مدارات

اللجان البرلمانية.. تشكيلها وصلاحياتها الرقابية / د. فلاح اسماعيل حاجم


لن نكون مبالغين، إذا ما قلنا بأن العراق يمر في الوقت الراهن بمنعطف خطير، يهدد ليس فقط مستقبل العملية السياسية المتعثرة أصلا، بسبب انتهاج سياسة المحاصصة الطائفية، بل ومستقبل سيادة الدولة ووحدة أراضيها، في وقت ما تزال فيه القوى الظلامية، متمثلة بـ (داعش) وبقايا البعث، تحتل أجزاءاً كبيرة من البلاد، مهددة النسيج الاجتماعي بالتمزق، من خلال تهجير وقتل سكان البلاد الأصليين، وهو ما يمكن أن يطال جميع المكونات الأخرى من طوائف وقوميات وأتباع أديان وملل ونحل، ناهيك عن القوى السياسية، ما يشكل، في حال حدوثه، كارثة حقيقية، قل مثيلها في التأريخ المعاصر.
ولأن لبرلمان دولتنا علاقة مباشرة بما يحدث، باعتباره أحد الأعمدة الرئيسية في منظومة الدولة، يكون مهما بحث ودراسة مختلف جوانب العملية البرلمانية، والاستفادة من الموروث الإنساني في هذا المجال.
فإذا كانت المهمة الأساسية لمجلس النواب العراقي هي تشريع القوانين ومراقبة عمل السلطة التنفيذية، فان مهمات أخرى، طارئة، تفرضها طبيعة المرحلة التي يمر بها بلدنا، والتي تثير قلقا مشروعا لدى المواطنين العراقيين، حيث الهجمة السوداء لقوى الإرهاب باتت تهدد كيان الدولة العراقية، إذ اقتطعت تلك القوى مساحات واسعة من أرض العراق، معلنة قيام دولة هجينة للخلافة، ستكون في حال نجاح مشاريعها السوداء، شبيهة بدولة طالبان، سيئة الصيت، في أفغانستان، التي لا يزال العالم يعاني من آثار جرائمها المروعة ضد كل ما هو إنساني. ولا اعتقد أن هنالك ثمة ضرورة للتذكير بمدى تشابه، وحتى تطابق الأساليب الهمجية، التي تمارسها عصابات تنظيم "داعش" الإرهابي في المناطق التي يسيطر عليها في بلدنا، مع ما تمارسه طالبان في مناطق نفوذها. من هنا قد يبدو مبررا تركيز السلطة التشريعية على الجوانب السياسية ذات العلاقة بالجهد الرامي إلى مجابهة الحالة الطارئة. الناتجة عن المستجدات الميدانية. لكن الواضح أن جهاز الدولة التشريعي لم يسع بما فيه الكفاية لانجاز كلتا المهمتين السياسية والتشريعية، وحتى لم ينجز بعد الكثير من المسؤوليات التنظيمية (الداخلية) ومنها، على سبيل المثال، تشكيل اللجان البرلمانية، وهي الخلايا الأساسية، التي لا يمكن أن يستقيم بدونها أي عمل برلماني حقيقي. وربما يعود هذا التأخير إلى الأساس الخاطئ في العمل البرلماني، المتمثل في نظام المحاصصة الطائفية، الذي يبدو أن مشرعي دولتنا وساستها يحاولون إنتاجه من جديد. من هنا يبدو مهما تسليط الضوء على موضوعة اللجان البرلمانية، كواحدة من المسائل التي تواجه نواب الشعب في الوقت الراهن.
