ادب وفن

القارئ.. وإناسة شتراوس في "كم اكره القرن العشرين" / اسماعيل ابراهيم عبد

أولاً: صناعة الاناسة
"يشير فيشير الى أن الظواهر التي تنتمي انتماء مخصوصا للأبحاث والإناسة انما تتحدد وفقا لمصالحنا واهتمامنا".
في الفعل الروائي كثيراً ما يلجأ الكاتب الى تخليق مجتمع شبه متكامل من جانب العلاقات البنائية بين اجزائه, سواء كانت علاقات سليمة ام سيئة, وسيكون الروائي مسنداً رؤاه الى ابطاله ليكملوا مصنوعاته الاجتماعية. وهذا ما ندعوه بتصنيع الانثروبولوجيا.
لو دققنا في الانثروبولوجيا المصنوعة في "كم اكره القرن العشرين" لوجدناها تجيء متسلسلة بحسب حاجة الروي.
أـ طبقة الافرارية. بـ طبقة المسؤولين: تقتصر ـ في الرواية ـ على, الاب الموظف , مسؤولي الحزب, ضباط المخابرات. ج ـ طبقة الاصول تنتسب اليها القوميات التي أسست البلاد وشيدت حضارته بضمنهم البلوش النازحين قديماً من بلوجستان الى العراق في (فاو) البصرة ومركز البصرة.
د ـ طبقة الصعاليك "الشماريخ", وهم المتعاونون في الحفاظ على ارواح الافرارية ومسهلي لهم بيئة واوقات السكر والمتعة والنساء والتخفي والاجازات المزورة. هـ ـ طبقة الاقليات, وهم البلوش والمسيحيون والكرد. ان خلق الانثربولوجيا الروائية خاضع لطبيعة الثقافة, بضمنها الفلكلور والمثيولوجيا. " تذوب الاشياء الاجتماعية عبر التحاور , وتخالف وجهات النظر بحسب طبيعة التخالف الرتبي والنفسي, فضلا عن ان المؤثثات الاجتماعية فردية السلوك لكنها اجتماعية التمثيل. وفي الهدف الفني يذوب المهيمن الاجتماعي لصالح المبئر الفعائلي". فالأشياء الاجتماعية هي ذاتها الفلكلورية والمثيولوجيا, كما ان التحاور والتذاوب يعني القدرة الفنية على دمجها كلياً بمواصفات نفسية رتبية. ـ الحركة الاولى لطبقة الاصول , وفيها تحول علائقي من الاجتماعي الى الروائي وبالعكس "قام مضيفاي بترتيب رحلات يومية الى قلعة اربيل تل السيد.. و.. و.. و.. والمدن والاقضية التي عبقت بإرث الآشوريين والبارثيين والسلجوقيين والساسانيين والعرب والعثمانيين, وتجلت فيها عظمة الإلهة عشتار والاسكندر المقدوني وصلاح الدين الأيوبي". هنا يتضح من التقديم الروائي ان الكاتب يضعه ليجعل قوميات واصول الاقليات هي اصول الطبقات العراقية كأُمة, منحازاً فنياً وفكرياً الى وحدة الأمة العراقية ليختلط العامل الروائي والاجتماعي ويذوبان بلحمة واحدة كون تاريخ العراق وفنه ملكاً للعراق وأهله بلا حدود زمنية او مكانية. ـ الحركة الثانية تضع (البيئة المادية) التراثية لطبقة الأصول. "تأملت الجدة أول صورة لـ " مولو " باللونين الابيض والاسود,. .. بدا فيهما. .. فرحا يحتضن جذع نخلة " برحية "... لاحظت ساحة أسد " بابل " الساحة سياج حديدي, بينما تظهر, من خلف الساحة بناية البنك المركزي العراقي". يلاحظ ان المقطع اعلاه يقيد العلائق التراثية بحميمية الموجودات البشرية والعمرانية والمثيولوجيا الرديفة, أي ان: × الجدة والحفيد مولو = المجتمع الفولكلوري في الرواية الرديف بطبقة الاصول. × الساحة والاسد = القاعدة المادية التراثية للأصول. × الساحة والبنك = القاعدة العمرانية للمكون البيئي في الرواية الذي تتحرك بمحيطه بعض طبقات الاصول "البلوش".
ـ الحركة الثالثة طبقة "الصعاليك/ الشماريخ" تتشكل طبقة الشماريخ من سكنة الازقة وممارسي الاعمال البسيطة , ومن النظرة الدونية كأسفل طبقات المدينة : "الريافة ليست ترقيعاً أو خياطة فتق, ليست هذا اللابد ليس منه بُدْ. هي علاج بصري بارع لكل ما هو تالف منها... " طب عرب " يأخذ عناصر الدواء من "شماريخ" أزقة المدينة,... لا يبصر وجه طرفها المتكسر على مياه "شط العرب" الا الشماريخ الذين جرى ضياعهم جملة في أسفل طبقات المدينة".
