ادب وفن

"لا ترسم عصفوراً ناقصاً".. الأسئلة والاستنتاجات / عدنان منشد

هذا الكتاب بأسلوبه الفني الاخاذ ومحتواه السوسيولوجي الواعي كتبه فناننا المسرحي الرائد عزيز عبد الصاحب على مراحل تاريخية متعددة، ابتدأت أول ما ابتدأت في مجلة "المسرح والسينما" البغدادية في عام 1972 تحت عنوان "اشياء عن تاج الممثل وملاحظات أخرى"، ثم توالت مفردات او فصول الكتاب في مجلة "أقلام" العراقية المحكمة منذ نهايات العام 1974 وحتى حزيران 1980 تحت العنوانات التالية: "مسرحيةI.P.C من وراء الكواليس" المسرح الذي افكر فيه.. المسرح الذي أدعو اليه "لا ترسم عصفوراً ناقصاً" مع فصول أربعة أخرى مهمة قد لا يستقيم الحديث عنها مبكراً، الا بعد استعراض الشواغل الاساسية لهذا الكتاب والوقوف على منطلقاته وتجلياته الابداعية والجمالية والبحثية والدلالية معاً، باعتباره اضافة جادة ومخلصة الى الكتابة المسرحية.
قد يختلف الكلام عن "لا ترسم عصفوراً ناقصاً" عن غيره من الكتب المسرحية حول أبعاده ومراميه الخاصة بمشهدنا المسرحي الحديث، إذ تترادف فيه الكثير من الاسئلة والاستنتاجات ضمن ادب مسرحي جديد من الصعب تجنيسه او تحديد هويته في خطاب او مصطلح مألوف من هذا الادب، فهذا الكتاب قد ينتمي الى ما يعرف لدينا بـ "أدب المنصة المسرحية" كما هو شائع ومألوف عند ستانسلافيسكي وميرهولد وبيتر بروك ويوجين باربا. ولكن محاولة عزيز عبد الصاحب تصب في يوميات الممثل المسرحي او مدونات البروفة "التمرين المسرحي" قبل اطلالة العرض المسرحي ازاء الجمهور وقد يتسع هذا الخطاب الى ما يسمى بـ "الذاكرة المسرحية" ايضاً، وقد يتقلص الى ما اصطلحنا عليه في السنوات السابقة بـ "حوليات المسرح العراقي" سمها ما شئت عزيزي القارئ الكريم، ولكنني احسب ان مثل هذا الخطاب يصب في ادب المذكرات المسرحية الخالصة، من خلال ما يتوافر فيها من احداث واستذكارات وازمنة وامكنة، وعبر شخصيات فنية معروفة في شؤون التأليف والتمثيل والاخراج والنقد والتنظير المسرحي ضمن مرحلة فنية مكتنزة من تراثنا المسرحي المعاصر.
ولعل من قرأ تلكم المقالات او اطلع عليها في ذلك الزمن، سيجد مدى قرب الراحل العزيز من المشهد الثقافي العراقي العام، فهو المولع بالشعر اولا قبل ان يدخل حاضرة المسرح من اوسع ابوابها في نهايات العقد الخمسيني وله مجموعة شعرية حملت عنواناً صادماً "في صحبة ليل طويل" من الصعب تقييمها نقدياً في هذا الحيز الضيق، على الرغم من ان الشاعر سامي مهدي عدّه زميلاً محتدماً في الموجة الشعرية الستينية الصاخبة وقتذاك. ولهذا حفل كتاب "لا ترسم عصفوراً ناقصاً" بشاعرية رجل المسرح المجرب وبصوفية اشراقية نادرة تتعالق وتفترق مع هذا المخرج او ذاك، وتصطفي الممثل المشارك او تختلف معه لمسببات ورؤى قيمية وجمالية في صياغة العرض المسرحي الجديد.
كان هذا هو ديدن ولواعج صديقنا وفناننا الراحل في العمل مع مخرجين كبار امثال جاسم العبودي في مسرحية "حفلة سمر من اجل 5 حزيران" وابراهيم جلال في "مقامات ابي الورد" وبدري حسون فريد في "الحصار" ومحسن العزاوي في "الغزاة" وقاسم محمد في "سر الكنز". كما جاءت في مدونات وفصول هذا الكتاب. والمثير والمستغرب ان عزيزاً يطرح نفسه على الدوام كممثل فقط لا كمؤلف او مخرج او ناقد معروف، ممثل معارض او مندد بالمخرجين والمؤلفين واصحاب التمثيل والثقافة المسرحية معا، لا بهدف التنكيل او التجريح، بل بأخلاقيات المسرح وجمالياته الغائبة عن الكثيرين من افراد هذا المسرح. ونقول هذه الملاحظة الملزمة حول عزيز عبد الصاحب، استاذ الريادة المعروفة في تأسيس الفرقة القومية للتمثيل عام 1967 مع استاذه القدير حقي الشبلي. بل نذكر القارئ الكريم بحقيقة اخرى حول تاريخ هذا الفنان في تأسيس او تدشين المداميك الاولى للمسرح المدرسي في مدينة الناصرية مع زميليه الاثيرين من ابناء هذه المدينة محسن العزاوي ومهدي السماوي. وكان من تجليات هؤلاء معاً ان تظهر في المدينة المذكورة ارهاصات مسرحية وفنية متعددة حطت رحالها في بغداد منذ سبعينات القرن الماضي، ومنهم: فاضل خليل، وبهجت الجبوري وعبد المطلب السنيد وحسين نعمة وحميد الجمالي وحكمت داود وعدنان شلاش وداود امين وكاظم ابراهيم وغيرهم الكثير.
وأعود أخيرا الى المفردات او الفصول الاربعة الاخيرة من هذا الكتاب لفقيدنا الفنان عزيز عبد الصاحب، لأقول من دون ادعاء او مغالاة، بأنني قد ساهمت والى حد ما في تحريضه لكتابة مذكراته المسرحية في جريدة "الاتحاد" الناطقة بلسان الاتحاد الوطني الكردستاني في خريف السنتين الأخيرتين من عمره ومنها الفصل المعنون حول مسرحية "الغزاة" لعلي الشوك واخراج محسن العزاوي وبثلاثة اقسام في الشهر الاول والثاني من عام 2007 اي قبل رحيله المفاجئ بأسابيع معدودات. وقبل ذلك نشر لدي في الصفحة المسرحية المذكورة مقالة ضافية موسعة حول مسرحية "دائرة الفحم البغدادية" من اخراج ابراهيم جلال خلال الشهر الاخير من العام 2006 وفيها اسرار غريبة ونادرة من فضائح النظام الدكتاتوري الصدامي حول منع هذا العرض قسرياً بفاعلية طارق عزيز والمدعو ناصيف عواد ضمن فاعليتهما المشتركة في قيادة "مكتب الاعلام القومي" المقيت، مع نشري لفصلين طازجين مهمين لهذا الفقيد، اولهما فصل "دراما الحرب في العراق" والثاني "ببلوغرافيا استعادية عن ظاهرة العروض المسرحية بين 2003- 2007" خلال شهر كانون الاول من عام 2006، وهي غيض من فيض لعموميات وفرائد عزيز عبد الصاحب في الفن والجمال والمشهد العام لساحتنا المسرحية، وقتذاك.
حسنا فعل صديقنا الفنان د. سعد عزيز عبد الصاحب في الجمع والتعريف بفرائد ومدونات وتاريخ والده الكبير، فضلا عن مقدمته الملهمة في تعريف الكتاب، باقل الكلمات، بلاغة وحصافة.