ادب وفن

أحتفاء بناجح المعموري الانسان والكاتب والرمز الثقافي

في مفتتح جلسة الاحتفاء / د. جواد الزيدي
اليوم هنا في بيتنا الثقافي يحتفي الحزب الشيوعي العراقي بواحد من رموز ثقافتنا الوطنية، وهو احتفاء بشخص وبسيرة وبثقافة وطن تتمثل بهذه الرموز الفاعلة، احتفاء بسيرة العارف التي هي ضمناً سيرة المعرفة، هذا العارف الذي هجر نار الوجد والحكايا والقص واشترى حجر الفلاسفة من خلال بحثه في الميثولوجيا والمقاربات الاسطورية والاديان.
بدأ هذا منذ ان غادر اغفاءة مخيلته تحت ظلال بساتين القرى المعطرة برائحة الندى وهواءها المنقى من دسائس المدن وممراتها الضيقة، حيث كان القلب مركز التفكير والحب وانتاج الجمال، ليدرك الامساك بالزمن المتسربل من تحت اهداب جفوننا، ويعيد كتابة تاريخه الشخصي وبعض من تاريخ ثقافتنا، معتقداً انه لا بد ان يكون قابضاً على ادوات تختلف عن الآخرين وتؤشر تفرده، فراح يتعلم الاكدية على يد استاذ لغتها د. نائل حنون ليتمكن من فك شفرات نصوصها بنفسه، وبهذا لفت الانتباه الى الفرق بين المعرفة الفردية والمعرفة المؤسسية.
كان ينظر بمرايا مستوية الى الموضوعات التي تبنى البحث عنها، وليس بمرايا مقعرة او محدبة (كما يسميها عبد العزيز حمودة) من اجل كشف المسكوت عنه في قضية التناص بين الاسطورة والدين من خلال مجموعة اعمال يكمل بعضها البعض الآخر.
في عام 2009 صدر في الحلة كتاب يحتفي باعماله "الاسطورة التي تبقى"، انه القاص ناجح المعموري المولود في الحلة عام 1944.
قال عنه الباحث الآثاري د. نائل حنون بعد قراءته كتابه "اسطورة انانا جلجامش وشجرة الخالوب":
"شرفت بهذه الدقة في تناول موضوع الآلهة وبالرصد المحكم لتوقيت خطوات فعل جلجامش في التعامل مع الكائنات الشريرة. وُفِّق الكاتب الى درجة جيدة في تشخيص التغير والتحول في شخصية انكيدو وفق النصوص السومرية والاكدية.
بأمانة اسجل اعجابي بدقة التسميات وبروعة التحليل. هناك خطوات في تحليل النص أتى بها الكاتب ارى انها مفيدة للكاتب المختص لو اطلع عليها".
بهذه الكلمات للدكتور نائل حنون نفتتح جلسة احتفائنا بالمبدع الباحث ناجح المعموري.
**********
نرد الجميل الى من وهبنا الكثير *
ونحن نتهيأ لتوديع العام 2017 في غضون اسابيع قليلة ، نتوّج اليوم نشاطات حزبنا وفعالياته الثقافية في مجرى هذا العام ، باحتضان إسم مرموق من اسماء الادب والثقافة والفكر في العراق ، بالاحتفاء بابن بابل الحضارة ، والعراق العريق، المبدع الباحث الأستاذ ناجح المعموري.
حدث أكثر من مرة ان سئل أستاذنا المحتفى به، عما دفعه الى التوجه نحو الأساطير والميثولوجيا. عما جعله ، هو الذي بدأ - قبل أكثر من نصف قرن - يكتب القصة والرواية والنقد، يتحول نحو حقل الفكر والبحث. فكان يرد موضحا أن السبب الأول كان الرغبة في الهرب الى حقل ، لا يضعه تحت مرأى ومسمع شرطة النظام. وثاني الأسباب هو سعيه الى التميّز والتفرّد ، بعد أن اتسعت دائرة المشتغلين في كار السرد. فربح بذلك الفكر ، وفاز النشاط البحثي ، وكسب العراق اسما جميلا وكبيرا، يحتل اليوم موقعه المتميز المتفرد بين الباحثين في الحضارات ، وهو ابن الحضارات ، وبابل مدينته وأروقته. حتى أنه ، وهو صاحب الإصدارات الكثيرة جدا ، اشتغل على ملحمة كلكامش وما زال ، وصار اشتغاله يتعمق ويتسع ويتحول من علاقة قراءة وفحص للملحمة ، الى مشروعٍ حسب قوله.
