ادب وفن

استقراء التاريخ سردياً .."ستة أيام لاختراع قرية" أنموذجا / عبد السادة البصري

التاريخ جزءٌ لا تجزأ عن حياة البشر دائماً، فهو المسجّل الرئيس لكل الأحداث التي تمرّ بهذا الكوكب، لهذا تجد الجميع مشغولين به أينما كانوا وفي أي ظرف، وعليه كتبَ المؤرخون كتبهم وانشغل الرواة والقصصيون وحتى العلماء والفلاسفة بأحداثه!
وفي روايته الأولى "عندما خرجتُ من الحلم" سرد لنا الروائي علي عباس خفيف بعضاً من سيرته الحياتية كما أضاف إليها بعضاً آخر من الأحداث في مجموعته القصصية "منزل الغبار" أيضاً، وها هو ينبش في أجزاء خفيّةٍ من التاريخ ليعطينا حكاية عن قريةٍ سادت ثم بادت في زمنٍ مرّ سريعاً، انه في روايته الثانية "ستة أيامٍ لاختراع قرية" يحرّكنا مع كل كلمة يكتبها ويجعلنا مشاركين له في عملية السرد من خلال أبطاله الحقيقيين والوهميين، فمجموعة المشغل السردي التي ابتدأ السرد بها موجودة بأشخاصها وحكاياتهم بيننا وهم جزء من مشهدنا الثقافي في هذه المدينة البصرة حالياً، والطفل الغائب الحاضر بمخطوطته التي أثبتها الراوي حقيقة من خلال الصفحة إياها، حاضر بيننا وكأنه واحد منّا.
إنّ الراوي جعل من نفسه بطلاً سارداً للأحداث عبر أيامٍ أراد لها أن تكون ستة ــ إنها أيام الخلق ــ إذ أنّ الكل يعرف إنّ الكتب السماوية قد أشارت إلى خلق الأرض والسماء في ستة أيام واليوم السابع مكملاً لها فهو ــ أقصد الروائي ــ قد صنع من الأسطورة حقيقة ملموسة:
"إنني على يقينٍ أنّ الوصول إلى عالم الصبي المصنوع من تلك الخرافة لم يكن يسيراً، ولكن هل كانت الأشياء المصنوعة بجدارةٍ والتزام وإخلاص، مجرد أشياء للتسلية".
وشكّل اختراعاً لقرية رسم المعالم، والاختراع هنا بمعناه اللغوي إنشاء جديد، أو إظهار شيء ما للوجود، وفي هذه الحالة تأسيس جديد لمكان وزمان جديدين فهو لم يقل ابتكاراً ولا اكتشافاً، بل اخترع هذه القرية من مجاهيل الذاكرة، وأي ذاكرة، إنها ذاكرة طفلٍ ميت تلعب بأحلام كاتبٍ سحرته مياه الشط وخمرتها، فبين خوف السارد العليم حتماً، والذي أعطاه الكاتب دوراً فاعلاً في الرواية وبالأخص شخصية موجودة حالياً بيننا انه القاص "ناصر قوطي" بمعنى إنّ الكاتب أراد أن يُشركنا في خضّم الأحداث التي عاشها شخصياً حول اسم آخر، وأعطى الرواية اسمها بثوب آخر أيضا من خلال "مفكرة الأحلام" أو المدونة التي تركها الصبي تحت وسادته قبل أن يموت في قرية "بيت سنحة" ثم طلب من أمّه أن تدفنها معه بعد ذلك.. ولكن لماذا طفلٌ صغيرٌ أو صبيٌّ لم يبلغ العاشرة بعد هو الذي يروي الأحداث ؟! هذا تساؤل يجعلنا نقف أمام فكرة إنّ الكاتب يريد أن يعطينا مفهوما هو إنّ الأطفال بإمكانهم أن يقوموا بأعمال خارقة أو بطولية في نفس الوقت أو يكونوا شاهدين على مجريات التاريخ:"لم أكن لأصدّق أن يحلم صبيّ بكل هذا الخوف ويكتب مذكرات الأحلام، فتتحول أشياؤه إلى واقع مروي وكائنات".
كذلك لماذا هذا التأكيد على ذوي العين الواحدة؟ وما الذي يريده الكاتب بهذه الإشارة الدّالة حتماً، والتي تعطي انطباعا سيئاً في بادئ الأمر أو هكذا يخيّل للقارئ وبالأخص إذا قسّم سكّان القرية إلى "عورٍ، عميان":
"في قريتنا 3192 أعور، و3114 أعمى هم كل السكان، وفي القرية مؤذن واحد، وساحرتان، وكاتب أحجبة بالكاد يقرأ، وفاتنات كثيرات بعين واحدة، وثلاثة مغنين، وثلاث نائحات على الموتى قبل أن تموت جدتي، التي كانت أفضل النائحات خصوصاً في مواسم الحزن السنوية، و"عوّاد البغل" الذي كان يأكل الحشائش كالحمار معتقداً انه يكتسب عافية بغل".
بعد ذلك يواصل سرد الأحداث بأسماء أماكنها التاريخية وهنا تأتي عملية استحضار التاريخ في "دير الدهدار"، "باخمرا، بيت سنحة" فضلاً عن امتهان البعض عملية صيد الصقور "الطراحة" وان سبب فقء أعين السكان هي الصقور حيث كان المولود يوضع في باحة الدار لينقضّ عليه الصقر ويفقأ إحدى عينيه، والصقور تعود لراهب قَدِم إلى هذه القرية من شمال البلاد متّخذاً إيّاها بيتاً ومسكناً وديراً للعبادة وتربية الصقور التي تأتي عليه في نهاية المطاف، وصولاً إلى مزار "آصف بن برخيا" أو كما يسمّيه العامّة قبر النبي "سلمان بن داود" مرورا بالنساطرة الأولين، ، الكاتب هنا يستقرئ التاريخ الشفاهي لهذه الأماكن على لسان أحفاد ساكنيها الأوائل ليؤسس على ذلك روايته أو حكايته وليعطيها بُعدا أسطوريا ودلالات سحرية تحيلنا إلى الواقعية السحرية في بعض جوانبها، انه يقسّم مذكرات الصبي كما تركها إلى ستة أيام وكل يوم له اسم خاص به "عين النهر، عين الذئب، عين مولود جديد، عين الجسر، عين النعاس" يحاكينا وفق الأعين التي يريدها، مع العلم إنّ القرية تحيا بسكّانٍ كلهم ذوي عينٍ واحدة أو عميان، بعد ذلك ينهي مدونته مفتوحة في اليوم الأخير "يوم اخترعنا المقبرة" ــ وهل المقبرة تُخترع يا ترى؟! وكأنه يريد أن يقول لنا إنّ حياتنا فكرة مخترعة أو حكاية تبدأ وتنتهي عند باب المقبرة!
الروائي علي عباس خفيف غاص في تاريخ مدينته الشفاهي كما قلت سابقا ليسرده حكايات على الورق وليؤرخ لهذه المدينة من جديد، لناسها.. لريفها الخ، كما انه رمّز روايته بأشياء ممكن الوقوف عندها وتأملها جيدا لإعطائها تأويلات غير التي نبصرها على الورق ، إنها خيالات تنمّ عن أشياء حصلت وتحصل بين مسارات التاريخ الطويل، وأنا على يقين تام انه سيظل مستقرئا لهذا التاريخ عبر روايات أخرى، انه يبحث ويتقصّى الحقائق والخرافات كي يصل إلى فكرة ما ويدونها رواية جديدة!