مدارات

جماليات التخطيط في فن محمود صبري / عبدالله حبه – موسكو

هناك رواية يتناقلها بعض المهتمين بفن التصوير حول زيارة مايكل انجلو لبيت صديقه رفائيل. وعندما لم يجده اخذ ورقة وقطعة فحم ورسم عليها دائرة كاملة هي من الدقة بحيث يعتقد الرائي انها رسمت بواسطة الفرجار. وأنا لا أعلم مدى صدق هذه الرواية، لكنني على يقين بأن الفنان الحقيقي يجب ان يجيد استخدام القلم لحد الكمال قبل ان ينتقل الى الرسم بالفرشاة. ولهذا السبب تعار في اكاديميات الفنون أهمية بالغة الى هذا الأمر. وانا لدى متابعتي أعمال العديد من الفنانين العراقيين المعروفين في فترة الخمسينيات والستينيات وجدت ان التخطيط كان يشكل نقطة الضعف الرئيسية في عملهم. انهم غالبا ما يحاولون التعويض عن هذا النقص بالتفنن في توزيع الكتل اللونية والتجريد واستخدام الحروف ولصق قطع القماش او الصحف في تراكيب اللوحة. لكن التخطيط فن قائم بحد ذاته. فهو يترجم أحاسيس الفنان وعواطفه وافكاره بصراحة صارخة قد لا يرغب صانع هذه الخطوط في كشفها للآخرين. لكن هذا ما يميز كل ابداع انساني سواء في الشعر والنثر والفنون التشكيلية ، فهو قاس لا يعرف الرحمة بالمبدع نفسه، ويفضحه حين يختار الموضوع والاسلوب ورؤيته الذاتية للأحداث. وعموما غالبا ما كان محمود صبري ، الفنان المجدد والفيلسوف و الباحث الاجتماعي ، يردد في الاحاديث مع الآخرين ان أعمال الفنان تتحدث عنه بشكل أفضل من الكلمات والايضاحات التي يقدمها نفسه.


وفن التخطيط لدى محمود صبري له مكانة خاصة لأنه يعتبر في الواقع أساس التقنية التي اعتمدها سواء في المرحلة الموسكوفية ام المرحلة البراغية من إبداعه، ولازمته حتى
عندما انتقل الى تطبيق نظرية واقعية الكم. ووجد محمود صبري أسلوبه الخاص في التعبير حيث يكون الإنسان ومعاناته وتطلعه الى الحرية الموضوع الرئيسي في لوحاته. علما ان ها الأمر يثير الانتباه لدى متابعة نشاطه الفني كله. فبينما نجد تأثر الكثير من الفنانين العراقيين في تلك الفترة بأعمال سيزان وجوجان وفان كوخ وغيرهم سواء من فترة الانطباعية أو بعدها من التيارات الفنية المختلفة في مطلع القرن العشرين، وكانت مواضيع لوحاتهم لها علاقة بالطبيعة كرسم المناظر الطبيعية او الطبيعة الجامدة ومشاهد الحياة اليومية، أما محمود صبري فقد وضع خياره منذ البداية على الانسان. ان جميع لوحاته تصور الانسان الكادح أو الثائر على الظلم الاجتماعي في مختلف اوضاع الحياة. وكان ديدنه البحث عن الحقيقة عبر هذا الانسان بإعتبار ان الفن يجسد حقيقة موضوعية شأنه شأن جميع فروع المعرفة الأخرى. والانسان خير من يجسد الحقيقة. ومسيرة محمود صبري الفنية كلها مترعة بالتجارب والبحث عن الشكل الأفضل في التعبير الفني بحثا عن هذه الحقيقة .