ونحن نتباهى بأبي وهب ، صاحب مشروعٍ ثقافي معرفي مشهود له، كما نتباهى به ومعه بما عانى وتحمّل ، من جور وحرمان وإبعاد وملاحقة وسجن وتعذيب ، جزاء انتمائه الفكري والسياسي ، وانحيازه للناس والتنوير واليسار. وقد قال ذات مرة عن حزبه الذي يحتفي به اليوم: "باق في ضميري ، وصوتك ملازم لي في كل مكان أكون فيه ، واشعر أني ملتصق بك ، توميء لي وتنبه عندما أخطأ ، فأعتذر حاملاً وصاياك التي استمعت إليها منذ فتوتي المبكرة ، نذوراً لا أقوى على مجافاتها.."
ويصف المعموري لقاءه بالمعلم المنظم المسؤول ، الشهيد محمد حسن مبارك ، الذي انتبه لأبي وهب وهو يتراجع أمامه منسحبا من الغرفة ، فيسأله باستغراب وهدوء:
لماذا تتراجع يا ناجح هكذا؟
يجيبه وعيناه سابحتان بجلالته - حسب قول المعموري نفسه:
وكيف أدير ظهري للحزب؟
نعم، كذلك ما أدار ظهره لبابل ، ولا لعراقه أو كتبه أو قلمه ، أو بحثه المعرفي الثرّ المرفل بالاخضرار دوما.
بهذا الانسان والكاتب والباحث ، القائد المهني ، والرمز الثقافي ، نحتفي اليوم ، لنردّ الجميل لأبي وهب ، الذي وهبنا الكثير من الجدوى الممتعة العراقية العريقة.
شكرا لحضوركم ، والى احتفالات واحتفاءات أخرى وأخرى ، فالعراق مزهر بالإبداع والمبدعين.
ــــــــــــــــــــــــــ
* كلمة الحزب الشيوعي العراقي في مفتتح جلسة الاحتفاء قدمها الرفيق مفيد الجزائري
**********

طائر التم يردد: الحزب اغنية للأبدية / ناجح المعموري
اقف بين يديْ سيدي الحزب الشيوعي العراقي بتأريخه المعزز بسرديات لا مثيل لها من البطولة والاستبسال والمرويّات. رجال ونساء، منتمون واصدقاء، كلُهم ذاكرات يقظة وحافظة خزانات من التخيّل الشعري لشخصياتٍ، تركت لنا غبطات وعلمتنا كيف نحلم بالآتي ونحن نستذكر من ذهب لمستقبلنا من الشهداء الذي نعرفُ، هم تركوا لي ما جعلني الآن امامكم، مبتهج بعلاقتي بتاريخهم ومع الحزب، أعني علاقتي مع بياض ومجد واحلام لا تكف عن التوالد وآمال عريضة. علمني سيدي الجليل ما اراده لنا وأنا أدنو من الحلم واتجاور معه، وعلمني بهدوء وتأنٍ وبدون آمريةٍ، اخذني بوقت مبكر ووضعني على درب ليس هناك بين دروب الارض اصعب منها. جعلني درب الحزب عارفاً بتوظيف العقل والابتعاد عن النقل. لذا انحرفت بوقت مبكر نحو معرفةٍ هي صداقة عقلي مع ما هو معقد وصعب في الثقافة، واثمرت شجرتي وانا ذاهب نحو احلام متحركة وستظل متنوعة وعديدة وبها أعيشُ اجمل أيامي وأكثرها سعادة، أضفتْ قوة وطاقة على شيخوخةٍ تُرى وتَرى وتصل لما تريد الوصول اليه.
