ادب وفن

احتمالات شوقي عبد الأمير / هادي الحسيني

تتجلى الصور الشعرية ومفارقات الزمن الماضي بأسطورته، والحاضر بانعكاسات آلامه في ديوان الاحتمالات للشاعر العراقي شوقي عبد الأمير.
احتمالات في السيرة والوحدة والرؤية واحتمالات في الميلاد والهجرة والكواكب واحتمال خاص ببيروت وكذلك احتمال المكان محفورا في حارة المعنى، يبرز صوت القصيدة في تلك الاحتمالات مجسدة الماضي بطريقة الأسطورة التي لا تغيب عن فكر الإنسان، بينما الحاضر يحاول منافسة الماضي بآلام وأحزان لا نظير لها، حين قرأت "أحتمالات" شوقي عبدالامير، عشت الماضي بكل تفاصيله الجميلة والحاضر بحزنه الشديد، ففي كل قصيدة من قصائد الاحتمالات أجدني أقرأ مجموعة شعرية كاملة، فاحتمال السيرة على سبيل المثال يتحدث عن أرض الشاعر في الجنوب ومدنه وأهواره وطيوره والناس هناك كيف تعاني وتموت، يستحضر الوطن بكل تفاصيله من خلال الجنوب الغارق في وحل المأساة، لكنه حين ينتهي من احتمال السيرة حتى يدخل إلى احتمالات أخرى عاشها الشاعر في منفاه القسري لعقود من الزمن. انتقالات شعرية في احتمالات شوقي عبد الامير تجعلنا ننبهر في ترتيب الحدث الشعري الذي نجح الشاعر بالتطرق إليه في تفاصيل دقيقة من حياته.
لم ألتق بالشاعر قبل أن أقرأ كتابه الاحتمالات .. وفي تسعينيات القرن الماضي كانت منظمة اليونسكو قد أصدرت كتاب في جريدة بإشراف وتحرير الشاعر العراقي شوقي عبد الامير المسؤول عن هذا المشروع الثقافي الكبير الذي يروم إيصال أصوات المبدعين العرب إلى أقصى مكان في الوطن العربي ! الكتاب يصدر بصيغة ملحق مع جريدة الرأي الأردنية وصحف عربية أخرى في اغلب الدول ، صدر ملحق خاص بشاعر العراق الكبير بدر شاكر السياب ثم توالت الإصدارات لهذا المطبوع الجديد والذي وصل بغداد بعد عام 2003 !
وفي أواخر عام 1998 جاء الشاعر شوقي عبد الامير إلى غاليري الفينيق بموعد مسبق مع البياتي للاتفاق على إصدار الكتاب باسم البياتي، كان معنا الناقد محمد الجزائري والكاتب محمود الريماوي والدكتور قاسم البريسم، وقد طلب عبدالامير موافقة القاص محمد خضير ليتسنى له نشر كتاب عنه أيضا، وثمة مكافأة على المادة التي تنشر وعلى ما أظن تقارب الألف دولار في ذلك الوقت.
بعثنا برسالة إلى البصرة عن طريق احد الأصدقاء وتمكنا من حصول موافقة خضير وكذلك إيصال مبلغ المكافأة له. كان حديث شوقي عبد الامير يحمل الشوق الكبير لكل ما هو عراقي، فقد هاجر العراق منذ بداية العقد السبعيني إلى الجزائر ومنها إلى باريس، في ذلك اليوم ينتظره الكثير من الصحفيين والأدباء في الفندق الذي يسكنه فلديه الكثير من الارتباطات والمواعيد، الأمر الذي دعا البياتي ونحن معه إلى الفندق، فكان عليه ان يغادرنا بعد ساعتين أو أكثر قضاها متحدثا عن مشروعه المهم.
