ادب وفن

الثلوج هي بكاء الطبيعة بدموع بيضاء / أحمد الشحماني

اليوم ..
في الجزء الشمالي من بلاد الفايكنج "السويد" البلاد التي يسكنها الشتاء لأكثر من ستة شهور, تساقطت الثلوج الشتائية "دموع الطبيعة البيضاء" معلنةً بدء معركتها الشتائية ..
يا لها من معركة طويل امدها – الشتاء وحده من ينتصر في نهاية المطاف على بقية الفصول الثلاثة لأنه الأقوى ضراوة – الطبيعة تنحاز للأقوياء دائما ..
قانون الطبيعة يبتلع الضعفاء ..
الثلوج تساقطت بكثافة حتى ان معطفي الأسود اصبح أبيضاً لكثافة الثلوج المتساقطة وتلاشى لونه الأسود أمام جيوش الثلوج المنتصرة حتى اني ماعدت اميز بين معطفي ورصيف الشارع الذي اصبح هو الآخر ابيضاً.
الثلوج هي بكاء الطبيعة
بدموع بيضاء ..
النوارس تعشق الثلج المتساقط شتاءً لأنها تعتبره من فصيلة النوارس ..
الأوز الأبيض يضحك مستهزئاً بالنوارس ويقول انتم مخطئون – الثلج ينتمي الى فصيلتنا لأننا من اقمنا للثلج حفلة عيد الميلاد في بداية الشتاء ..
الدببة البيضاء تكره النوارس والأوز الأبيض لا لشيء إلا غيرةً منهما لإدعائهما ان الثلوج تنتمي الى فصيلتيهما ولهذا فهي تطاردهما وتصطادهما حيثما يكونا انتقاماً منهما ..
ثمة سؤال بريء قفز الى رأسي – أليس الإنسان هو المخلوق الوحيد المتجبر الذي يمارس طقوس الغيرة والاشتهاء وحب التملك؟
أترى الحيوانات والطيور تمارس هي الأخرى لعبة الغيرة وحب الامتلاك وتدّعي ان الثلوج من فصيلتها؟
وكل يدّعي وصلاً بليلى وليلى ترقص مع الغجر وحدها لتستلذ بنشوة رقصها وهزة خصرها النحيف الملفوف بقطعة قماش غجرية امام انظار الغجر وهم يغتالونها بشهوة عيونهم الراقصة طرباً . .
اليوم تساقطت الثلوج بغزارة
كما الأمطار ..
امتلأت الأرض رملاً ابيضاً كبياض شعري الذي اكتسحه خريف العمر وداهمته محطات الكبر المفاجئ بدون مقدمات او سابق انذار...
بياض شعري الذي اكتسحه الخريف يذّكرني بغزو الأعداء لبلدان آمنه ولهذا انا اكره الغزاة واكره احتلال الشعوب ...
يا له من عمرٍ داسته جيوش الزمن المشاكسة واحالته الى رمادٍ ودخان ..
الثلوج تساقطت اليوم في هذا الجو الشتائي البارد ..
ها هي اغصان الأشجار تتنفس ثلجاً ..
القبب العالية ..
الشوارع ..
الأرصفة ..
باحات العربات والسيارات ..
الكل تنفس ثلجاً ..
فتاة شقراء تتجول مع صديقتها الأفريقية السمراء النحيفة الجسد, امتلئت خصال شعرهن وقبعاتهن ثلجاً ..
الفتاة السمراء تطلق ضحكتها بصوتٍ عالٍ يداعبه الانتعاش وتقول: إلهي زدنا ثلجاً بلا زخات مطر ..
صديقتها الشقراء تنفجر ضاحكةً وترد عليها بكلمات تفوح منها رائحة المزاح: ربما لأنك سمراء تحبين لون الثلج الأبيض أما انا فأحب لون شعرك الأسود لأنه يذّكرني بظلام الليل الحالك ..
يا إلهي الثلوج المتساقطة تملأ الشوارع ..
لم اعد أرى المساحات الخضراء ولا الأشجار التي دجَّنها الخريف وقلَّم اوراقها وصبغ لونها اصفرا ..
الثلوج هزمتها من اول معركة ..
ما عدت أرى شاخصات الشوارع, ولا اللوحة البلاستيكية التي كُتب عليها انتبه الطريق مخصص للأطفال ..
كيف سيعرف الأطفال ان الثلوج المتساقطة كالأمطار هي من اخفت تلك اللوحة بدون قصد؟
هل سيعتذر الشتاء للأطفال؟
أم ان قانون الطبيعة المتمرد لا يعرف لغة الاعتذار؟
إلهي الآن عرفت لماذا لا يعتذر المتجبرّون والمهزومون والطغاة لشعوبهم – أنهم متأثرون بالطبيعة في تعنتها وجبروتها واحتقارها الأضعف منها ..
اليوم تساقطت الثلوج ..
أمرأة عجوز مع رفيق دربها لا اعرف ان كان زوجها او غريمها يتحدثان بصوت خافت وهما يجران بعضهما بخطى ثقيلة كأنهما يعاتبان الطبيعة او ربما يستأنسان بدموع الطبيعة وهي تبكي ثلجاً ..
الثلوج تتساقط بغزارة ..
صوتٌ من خلف الأشجار المتدلية بالثلوج بادلني بتحية ثلجية الطعم ومضى مسرعاً.
التفت الى الوراء لكني لم اتمكن من اصطياد ملامح وجهه, الوجوه تتشابه تحت زخات الأمطار والثلوج الكثيفة المتساقطة كالرمال.
إنها كما المدن الغارقة في الحروب والفيضانات, وكما وجوه عارضات الأزياء المتشابهات في اجسادهن وعروضهن الجمالية ...
لم اعرف من هو الشخص الذي اطلق بالونة تحيته الثلجية الطعم في الهواء ومضى مسرعا كالريح, ولكني بالمقابل ارسلت له على اجنحة طائرات الريح تحيةً احسن منها – تحيةً شتائية الطعم مغلفة بمشاعر ساخنة من بقايا رماد الصيف ..
رحل الصوت القادم من خلف الأشجار المتدلية وتلاشى صداه بين المسافات كما يرحل ويتلاشى قطار العمر بين المدن البعيدة وضوضاء المحطات ..
تابعت طريقي بأنفاس صامتة كصمت العمرِ في خريف العمرِ أمشي بتأملٍ والثلوج تنهال عليّ كأنها ضوضاء الزمن المجرد من اللغوِ ..