بدأ محمود صبري بممارسة الرسم التخطيطي منذ الطفولة، منذ ان كان تلميذا في المدرسة ورسم بالقلم صور أقرانه ومنهم يوسف العاني وحافظ التكمجي ومحمد العبلي. وبقيت هذه الهواية لديه حتى عندما أرسل بعد التخرج من المدرسة للدراسة في بريطانيا ودفعه حبه للرسم لأرتياد احدى المدارس الفنية للهواة هناك. لكن الدراسة الفنية المتقطعة في بريطانيا لم تمنحه الفرصة لكي يمتلك ناصية استخدام القلم أو قطعة الجرافيت في رسم المواضيع. ولدى عودته الى العراق في عام 1948، انشغل في الأمور الادارية المتعلقة بوظيفته في البنك، ولم يجد الفرصة لممارسة الرسم الا في ايام الاجازة الاسبوعية واوقات


الفراغ. وقد جذبه حب الفن للأنضمام مع مثقفين آخرين من الهواة مثل قتيبة الشيخ نوري وخالد القصاب وزيد صالح الى الجماعات الفنية التي شكلها اساتذة محترفون مثل جواد سليم واستاذه عطا صبري وفائق حسن وغيرهم. وكان يذهب معهم الى جزيرة أم الخنازير في وسط دجلة في أيام الجمعة لرسم الطبيعة وفي الوقت نفسه لتبادل الاحاديث حول الفن ووظيفته في المجتمع. وكان غالبا ما يطرح رؤيته بهذا الشأن انطلاقا من معارفه في علم الاجتماع ومتابعته لوضع الانسان العراقي البسيط الذي سلبت كرامته وحقوقه الانسانية، واصبح حبيس التقاليد البالية في المجتمع شبه الاقطاعي ايامذاك. ولهذا كانت غالبية أعماله تعبر عن الحزن وروح التمرد والدعوة الى التغيير في آن واحد. لكن أساتذة الفن في العراق لم ينظروا اليه وغيره من الهواة نظرة جدية، ولو انهم ابدوا له الاحترام لكونه دؤوبا يواصل تطوير نفسه بإستمرار. وقال المعمار رفعت الجادرجي في كتابه " الاخيضر والقصر البلوري" :" أما على الصعيد الفني فلم يكن محمود بنظر جواد وفائق أكثر من هاو ومبتدئ، أن تكنيكه في الرسم والالوان والتكوين ضعيف ومن أعمال الناشئين. ولكنه كان أول من هز بحق الفن العراقي هزة الايقاظ من سباته في الرومانتيكية الريفية ". وكان محمود قد أثار فعلا إهتمام الناس بلوحته " في الانتظار" التي صور فيها الحياة البائسة للمومسات في بغداد وبلوحاته الاخرى التي تصور الفلاحين بوجوههم الكالحة وبعيونهم الغائرة.


كان لا بد ان يصل محمود الى القرار بأن يتفرغ الى العمل الفني وحده ويترك الوظيفة التي كانت تمتص كل نسغ الابداع الكامن في عروقه. لا سيما بعد ان سيطر العمل الفني على كل كيانه، ولم يكن يفكر بشئ غير مواصلة الرسم وصقل المهارة . بيد ان هذا لم يتوفر له في ظروف العراق في ذلك الحين. وهكذا ظهرت الفكرة في السفر الى موسكو التي لقيت دعم الشهيد سلام عادل وغيره من قادة الححزب الشيوعي العراقي الذين لعبوا دورا في حصوله على زمالة دراسية في معهد سوريكوف للفنون، وهو من أقدم المعاهد الفنية في موسكو. وقال لي محمود مرة انه طلب الالتحاق بمحترف الفنان السوفيتي الشهير الكسندر دينيكا الذي إطلع على اعماله منذ ان كان في العراق عن طريق الالبومات. وقد جذبه الى رسام الجداريات هذا كونه بسيط الاسلوب ويعبر بالخط بشكل أساسي وليس باللون عن ملامح شخوصه ببراعة فائقة. واعجبت محمود بصورة خاصة لوحة " الدفاع عن بتروغراد" لدينيكا، التي كانت تزين فيما بعد جدران شقته المتواضعة في شارع زفيوزدني بوليفار في موسكو. وأثّرت فيه لدى رسم لوحته الجدارية " وطني" التي لم يقيض لها ان تنجز بصورة كاملة. اذ ان هذه اللوحة البتروغرادية للرسام دينيكا تعتبر من حيث التركيب واختيار الالوان الشحيحة وتوزيع الظل والضوء مثالية بالنسبة الى رؤية محمود حول ما يجب ان تكون عليه اللوحة الجدارية. ولابد من الاشارة الى ان فناننا النابغة كان يضع المشاريع الكثيرة للوحات جدارية توضع في الساحات العامة وتكون في متناول الجميع ولا تبقى مخفية في بيوت الاغنياء او صالات المتاحف.
كان أول ما صدمه لدى ارتياد محترف دينيكا في المعهد رؤية الطلاب الصغار في السن يرسمون بالقلم او الجرافيت ببراعة الموديل العاري أمامهم. وأسقط في يده فكيف سيقف مع هؤلاء الصغار جنبا الى جنب ليرسم الموديل بما لديه من مهارات تعتبر بدائية بالمقارنة معهم لأنه لم يحصل على التعليم الاكاديمي مثلهم. ولكنه تغلب على خجله هذا وانكب على العمل بدأب وصار يرسم طوال النهار وحتى في الليالي . ويرسم أي شئ فمثلا رسم قبضة يده عشرات وربما مئات المرات كما وجدت تخطيطات لها مرة في قصاصات كثيرة من اوراق الرسم وفاتورات اجور الكهرباء وغلاف دفتر مدرسي. وكان هدفه الأساسي ان يصل في المهارة بالخطيط الى الكمال. كما اتقن كيفية الرسم بالقلم جسد الانسان (مادة الفرسم الرئيسية لديه) بشكل صحيح من حيث النسب وشكل العضلات وابراز الجوانب التعبيرية الرئيسية فيه. وتوجد الآن نماذج كثيرة للوحات وتخطيطات تجسد هذه المرحلة من إبداعه.