عند المساء ذهبنا إلى فندق (عمرة) الذي يسكن فيه عبدالامير وتبادلنا الحديث، كان شوقي قد جلب معه كتابه الشعري ( احتمالات ) وقد حصلت على نسخة منه، وكتب إهداءه الجميل الذي مازلت احتفظ به.
البياتي رحمه الله اقترح على شوقي ان يحصل لي على عمل معه بعد سفري القريب إلى النرويج فاخرج محفظته وأعطاني كارتاً صغيراً فيه كل تلفوناته، وقال أي شيء تحتاجه عليك فقط ان تتصل بهذه الأرقام، فأخذت الكرت وشكرته، وقضينا ليلة جميلة في ذلك اليوم داخل الفندق مازال عبقها لم يغادرني.
سافر عبدالامير عائدا إلى بيروت، بينما انتقل البياتي الى دمشق، وأنا، بعد اسبوع انتقلت إلى اوسلو.
وفي عام 2002 ذهبت الى دمشق للقاء اهلي بعد فراق دام عشر سنوات، وحين سألت أمي عن أقاربنا وجيراننا وما الذي حلّ بهم؟، قالت ان جارنا ابو شوقي قد توفاه الله، تأسفت لهذا الرجل المحترم الذي يعمل مدرساً وكان ابنه ( رائد ) من اعز أصدقائي، ثم قالت: ان ثمة لافتة كبيرة علقت على الشارع العام تنعى الفقيد وقد كتب عليها جملة تقول:( انه والد الشاعر شوقي عبدالامير)!، عندها تأكدت من ان الشاعر شوقي عبدالامير الذي غادر العراق بداية السبعينيات كان بيتهم خلف بيتنا لسنوات طويلة، وأذكر جيدا في نهاية السبعينيات حين كان رجال الأمن يأتون لاعتقال أخي الأكبر ستار بتهمة الشيوعية، كانوا أيضا ينتقلون من بيتنا إلى بيت شوقي للتفتيش أو الاعتقال وبنفس التهمة، والعكس يحدث أحيانا في انتقال الأمن من بيتهم إلى بيتنا!.
بعد سنوات وأنا أقلب بصفحات الانترنيت قرأت قصيدة جديدة للشاعر شوقي عبدالامير في موقع (كيكا) وفي نهاية القصيدة مكتوب "ايميله"، فكتبت له على الفور على الايميل طالبا حوارا عن تجربته الشعرية المهمة والتي اعتبرها شخصيا واحدة من التجارب الشعرية الرائعة في تاريخ مسيرة الشعر العراقي.
وافق الشاعر على إجراء الحوار وبعثت له الأسئلة مع رسالة شرحت له كيف التقينا على مائدة البياتي، وكيف انه جارنا لسنوات طويلة ومازال إلى اليوم من دون أن أدري أو هو يدري، فبعث برسالة جميلة لي يقول مطلعها ( الى جاري الذي لم اره) مع طرد بريدي كبير محمل بأعماله الكاملة وإصداراته الحديثة.
في احتمال الرؤية يقول الشاعر عبد الامير:
أبي إفترش الهور عباءته ليلةَ عشق
أشعل في أطراف الطيف التكويني
رداءَ القصب
إستوضأ
خلى في أحراش الغبش الأول
بيرقه .. كان الهورُ
جمجمة من قصب لنبي يحمل ناياً
ويطوف في الأرجاء
شعوب تتكاثر خلف عصاه
أبتي تنمو تحت عصا.
أبتي بئر أهلوك
وأنت الجملُ الصحراء
لم نبنِ بهذا الصوت المحفارِ
أول مقبرةٍ لنؤثثها بالشمسِ وبالأقطار
قال وهل مات الهور؟
قلت لم يره أحد !

شوقي عبدالامير شاعر كبير وتجربته الشعرية تجربة ملحمية بحق، فهي تجمع الواقع بالأسطورة السومرية بلغة عالية يتدفق منها شعاع نحو الشمس، وحين تقرأه جيداً ستجد نفسك أمام شاعر ليس له شبيه في تاريخ الشعر العراقي!.