة من جهة ثانية. ان مقدمات الوعي بعملية تجديد اساليب التوثيق تتبلور كلما ازداد وتعمق دور الروح التوثيقية كجزء من الثقافة الادبية – الديمقراطية لتجاوز كل اشكال الاخفاق الادبي.
بدا لي منهج اصدار هذا الكتاب قد اعتمد على جمع نشاطات الظرفية السنوية ، بمعنى اصدار كتاب كل عام ، لاستعراض جميع نشاطات هذه الظرفية. مثل هذا الشروع يحقق مشروعا افقيا في الارتباط بالمستقبل، خاصة اذا ما اجرى المؤلف "مقارنة" بين فعاليات العام مع الذي سبقه ، مما يمهد الى "التوثيق المقارن" اذا صح هذا التعبير، خاصة اذا بدأ بالمقارنة بعملية التوثيق والتوثيق المقارن بروح التكامل، واذا اولى نوعا من الجهد الفكري – التنظيمي لكشف ومعالجة الكثير من الصعوبات والعوائق امام النشاطات والفعاليات الادبية – الفنية في مدينة منهكة بالتخلف وسوء الادارة والتصرف العشوائي بالمال العام مما ينبغي تطوير الحس النقدي ورفع مستوى وظيفة المثقفين في مدينة البصرة.
في واقع الامر يمكن ان يكون كتاب "أصوات خضر في ذاكرة القارئ" محاولة جادة لاثراء الوجود الثقافي بالمشاركة التوثيقية لممارسات الماضي الادبي من اجل المستقبل، من اجل ان يتاح للأجيال الادبية القادمة فعل ارقى وشرط افضل لإيجاد العلاقة بين "التوثيق والتقدم"، لأن التقدم – كما معروف – هو نوع من العلاقة بحاجة الى عملية متكاملة بين الماضي والحاضر والمستقبل.
ان ديمقراطية الفعل التوثيقي في كتاب صلاح العمران هو ارتباط حي ولامع بين المسؤولية الادبية والمسؤولية التاريخية، بين الانتماء الثقافي والمسار الوطني، وقد كان هو الأساس في توفير فرصة الاطلاع عليه والاستفادة منه، آملا أن يكون الجزء الثاني أكثر نجاحا في استخدام آليات الذاكرة والتذكير ليكون منهجه اكثر ايقاعا للباحثين والدارسين في مدينة البصرة.