ادب وفن

أما آن لهذا الفارس أن.. يستعيد ركابه؟ / ريسان جاسم عبد الكريم

تقول أسطورة أن لصاً شريفا- وما كان أشراف اللصوص يسرقون غير كبار السراق، ليوزعوا ما هم مقتنعون أنهم (يعيدونه) الى من سرق منهم- وقع بأيدي جندرمة بلاده.... ولما رفض ان يدلهم على رفاقه، علقوه في مفترق طرق، وراحو يراقبون أمه، آملين أن تنهار، فتستجديهم العفو عنه، الأمر الذي لم يحدث..... فكانت هذه القصة. وهي مهداة لى روح الشهيد الشيوعي كريم حسين الذي علقه البعثيون- بعد أن قتلوه تعذيباً- في بوابة المسفن في ميناء البصرة.

- أنا موشوم.
- أنت
- موششوووومم
- ...؟؟
- وشمتني امرأة أحبت صدقها ولاذت به.. لم تستجر، وركام جسدها يرزح تحت ثقل فراغ اوردة تضعضع اندفاع النسغ في شرايينها.. أيقظت، بي، سباتا امتد مساحة يصعب الوصول الى ابعادها في ما أملكه من دوران الساعة.. لملمت هشيما أضاع بياناته مرتزقة وأولياء ورؤوس نفخها ارتداد المبعثرين بين تخوم أرض وجدوا كياناتهم تتدحرج فوقها، ومسالك أصر على ان يرسمها لهم كبار الرؤوس... وضعت المرأة أسسا ما عرفها المتخمون بالخواء، لمبتدأ اندفاعي نحو أفق لاح لعينيها المنتفختين بالسهر والانتظار والتراخوما، قبل أن تدرك عيناي نوافذ تشير لها المرأة بكل صدقها وبياض أعماقها.. كما يحدث لي، حين تمضغني فقاعات يأس تتقاذف وجودي، ركبت رصيف أرض يقود الى رصيف ماء.. سجلت حواسي، وأنا بين الجرى على رصيف الأرض، والعوم فوق أمواج رصيف الماء، خطى ما فارق بصيرتي إصرارها على أن تكون- في ذات الدائرة الوقتية من كل ابتداء نهاري- عند قدمين تدليا، منذ أن رفضت حاملتاه امتشاق خناجر الطعن المباغت، ورصد انعطافات الهواجس في الكيانات المتحركة، مطمئنة الى سلامة تشخيصها لتداخلات صراط أيقنت باستقامته... تلكم خطى امرأة عاندت الصبر وأصرت على أن يظل فارسها واضحا بين الغمامات المتشابكة والضباب المكثف في الحناجر والعيون... رفعت رأسها- المنتفخ الى اتساع السموات، المنطلق على أجنحة الرغبة باحتضان السحب المتخمة بالرواء والأماني- لترى غيمة تظلل وجه الرجل المدلى الرأس على صدره، مقربا بذراعيه الجنوب الى الشمال، معاتبا- باهتزازات واهنة من ساقية- الأرض على سعة صدر تغطي بها- بذات الرأفة والحلم- زارع بسمة في وجوه عطشى، مع سالب إرهاصات الفرح من المتلهفين لنشره أغطية ترد اللسعات في أيام الزمهرير...ملأت جوف ابنها بعصارت حقول القمح وذوائب أفئدة الذئاب.. عجنت له دقيق قلوب النخيل بعطاءات صدرها الغزيرة.. وحين بدأ يرتفع على الأرض أمام عينيها، شكرت الرجل الذي نفخ به أحشاءها مبكر رحيله... احتضن أبوها حفيده، الذي هجس فيه أوائل امتدادات كيانه، وتساوق إيقاعات نبضه.. قال لها، وهو ينظر في عيني الطفل،»سيسقيك كؤوسا من العذاب.. ستنوء بك المرافئ وأنت تمدين لانتشاله حبالا من النجيع.. وإذا ما احتضنكما شاطئ بعيد، سترين انه أسرع منك لبلوغ أجنحة الكواسر.. وإن تباعدت الفواصل بين ضفتين تلف كل منهما أحدكما بازرا من تعاطف، ستجدينه متأرجحا على سارية مخضبة تمخر الخليج... باغتني انطلاق زفرة حملت ركام سنين وجودها بين براثن الأوبئة ومخالب اختلال التوازن بين القناعة وواجهات العرض.. نشجت أعماقها كتلة ألم زلزلت جدر الصمت، وأثارت زوابع في العقول المستكنية الى وجاهة التريث، رغم أنها- بالكاد- غادرت شقتيها اللتين شققهما عطش الى احتواء وجنة رجل زرعته- عامدة- في حقول الدغل والألغام:
- أما آن لهذا الفارس أن .........
لم تدر أن الرصد المنظم لم يعتقها، رغم كل هذا الحول الذي مر محملا بأماني الراصدين التي كانت تتسع كلما لحظوا انحناءة جديدة تستبيح الظهر المنتصب رغم جسامة الثقل الذي ينوء تحته... وحين أوجع سمعها صوت كرية أجوف معدني النبرة يأمر ملحقيه أن يرجلوا- لها- فارسها ألذي لم يبق من كبريائه غير أنصال توخز أفئدة مترصدي من أنبتته بين أزيز الرافعات واحتكاك المرافئ بالسفن، زعقت بــ
لا.. لا لا... لا ا ا ا
أكلت الريح لاءاتها، كما هضمت خيالات الراصدين.. قبل أن تنهض من انحناءتها فوق الفارس الذي ترجل بتمزيق نياطها وانحسار الرغبة بالحياة من روحها التي بلغت شفافيتها حد التماس مع التلاشي، كنت أقف إلى جانبها مثقلا بانصهاري اليومي وأنا أمر تحت القدمين العائمتين في الفراغ، لرجل ورث عنها هاجسها بايقاظ الرغبة في الأحشاء المتطلعة الى اندثار المعالم المهشمة فوق جباه ترنو نوافذها الى استشراف أفق تباعدت فيه عناصر الغبار، وخلخل الكثير من ركائز المسمرين في أروقة التساؤلات العقيمة والثرثرة التي يضيع في فراغاتها الفنار الذي يفترض أن يهفو اليه المثرثرون...رأيت- وهي نضع بين نافذتي رأسي وجها غادر للتو ما كان يمكن أن يكون انهيارا أو ضياعا- أن من عينيها أراقت دمعة واحدة، راحتا تتحرجان فوق وجنتي فارسها الذي خيل لي أن شفتيه رسمتا انفراجا لا يكاد يلحظ عند حدود التقائهما...
- يا ا ا أمم... أنا هو.
أشرت بكل كياني الى فارسها الذي عانق أرضا هفت بكل حنان الأمهات الى احتضان تأرجحه وهو مدلى كبندول أفلته مكعب تشابكت في جوفه تروس تحركها اهتزازات لولبية يؤكد نبضها استمرار تدفق التواصل في الأجنة المحاصرة... ترددت ثواني، ثم اتجهت الي بأعماق لمسني منها شعاع تمنيته بلهفة حارقة:
- لننن نحمله.. لقد وصل الي الآن كاملا.. دع بقاياه لهم.
- لننن نحمله يا ا ا اممم.
حملتني رغبة في أن أنظر الى وجهها وهي ترفع أثقل قدم منذ أن لامس كيانها الأرض... ضغطت أصابعي على أصابع كف تعانقها.. وللحظات، تداخلت في بعضها نواظرنا.. و. . . . ركبنا الأفق نحو احتدام أعماقنا.