وبعد مضي حوالي نصف عام من وجوده في موسكو، دعاني مرة لمرافقته الى كونسرفتوار موسكو حيث عزفت الاوركسترا كونشرتو البيانو الاول لتشايكوفسكي بقيادة قسطنطين ايفانوف الشهير آنذاك. ولعجبي وجدت محمود يرسم خلال فترة الاستراحة على برنامج الحفلة صورة كاركاتورية لقائد الاوركسترا تبرز ملامحه بدقة عجيبة من حيث انفه الافطس وشعره المنفوش الأحمر وحاجبيه الكثيفين. وكان محمود ينتهز فرصة مجئ أي زائر في بيته لعمل لوحة تخطيطية له وأنا واحد منهم وبقيت منها حتى الآن لوحاته التخطيطية للشخصيات مثل سلام عادل ومحمد العبلي وجمال الحيدري وعبدالوهاب البياتي وغيرهم. ويومئذ أدركت ان محمود صبري لم يكن ذلك الفنان الذي عرفته في بغداد حين كانت لوحاته بشخوص غير واضحة المعالم. وقد واصل الفنان تطوير مهاراته في التخطيط حتى بعد ان انتقل الى براغ في عام 1963 والتحول في السبعينيات الى تطبيق نظريته حول واقعية الكم . وكان يريني بإعجاب ظاهر البومات ماتيس وفان كوخ وبيكاسو ويشير الى كيف يمكن التعبير بالخط المجرد عن رؤية الفنان الى الموضوع.
ولم يكن الرسم التخطيطي لديه غاية بحد ذاتها، بل كان يريد عبرها ابداع الافكار التي كانت تشغل فكره في التعبير عن الحقيقة الحياتية بشكل مؤثر وجميل. وكان يدرك العلاقة الوثيقة بين الجمال في الفن والمنفعة في الفن. لكنه لم يضع أبدا هدفا له كسب هذه المنفعة. لأن الفن بالنسبة له هو وسيلة لتجسيد الواقع كما هو بلا رتوش. والفن لا يوجد من أجل الفن وحده، بل هو أداة معرفية ذات سمات جمالية. ولابد لاستخدامها من امتلاك المهارات التقنية للتعبير عن الجمال الفني الذي يمكن عبره التأثير في المجتمع. علما ان هذا هو أحد الاهداف التي كان يصبو اليها من عمله في المرسم (الشقة). وبرأيه ان تفهم الجمال في اللوحة يعتبر أسمى عنصر إخلاقي في العمل الفني. ولا نجد في لوحات محمود صبري التخطيطية أي خط غير جميل خال من التعبير وأي ظل نافل. فكان يحسب لكل شئ حسابه من أجل إكساب اللوحة سمة متألقة تجذب المشاهد. وهذا ما نراه في الدراسات الاولية التخطيطية للوحاته الشهيرة "موت طفل" و" جنازة الشهيد " و" وطني" وغيرها حيث يكون الانسان وعالمه الداخلي . وكان يؤمن بأن الواقعية هي الأصل في جميع مراحل الفن منذ العصر البدائي ورسوم الكهوف وعصر الفنون للأغراض الدينية وفترة العبودية والاقطاع ومن ثم ظهور المجتمع الصناعي والطبقة البرجوازية. لكن بقيت حرية الفنان في التعبير هي العنصر الرئيسي للإبداع الحقيقي. وتأريخ الفن ملئ بالامثلة على تمرد الفنان على السلطات وانجازه الاعمال التي تعكس واقع المجتمع. فالواقعية مهما كانت التفسيرات لها بقيت المنبع الذي نهل منه محمود كرسام طاقته الابداعية.