هذا فضل الحزب عليّ، وما زلتُ احترمه ومتجاوراً معه الى حد الالتصاق وأغبط من كان وظل فيه، على الرغم من أنني على شاطئه وسأظل للأبد، لأني لا افكر بالتعطل عن الكتابة وهي مقترنة بهِ. بيني وبينه خط ابيض وصعب على أي فرد ان يرى الفاصل الابيض على ورقةٍ بيضاء.
السلام على اللحظة التي عرفت بها الحزب وانا في قرية عنّانة التي ما زالت على هواها.
ايها الحزب، لولاك ما عرفتُ كل الذي عرفته منذ عام 1959، ولولاك ايضاً ما كنت الذي انا عليه الآن.
لولاك لما حصل الذي حصل ولم يكن سهلاً حصوله لغيري هذا متنوع صعب ومعقد. ولولاك لما كنت شاباً في العلاقة مع الكتابة وانجح في امتحاناتي وأعطي اسمي دلالته.
تاريخ طويل معك والقميص الابيض ما زال ابيض وسيظلُ.
للشهداء والأحياء تتسعُ ذاكرتي وطناً لسرديات تقصُّ عن الشيوعيين لكل العراقيين.
للحزب سلامي وشكري وامتناني
لونك بياض لي وهذا يكفيني
انا سعيد، فرح، وممتن بغبطتي اليوم.
***********

ناجح المعموري وسرديات الأنسنة / علي حسن الفواز
يفتح الباحث ناجح المعموري أفقا مغايرا لقراءة السرديات الأسطورية، إذ يرى أنّ وظائفها الفاعلة تتبدى أكثر حضورا من خلال تمثلاتها الرمزية، أو من خلال ما تقوم به من وظائف وإحالات عبر ثنائيتي الكشف والتحوّل. فبقدر فاعليتها في الكشف، فإنها تكتسب قوة أخرى من خلال تحولها في السياق، وفي التعريف بالوظيفة الرمزية. إذ تُحيل قراءة تلك السرديات، الى كلّ ما يتعالق بالتاريخ الشفاهي للجماعات والحضارات والأديان، وبالتخيّل الذي صار(عنصرا بالغ الأهمية) في تبدياتها وفي ما تركته من الواح وسير ومرويات كما يقول المعموري، أو في ما تكشفه حمولاتها التمثيلية، من خلال الحفر في نصوصها، وفي طقوسها. إذ تُعبّر هذه الطقوس عن علاقات وأنماط حياتية، وعن علاقات عبادية وتخيلية بالمُقدّس، وعبر ما تركته من علامات لهذا المقدّس كالزقورات والمعابد والرقى والمنحوتات، فضلا عن ماهو مرويّ أو مدوّن من سردياتها التي كثيرا ما حفظتها الديانات الأسطورية، والتي تتنوع اقامة وظائفها عبر المراسيم والاحتفالات، وعبر اقامة القرابين او العبادات، او عبر معالجتها لموضوع الجنس، بوصفه جزءا من طقوسية التطهير والخلق والخصب. حيث يتعرّى المفهوم والمصطلح عن سياقه وأصوله، ليكون له سياق آخر يتعلق بثنايات أخرى أكثر تعبيرا عن الوجود وعن أنسنة الألهة، أو في تفسير أصل العالم، والتي تتمثل سيرورته أساطير الخصب والجدب، والموت والحياة، الالوهة المؤنثة والالوهة المُذكّرة، بكّل ماتحمله من بواعث واغراض..
القراءات المفتوحة للمعموري تكتسب أهميتها من خلال(تناصاتها مع الانظمة الفكرية والدينية في حضارات الشرق المعروفة) كما يسمّيها والتي اصطنعت لها نصوصا وطقوسا وعلامات، هي جزء من البنية الأسطورية للديانات العراقية القديمة، مثلما هو انفتاحه على سرديات مابعد الاسطورية، والتي لاتغيب عنها الفكرة الجوهرية التي تتعلق بأنسنة تلك الأسطورة، وعلاقة هذه الأنسنة بالمظاهر العبادية الحاكمة، وبمظاهر الخصب الاسطوري، بوصفها جوهر القوة، والسر التي تتطلسم به فاعلية الألوهة الكبرى في الاساطير، وفي جوهر تطويعها لفاعلية الأنسوية في مرحلة مابعد الأسطورية وبداية عصر الملاحم..