في هذا المنحى النصي يتأكد المتابع من القدر النوعي لهذه الطبقة من الجانب النفسي والمهني, وثمة تجانس واضح بين الهامشية الطبقية والبعد المكاني كون النموذج البلوش هم في الهامش الجغرافي من العراق "الفاو البصراوية". وما يبطن الطبقية هنا نوع من الذكاء والمقاومة لقوى التضييع عبر الذكاء والمكر ودقة تخييط الفتوق بالصبر والتركيز فخياطة جروح الاستبداد لا تفترق عن أية خياطة للمشاكل الانسانية العديدة.
ـ الحركة الرابعة , طبقة الافرارية, إذ أن وجودهم يؤلف طبقة وعلاقة بين فئات الجيش المستحكمة والمحكومة. بين الانضباط العسكري والهاربين. ترى كيف هو شكل وتركيب الهاربين كطبقة عريضة ملاحقة, نفسيا وسلوكيا؟
: "محظوظ من ولد وفي قلبه نغمات الهارب, شجنها , صوت الخيال المتحرر من ضنك الذات... يا لعذوبة لهاثها المأخوذ بالحنين. كم أنت بحاجة لها يا هالة تجليات الهرب. ستساعدك على الفكاك... والخلاص من لؤم الزنابير, وستزيل نوبات قلقك وغربتك. أنت بحاجة الى هرب روحي حر الى قلب الاشياء, الى "ريبو سلامو", هي بحاجة اليك, ووحدك من يمنحها معنى".
يتبين من المشهد, ان طبقة الافرارية "الهاربين". طبقة تعدُّ مثالية بوعيها الثقافي وكأنها المكمل الثقافي لجميع الطبقات الأُخرى لاحتوائها على عدة مواصفات, منها:
1 ـ أنهم يؤلفون نغمة متناسقة الرؤى والافكار, مهذبة الاسلوب.2 ـ انهم الطبقة الوحيدة من لديها روحية مقاومة التجهيل. 3 ـ لديهم قوة مقاومة الاضطهاد بأعنف اشكاله ممثلا بالانضباط العسكري "الزنابير". 4 ـ هم من يرى الخلاص الروحي بالحرية. 5 ـ وحدهم من له قدرة الغوص في عمق الجمال في الاشياء التي اوجدتها ريبو سلامو (الفاو) كقيمة ثقافية للمكان. ـ الحركة الخامسة تخص المسؤولين ومثالهم المخابراتي مضر. "توقفت لصقي سيارة بيضاء. .. صوت يأمرني بالصعود. ـ " يول اصعد شجاك"..
.. هتفت فرحا بلا قيود: "م. .. ض........ ر". توقفت السيارة قرب نقطة التفتيش فداهمني الرعب. .. ـ "هوياتكم, إجازاتكم" مد "مضر" يده اليمنى باتجاه الزنبور عارضا عليه بطاقة هويته , ومع هذه الانحناءة المفاجئة ـ للانضباط... حبست أنفاسي. . قال للزنبور بما يشبه الهمس : " دحج , عدنه حَسْبَه ويه هالزلمه". ـ عفوا سيدي خذ راحتك!". يبين المشهد الكيفية التي تترتب على العلائق الفوقية للمؤسسات الادارية بين المسؤولين في الدولة, العلاقات القائمة على أساس التحكم والخضوع المُذل بين الما تحت للما فوق. هذه العلائق استشرت في المجتمع العراقي لتصمه بالعسكرة العنف وبجميع مفاصله "المدنية والعسكرية والامنية والحزبية". ـ الحركة السادسة تخص الاقليات اذ يصف الراوي البطل بيئة وطبيعة واحد من ابناء الاقليات, بلوشي تم مسكه وسيقدم الى محكمة صورية ليس فيها سوى حكم واحد, الاعدام رميا بالرصاص. "ها هي أجراس نهايتك تدق مشيرة الى لحظة الختام , فأنا لم أعد "مولو البلوشي القديم" بعد الآن, "مولو" الهارب, المسكين هرب من ماضيه , اضطر, بنوع من التدنيس المحبب , الى صنع هارب حرفي أعماقه, بلوشي مفلس آخر, مصعوق. .. لم أعد عبدا... يا بالاجاني , أن قنديل الهرب. .. الذي أنار عتمتي... هو سليكة". لكن اولئك لهم مثولات عدة تؤشر عراقتهم من تلك المثولات:
1 ـ الروح الشعبية ونموذجها
2 ـ بؤس العمل, نموذجها 3 ـ العجائبية الواقعية , نموذجها.
4 ـ الاشتراك في كره القرن العشرين, نموذجها. 5 ـ عشقها للنغم الايقاعي والكورلاي , نموذجها صفحات عديدة لكن اوضحها.