وفيما يخص الواقعية لابد من الاشارة الى ان الواقعية كانت دوما أساس فن محمود صبري انطلاقا من موقفه الايديولوجي من الحياة منذ بداية حياته الابداعية، وعلى أساسه تشكلت افكاره الجمالية. فقد كان يؤمن بأن للفن وظيفة اجتماعية، ولهذا يجب على الفنان ان يصور بصدق الشخوص والاحداث وفقا لرؤيته الذاتية للحياة الواقعية دون اخضاع الابداع الفني لخدمة حزب او إتجاه سياسي أو أجتماعي ما. وبما ان المجتمع العراقي المعاصر مترع بالمآسي والارزاء بصورة أساسية، لذا فأن لوحاته خلت من مواضيع المناظر الطبيعية والحياة الجامدة (still life) والبورتريه الخالي من مضمون اجتماعي ما. علما ان المثقفين العراقيين عموما كانوا في الخمسينيات يميلون الى الفكر الماركسي وتشكلت نظرتهم الى الفن وفق قول فريدريك انجلس :" ان الواقعية تتطلب الى جانب الصدق في تبيان التفاصيل تصوير الشخوص النموذجية في الظروف النموذجية". والمقصود ان يركز الفنان على ابراز السمات المميزة للحدث او الشخصية كما يراها من منطلقات ايديولوجيته مثلما فعل ذلك غويا ودوميير وميليه وغيرهم ممن صوروا الاحداث الثورية في اوروبا وانتقدوا مجتمعاتهم وكشفوا عيوبها. إلا ان محمود صبري تجاوز هذه المرحلة في تحديد الواقعية الى مرحلة أسمى بغية عدم التضحية بالعنصر الجمالي للفن. وبرأيه الذي طرحه لي في احد اللقاءات الاخيرة قبل رحيله ان تطور المجتمع الآن يسير الان نحو المجتمع اللاطبقي الذي تزول فيه الفوارق القومية في الفن وتزول سيطرة طبقة ما تدريجيا. وهذا ينعكس في الفن حتما. وان مفهوم الواقعية يتغير أيضا. وواجب الفنان الآن رسم التفاعلات الجارية في الطبيعة وليس نتاج هذه التفاعلات. وأصبح الفن الآن في مفترق الطرق بعد انحسار مرحلة الاشتراكية وما ارتكب خلالها من أخطاء، وعندما أجرم ستالين حين فرض الواقعية الاشتراكية في ميدان الادب والفن، مما أخر التقدم نحو الاشتراكية. كما ان الايديولوجية الآن اصبحت غير محددة المعالم. والفنانون الآن يبحثون عما يجب عمله لاحقا. وتفاعل البشر مع الواقع وتطويره. ان البشرية تريد التعمق في الواقع أكثر فأكثر ومعرفة تشكيل العالم وفقا لقوانين الجمال.
وعندما بدأ محمود صبري دراسة الاصول الاكاديمية للفن، تغيرت أيضا افكاره حول أساليب التعبير الفني. وصار في صومعته " الشقة الصغيرة" التي قلما كان يفارقها ينغمر كليا في مطالعة الكتب، لاسيما حول الفن والفلسفة، والاصغاء الى موسيقى باخ وتناول النزر القليل من الطعام المتوفر في البيت مع شرب الشاي " الكسكين" على الطريقة العراقية. وبدأ بالابتعاد تدريجيا عن المعهد واستاذه دينيكا بعد اكتشافه أساليب جديدة في التعبير. كما حدث شئ من البرود بين الاثنين بسبب إلتفاف طلاب الاستاذ حول محمود الذي كان يطرح عليهم افكارا جديدة حول الفن مخالفة للتيار الرسمي. ولكن بقي التخطيط يشغل جانبا مهما في إبداعه لسبب بسيط هو ان غالبية مشاريعه ارتبطت بجداريات كان يرسم التخطيطات الاولية لمقاطعها. وهكذا ترك بموسكو لدى مغادرتها العديد من هذه التخطيطات التي رسمها في تلك الفترة.
ولدى انتقال محمود صبري الى براغ واصل المشوار في التخطيط بالذات حيث ان غالبية لوحاته لم تكن بالزيت بل بالاقلام والجرافيت او الجواش. وأنجز بعض لوحاته في "واقعية الكم" باللون الاسود أو الازرق فقط . ويلاحظ في اعماله خلال هذه الفترة اننا أمام فنان ناضج يجيد التعامل مع كافة مواد الرسم. فقد وجد في نهاية المطاف اسلوبه في التعبير الفني. ويمكن معرفة لوحات محمود عن بعد من بين مئات اللوحات الأخرى بخطوطها الثخينة والظلال الكثيفة ووجوه الاشخاص النحيفة والعيون السومرية. وحتى لوحاته لفترة واقعية الكم التي تصور الذرات والجسيمات المرسومة بالابيض والاسود يبرز فيها الخط كعنصر رئيسي في التعبير.
لم يضع محمود صبرا هدفا له الاستفادة من قدراته الفنية لكسب المنافع المادية ولهذا قلما كان يبيع لوحاته التي لا تصلح في الحقيقة لتزيين الصالون في بيت أحد الاثرياء ، لأن الغاية منها ان تكون في متناول كل إنسان يريد ادراك الجمال في العمل الفني. فالانسان هو الكائن الوحيد الذي يتحسس جمال الطبيعة وكذلك العمل الفني الذي يجسد هذه الطبيعة. ولهذا بقيت لوحاته مجهولة لدى الكثيرين. وكان يؤمن بأنه سيأتي اليوم الذي ستوضع فيه لوحاته في المتاحف في وطنه وخارجه.
20/6/2013