تشكّل ملحمة كلكامش لحظة فارقة في مشروع ناجح المعموي، بوصفها خلاصة هذا التحوّل، والتي وجد في الشفرة الأنسوية ل(انكيدو) مجالا للتعاطي مع مظاهر تفكك الالوهة الكاملة عند كلكامش، وبداية الاحساس بفكرة الفناء او الموت التي عاشها انكيدو..
المعموري وسرائر سرديات التحوّل..
يمكن دراسة اشتغالات المعموري من خلال ثلاثة مستويات، إذ يتبدى المستوى الأول بسرديات القص، والذي جسدته مجموعته القصصية(اغنية في قاع ضيق) والقصص التي كتبها في المجموعة المشتركة(الشمس في الجهة اليسرى) مع القصاصين جهاد مجيد ومحمد احمد العلي و فاضل الربيعي، فضلا عن روايته(النهر) التي بدا هاجس سرديات الخصب فيها واضحا، ونزوعه الى مقاربة اسطوريات المكان والشخصية، بوصفهما جزءا من عوالم التكوين الأولى لما كان يمور فيه المكان العراقي القديم، وما تحمله هواجس الشخصية وهي تمارس طقوسها العبادية من خلال طقوس الخصب والنماء والجنس والأضحية والخلاص، وكلّها ذات تمثلات مائية دالّة، وجد المعموري بعض شفراتها ومرجعياتها في أصول بيئته المائية..
كما يتبدى المستوى الثاني في السرديات الاسطورية، إذ أسس الباحث مشغله البحثي من خلاله دراساته المُعمّقة لأثر الاسطورة في السرد، وأثر التمثيل الاسطوري على بنية السرد، وكلاهما وضع المعموري امام مسؤولية فحص الخطاب الاسطوري وتوصلاته المعرفية على بنية العقل الديني والعقل السلطوي، وعلى علاقة السلطة بالجنس، وبالعبادة، وتمثلاتها من خلال العلامات، والرموز، وطقوس العبادة والزواج والحرب والحصاد وغيرها. وكلّها تتجوهر حول فكرة أنسنة الطبيعة التي وجد في أنسنة انكيدو براديغمها الواضح، فضلا عن توظيفها في سياق توصيف العلاقة الحاكمة للآلهة الاسطورية من حيازتها لكلّ مايتعلق بالخصب، وبفاعلية تلك الأنسنة على مستوى اعادة النظر الى أُلوهية الابطال الاسطوريين مثل كلكامش، أو على مستوى الابطال الارضيين مثل انكيدو. وكلا الأمرين يُعبّران بالأساس عن قيمة الصراع بين الالوهة والأنسنة، واهميته في التعبير عن التمثيل من جانب، وفي تخصيب فكرة الجنس والتمدّن من جانب آخر..
واحسب أنّ دراسات المعموري للاديان القديمة، وللأساطير الخالقة، ولملحمة كلكامش بشكلٍ خاص، أهميتها بالتعريف بأسطرة مقاربات الخلق وتأثير الجنس وشفراته على اعادة النظر في موضوعات الخلود والموت في تلك الملحمة، والتي وجد فيها الباحث مجاله الأكثر تعبيرا عن قراءاته الجادة لأثر السرديات الأسطورية على موضوعات الخلق والخصب، وعلى مهيمناتها الحاكمة، بدءا من مهيمنة البغي المقدسة، الخالقة، المؤنسٍنة، وانتهاء بمهيمنة القوة التي كان يمثلها كلكامش الطاغية، والمنتهك، وفي النظر الى نشوء البطولات الخالقة التي كان يمثلها النبي نوح/ اوتونابشم وفي تمثلات الحضارات القديمة الأخرى قبل الطوفان أو بعده، وكلّها تقارب في جوهرها فكرة الماء بوصفها الفكرة المهيمنة للموت/ الطوفان، والمولّدة للخصب والولادة والتطهير/ نشوء الخلق..
