مدارات

مع المسيرة الثورية.. الخطوات الاولى .. انعطافات وتحولات .. في الحركة الوطنية (28) / الفريد سمعان

لقد تغيرت الامور كثيراً بعد توقف العدوان الثلاثي بعد الانذار السوفيتي وتعرضت مصر الى خسائر جسيمة لم تقدم اية دولة عربية جهداً او دعماً حقيقياً بأستثناء الصراخ والزعيق المألوف لا سيما من الدول المستسلمة بدون قناع للاستعمار والامبريالية العالمية وقد أتيحت فرص نادرة امام الحركة الوطنية للنيل من القهر الذي تتعرض له الشعوب، وكانت الاصداء كثيرة لم تقتصر على توزيع المناشير من قبل الحزب لايضاح حقيقة الموقف بل تجاوزته الى اتصالات مع القوى الوطنية والقيام بعملية تأليب ودعوات متنوعة للوقوف بصرامة وقد أعطى ذلك مردوده مما حفز القوى الخائفة من التعامل مع الشيوعيين الى الحوار والتقرب منهم.
اجل كانت الاوضاع تزداد تعقيداً ولاحظت الاوساط السياسية تحركات جديدة، وكانت الجماهير تتهامس وتتحاور بشكل يوحي بأن المعارضة بدأت تتحدث بلغة جديدة تخلصت من الخوف، والتزام الصمت، والتوجع (الانيق) فقد كانت اللهجة التي تتحدث بها المقالات الافتتاحية في الصحف العلنية ترتدي ثوب التحذير والتحدي كما ان الاحزاب غير المجازة كالحزب الشيوعي والبعث يطلقون صيحات التضامن وتحالف القوى الوطنية على اختلاف الاتجاهات للتخلص من تسلط الحكام ( المخضرمين) وعلى راسهم نوري السعيد واتباعه ، وأخذت بعض المطالبات تصل الى التلويح للتخلص من النظام الملكي واستبداله بنظام يضمن الحقوق الاساسية للجماهير وينتقل به الى مواقع تؤكد على الانطلاق في كافة المجالات.
خلال هذه الحوارات والانباء التي أخذت تبشر وتتحدى، ساد شعور بان هنالك شيئاً يدور خلف الستار وكانت لدى الحزب نشاطات صامتة يتسرب بعضها (بجمل) غامضة ولكنها تشير وتلمح لما قد يجري لا سيما وان نشاطات جماهيرية، اضرابات، اعتصامات، عرائض تعكس اهداف الشعب الصغيرة والكبيرة، رفيعة المستوى او متواضعة، اضرابات كانت تنتهي بالفشل او تحقيق جزء من المطاليب.
لقد انعكس كل ذلك في أجواء المثقفين وصدرت صحف مثل العصور التي كان صاحبها سليم طه التكريتي كانت ساحة مفتوحة لقصائد وكتابات الشيوعيين وقد لفت ذلك نظر دوائر التحقيقات واعتقل صاحبها اكثر من مرة كما كان شريف الشيخ وزكي خيري يتحدثان في جريدة (الاساس) بلغة غير مألوفة في الخطاب العلني بل كان ذلك من سمات الصحافة السرية حيث تكون اكثر تأكيداً أو بلغة جريئة وطلبات محدودة تمتلك من الصراحة والتلويح بما سوف يأتي.
كان هنالك نوع من النشوة وشارع المتنبي ومايجاوره يضج بالحركة والخطوات والمناقشات والجواهري يتوعد بمقالات جريئة، وتغلق جريدة الرأي العام فيتحول الى جريدة الثبات، وتغلق الثبات ويتطوع آخر لطرح امتياز جريدة اخرى أمامه.
على المستوى الشخصي بدأت أموري المادية تتدهور وثارت علي (دعاوي) التجار نتيجة ضعف التسديد وحاولت ان اتدارس وضعي فاجريت مقارنة حسابية ووجدت اني امتلك ديوناً على الاخرين توازي ضعف ما انا مدين به للتجار الغاضبين ولا انسى موقفاً مع احدهم عندما قصد محلي يرافقه سكرتيره وتحدث بلغة خشنة انت ملزم بتسديد الكمبيالة بمبلغ مائة وخمسين ديناراً وعليك ان تحترم توقيعك قلت له (ثق لو كان جلدي هذا يتحول الى دنانير لسلخته واعطيتك طلبك) ولكنه تحدث بقسوة فقلت له : اخرج والا سوف اضربك جلاّق، ونهضت من مكاني غاضباً فاستلم الباب هو والسكرتير وهربا، وكنت قبل يوم من استحقاق الكمبيالة قد ذهبت اليه وطلبت أن يقبل الساعات التي جهزني بها لاني عاجز عن التسديد، كل هذا كان حرصاً مني على سمعتي السياسية وسمعة الحزب والتاريخ الذي يحتويني ورافقني طيلة حياتي ومايزال فهو الذي يحدد مواقع خطواتي ويضع بصمته التي لا تمحى على سلوكي الشخصي والثقافي والاجتماعي والعائلي ايضاً.
نتيجة الضغوط التجارية وقسوة التجار الذين لايرحمون احداً الا (جيوبهم القذرة) اضطررت الى الانتقال الى موقع آخر في ساحة النصر كان محلاً بسيطاً متواضعاً بأيجار رخيص ولم يعد التجار يتعاملون معي ويقومون بزيارات لم تخلٌ من لهجة التهديد بأقامة الدعاوي والسجن بسبب العجز عن التسديد وعدت للعمل كمحاسب هنا وهناك وتقسيط المبالغ بما يوفره لي راتبي المتواضع كما وجدت (صديقاً) مفلساً صاحب عضلات وأسمه ستار وكان انساناً طيباً وتقدمياً ومنحته قائمة بأسماء المدينين وعناوينهم ليتابع الديون لقاء نسبة معينة.
كانت ايام محنة سيف من الخوف كان مشرعاً فوق رقبتي الا وهو الحفاظ على سمعتي السياسية كأنسان شيوعي لابد ان يحافظ على هذا الاسم النبيل.