ثانياً: توريط القارئ كونه هدفاً وقيمة وحكماً, أدخله الكاتب عبر ثلاثة مداخل هي الميتا سرد, واتخاذ الحكم الذوقي, وتبادل الرأي.. لنا على ذلك أمثلة لنعمل على تثبيت بعضها. أ ـ ورطة القارئ عبر الميتا سرد في حديث "ميّا" الى الروائي المكلف بتحرير الرواية التي تخص "مولو" تنقل له مشاعرها على الوجه الآتي :"قلبت الصفحة بصعوبة, وحالما فاحت رائحة البلوش هتفت بلا شعور: أخيرا فكر شقيقي المرحوم أن يرد لي المعروف , أن يجعلني مجنونة مثله , أن يحيلني الى آخر هيئه لي, هيأتي وأنا أرتعد". فالميتا سرد تم من خارج الابطال ومن خارج التعبير الاساسي وجاء شرحا وتوضيحا , بل تدخلا في تغيير قناعات القارئ. أي ان الراوي والروائي الكاتب والروائي المحرر وميا البطلة, كلهم مارسوا لعبة التأثير على القارئ ولم يتدخلوا في زيادة او تحريف او اختزال النص الاساسي "دفاتر الرواية الثلاثة" ب ـ توريط القارئ عبر تبادل الرأي "هل لي ان أحظى بكرم التفاتة؟.. مهلك لحظة... جرِّب أن تنصت لي مرة.... ولكن كيف !؟ هي زلزلة عصيبة. ـ الرواية"
لقد اراد الروائي ان يشرك القارئ مع البطل في عملية تبادل رأي وكأنهما يتحدثان معا , يخاطب واحدهم الآخر, بينما البطل ميت وتلك الرواية من منسوجه الادبي, الى حد ان البطل يرجو ان يحصل على التفاتة.. ليتمهل لحظة قبل ان يعطي رأيه, واخيرا يخبره بما يقترب من التحذير بالسؤال والجواب "لكن كيف؟ هي زلزلة عصيبة".ج ـ توريط القارئ عبر الحكم الذوقي "يجب الا افوت متعة الاكتواء بكل. .. الأسى , فهو شيء رابض في قلبي , ينبض معه , ويتغذى على شيخوخته. على " ميّا " , وعلى الآخرين , أن يتمتعوا به , أن يتمرنوا على احتماله. .. أن شد عضلات خيالهم سيحتاج الى مباراة فاصلة كهذه. ـ هنا تتدخل ذائقة القراءة محيلة النص الذي يثير الالم ليتحول الى متعة اكتواء ذوقية, متعة الاسى الذي خزنته الذاكرة بكونها قلب الاحاسيس, بل يدعو اخته والآخرين الى الغاية ذاتها فكأنه فيلسوف وجودي يزجي للآخرين متعة تذوق نصوص الألم.
في الروي يكون حضور الراوي كوسيط لا حيادي , وان كان يتظاهر بالحيادية, وفي رواية كم اكره القرن العشرين تصل وظيفته الى حد التدخل في توجيه الافعال وتقزيم الشخوص او تضخيمهم. لكن ما يلفت النظر في هذا , هو التناوب المتسارع في الروي احيانا كأنما هناك رقيب يوزع المهمات, وأن التسابق على تنفيذ الروي جزء من كفاءة الراوي المتنافس مع آخرين على انجاز المهمة.
وبالعودة الى الصفحات الأولى سنجد هذه الظاهرة تأخذ التناوب الظلّي في نقل احداث السرد, اذ ان الراوي الاول ـ الروائي ـ يجعل ريّا وميّا راوية ظل له , ثم تتحول الجدة راوية ظلاً لميّا , ثم يختلطان معاً ليصرا ثانية ظلاً مشتركا له, ظلاً مختلطَ الروي , متسارع الزمن , متداخل الحوادث.
"هل انطفأت شعلة بيت البلوش؟ البيت لاذ بالعتمة حقا.
انتهت قصص هرب "مولو" ومعها تلاشى رعب المداهمات والاستفسارات والاستدعاء شبه الشهري من قبل دائرة الامن, فعاد البيت الى عزلته... ـ صوت : ـ من؟ـ
...ألو...
ـ ...ـ لست ناقصة جنونا, سأغلق الخط ـ "ريا"... "شب بخيلا باتين" ـ من, "ميا" قولي في هذه الساعة "سهب بخير باتين", ولكن لماذا ظللت صامتة؟... بدأت العجوز تصنع صغار الاوهام . وهم اثر وهم , ثم تشرع بترويضها الواحد تلو الآخر... طالما تعهد مولو لها مرارا بدفنها بيديه بين قبري امه وابيه في مقبرة "الحسن البصري" هنا تكمن غصتها.