كما تبدت (السردية الثقافوية) من منطلق ما طرحته مقارباته للدراسات الانثربولوجية الحديثة، والتي اقترح لها قراءات تتجوهر حول كشف اسطورة الانسان ذاته، بوصفه رمزاً لقوة الطبيعة، ولمركزية العقل الاداتي الذي يملكه، والذي يتبنى من خلاله خطابه في نقد تاريخ العالم، وللتماهي مع مفهوم الآخر القوي والاستعماري والاستشراقي، ولكلّ ما اثارته الحداثة، ومابعدها من أسئلة مفارقة.
فقراءاته للنقد الهيدغري للكوجيتو الديكارتي تمثل جوهره في نقد الحداثة والطابع الأنوي لها، حيث مهد ديكارت مدخلا لقوة هذه الأنا المتعادية والمُفكرة، إذ( جعل من الذات الانفرادية مركزا ً أفضى نحو تمركز لا مثيل له في تاريخ العالم ، هذا التمركز الذي كان سببا ً في تسفيل الذات الجمعية على حساب الأنا) كما يقول المعموري، وهو تأسيس لنقد فاعل لكل المركزيات التي حاول ادوارد سعيد وفانون وسبيفاك وهومي بابا نقدها، بوصفها مركزيات تقوم على تدمير الفكرة الجوهرية لسرديات اسطورة الانسان الخالقة عبر اخضاعه لسرديات التمثيل الاستعماري لفكرة الهيمنة الطاردة، ولقوة موجهاتها الاستشراقية والاحتلالية..
المصطلح والمفهوم
انشغال الباحث المعموري بقضايا المصطلح والمفهوم على المستوى الدلالي أو المستوى التداولي تنطلق من حاجته لتعقيد الفهم المنهجي للأفكار، ولما يمكن أن تستدعيه مقارباتها المعرفية في النظر والقراءة والفحص، فهو يدرك أهمية المصطلح في البيان والوضوح وفي الوظيفة، وصولا الى المعالجة. ولعل استغراقه في ما استخدمه مفكرون مثل هايدغر وبول ريكو وهايدن وايت وجيلبرت دوران وميشيل فوكو وبورديو وادوارد سعيد من مصطلحات ومفاهيم، يعكس مدى اهتمامه بهذا الجانب الوظائفي للمعرفة، ليس لدراسة سرديات ما بعد الكولنيالية وظاهرة التابع والزنوجة والنسوية والآخر، بقدر ما هو حيازته لأكبر مساحة من المجال النظري لتأطير فاعلية القراءة داخل النسق المنهجي، وفي اعادة النظر بقراءة اساطير الانسان الحديث كما سمّاها رولان بارت، تلك التي لها علاقة باليومي والهامشي، وفي تفاصيل الحياة العامة للناس مثل الاعلان وكرة القدم والازياء والماكيجات وغيرها..
كما أن مصطحات مثل الكولنيالية والاستشراق والنسوية والتناص والانثربولوجيا والثقافة والاسطورة والمثيولوجيا، والتابع، والجندر، والعنف الرمزي، والمهيمن السائد، ليست بعيدة عن مشغل المعموري الذي يدرك أنّ خطورة المعرفة بوصفها (اسطورة انسانية) تكمن في النضال الانساني وفي دفاعه عن وجوده وقيمه، وفي حماية وصيانة مشروعه الذي يتعالق مع الحرية والدولة والحاجة والاشباع بما فيه الاشباع الجنسي، وكل الاشباعات التي تخصّ جوهر الأنسنة التي تمثل جوهر مشروع المعموري وخلاصة بحثه عن أنسنة المعرفة والمعنى والجسد والسلطة...
***********
المعموري .. منهج انثروبولوجي تنويري رافديني /د. عبد الامير الحمداني*
يهدف الاستاذ ناجح المعموري في دراساته لحضارة وآداب العراق القديم الى تأسيس مشروع تنويري في حل الاشكاليات الثقافية المترتبة جراء التوتر بين المقدّس والتراث. وينتهج في سبيل ذلك منهجاً انثروبولوجياً يعتمد على تفكيك النصوص القديمة واعادة قراءتها برؤية جديدة تبحث عن مساحات للالتقاء.
هذا المشروع يمكن ان يسهم في خلق مناخ ملائم للبحث عن هوية وطنية رافدينية جامعة، يمكن ان يستظل بها جميع اطياف الشعب العراقي مع الاحتفاظ بخصوصيات الهويات الفرعية. ويمكن لهذا المشروع كذلك ان يؤكد على قبول الحضارات الكبرى كالحضارة العراقية بالحوار ورضاها به. وذلك لو تحقق كفيل بان يجسّر الهوة والفجوة بين المواطنة والتراث الثقافي العراقي القديم. خصوصا وان البنى المجتمعية الدينية والاجتماعية، وبعد وقت طويل من الانقطاع الثقافي، لا تكترث كثيراً بهذا التراث، بل تعتبره غريباً ولا تشعر بالانتماء له، مما ساهم كثيرا في الاساءة للتراث والآثار، سرقة وتخريبا وتشويهاً.
دراسات المعموري الفكرية في آداب العراق القديم، يمكن لها ان تساعد في زيادة الوعي بالآثار وفي الحفاظ عليها.
خلاصة بحوثه تركز على محاولة العثور على الاساطير الاولى المؤسسة للفكر الثقافي والاجتماعي العراقي المعاصر، لكي تقدمها بديلا صلداً ناجحاً لمنصات التشظي.
ـــــــــــــــــــــ
*مختص بالآثار والانثروبولوجيا
***********
السرد معكوساً / امير دوشي *
كتب صادق جلال العظم كتاب "الاستشراق معكوسا" ليصحح قراءة ادوار سعيد للموضوع. كذلك المعموري تحول من السرد الى البحث المعرفي، السرد معكوساً، ليذهب مباشرة الى موضوعة الاساطير وينقب فيها.
فالسرد نمط معرفي غير كاف لسبر الاشياء، على النقيض من نجيب محفوظ الذي بدأ طالباً وباحثاً في الفلسفة، بل قدم رسالة ماجستير، لينتهي سارداً، حتى سماه جورج طرابيشي "الفيلسوف المقنع".
قدمت بابل الى المعرفة العراقية طه باقر منقبا في الآثار، وناجح المعموري منقبا في الاساطير، كلاهما منقبان في باطن وعمق الاشياء. وعندما نسأل: ما هو التنقيب، يأتي الجواب: حفر وتركيب وتأويل. وتلك هي خطوات المعموري في بحثه في الاسطورة.
على مدى اكثر من عقدين كانت الكلمات الاكثر تكرارا على لسانه عند اللقاء: حفرت ونقبت وفككت بحثا عن العمق لجوهر البنية والمسكوت عنه المغيّب.
موضوع السطح والعمق هو موضوعة الحداثة التي ترافقت مع تشكل العلوم والمعارف الحديثة، فهي الموضوعة الرئيسة في التأويل في باطن وسطح الشيء. فان كان الظاهر هو العمق، فلن تعود هناك حاجة الى المعرفة، وهي كذلك موضوع البنية التحتية والبنية الفوقية في الماركسية وما تعكسه الايديولوجية. ولذلك فهي موضوع المكبوت في علم النفس وموضوعة الذات الحقيقية في البحث الوجودي عن الذات، واخيرا هي موضوع العلاقة بين الدال والمدلول في البنيوية.
اقول: تمثّل المعموري هذه المعارف ليبحث في موضوع السطح والعمق، فكان على النقيض من حاوي التحف الذي يصف التحفة، منقباً فيها وهو مسلح بالمعارف الحديثة، ليقرأ التحفة ويذهبنا الى الماضي بحثا عن بنية الحاضر وتناقضاته.
ـــــــــــــــــــــــــــ
* باحث آثاري ومترجم