إن واحدة من الصفات المميزة للتركيبة الداخلية لجهاز الدولة التشريعي هي امتلاكه لمنظومة متكاملة من اللجان، تضطلع بمجموعها بمزاولة الاختصاصات الموكلة دستوريا لبرلمان الدولة، حيث يؤلف النظام الداخلي لذلك الجهاز مرشداً ومصدراً لعملها. ويمكن تصنيف تلك اللجان على أساس نوع المهمة الموكلة اليها (لجنة الأعضاء، اللجنة القانونية، لجنة الأمن والدفاع، اللجنة المالية…..الخ) أي كل ما بات يطلق عليه في القانون الدستوري بلجان الاختصاص. وعادة ما تمارس هذه اللجان نشاطها، منذ تشكيلها في بداية الدورة البرلمانية، وحتى نهاية الفترة المحددة قانونياً، أو دستوريا، لمزاولة البرلمان مسؤولياته خلال الدورة الانتخابية، التي هي في العراق، وفقا للمادة (56) أولا من الدستور أربع سنوات تقويمية، تبدأ بأول جلسة له، وتنتهي بنهاية السنة الرابعة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن هنالك ثمة ما يشبه الإجماع حول نوع تلك اللجان واختصاصاتها، حيث تتضمن تشريعات الدول المختلفة والأنظمة الداخلية للبرلمانات قواعد لتنظيم عملها. على أنه لابد من القول أن التركيبة القومية والعشائرية والدينية للمجتمع، وحتى الجغرافية، تؤثر في الكثير من البلدان، على عدد تلك اللجان ونوعيتها (في مجلس النواب الأمريكي 22 وفي مجلس الشيوخ 16 لجنة، في مجلس العموم البريطاني 15، في الغرفة السفلى لبرلمان السويد 16 لجنة…الخ). وتجدر الإشارة أيضا إلى أنه ليس هنالك من عدد ثابت لتلك اللجان، ذلك أن عددها يتغير من دورة إلى أخرى. وربما كان للظرف العراقي الراهن، بالإضافة إلى التركيبة الحزبية لبرلمان دولتنا، الأثر الحاسم في تحديد عدد اللجان وأوجه نشاطها. واعتقد انه كان من الأجدى تقليص عدد اللجان في مجلس النواب وزيادة عدد أعضاء كل لجنة ومنحها صلاحية تشكيل اللجان الفرعية لانجاز المهمات ذات الطبيعة المتشابهة، وذلك ليس غريبا على التجارب البرلمانية. فتوزيع الأعضاء بمجاميع صغيرة على اللجان البرلمانية، قد يؤدي إلى ما يمكن أن نطلق عليه تضارب الاختصاصات والذي سيفضي، كما تشير التجارب البرلمانية، إلى فوضى العمل وتنازع القرارات.
لقد تمايزت أساليب تشكيل اللجان البرلمانية، لكن الأكثر شيوعا في البرلمانات المعاصرة هو أسلوب المحاصصة الحزبية، الذي يأخذ بعين الاعتبار حجم الفرق والكيانات الحزبية الممثلة في البرلمان عند تحديد عدد اللجان ونسبة تمثيل القوى السياسية فيها. ومع أن بعض التشريعات أوكلت رسمياً مهمة تعيين أعضاء اللجان لرئيس البرلمان (اليابان، الهند، هولندا)، إلا أن ذلك لا يعني غياب التعيين الفوقي للجان البرلمان من قبل رئيس الدولة وحزبها الحاكم، وخصوصا في دول الأنظمة الشمولية والدكتاتورية التي ترى في اللجان البرلمانية، كما في البرلمان ذاته، أجهزة استشارية ليس الا. وعند الحديث عن حجم الصلاحيات التي تتمتع بها اللجان البرلمانية لابد من الإشارة إلى أن جدلاً واسعاً كان، وما يزال، دائراً بين فقهاء القانون الدستوري حول الجوانب السلبية والايجابية لتوسيع صلاحيات اللجان البرلمانية. ففي حين يرى بعضهم أن زيادة اختصاصات تلك اللجان قد يؤدي إلى نقل مركز الثقل من قاعة النقاشات إلى دوائر اللجان الضيقة، مما يعد إخلالا بمبدأ جماعية العمل، وجد آخرون في توسيع صلاحيات اللجان تحقيقاً لمبدأ تقسيم العمل و عاملاً مساعداً في تفعيل البرلمان وتسريع العملية التشريعية.
وفي جميع الأحوال لا ينبغي لمبدأ التخصص، الذي يكمن في صميم توزيع البرلمانيين على أجهزة البرلمان الداخلية (اللجان) أن يكون ذريعة لترحيل اختصاصات الجهاز التشريعي إلى لجانه الدائمة، ذلك لان اللجان المنبثقة عن البرلمان ليست سوى أجهزة داخلية يراد لها أن تكون مساعداً للسلطة التشريعية وليس بديلاً عنها.
إن استعراضاً سريعاً للخارطة البرلمانية المعاصرة سيبين أوجه التشابه والتمايز بين النظم البرلمانية، وخصوصاً في مجال آليات عمل لجانها المختصة. في حين أوكلت اغلب التشريعات والأنظمة الداخلية لتلك اللجان مهمة دراسة مشاريع القوانين وإجراء التعديلات الضرورية عليها، ومن ثم إحالتها إلى جلسة البرلمان، منحت أخرى اللجان البرلمانية إمكانية ممارسة اختصاصات الجهاز التشريعي للدولة في حالة حل البرلمان، أو انتهاء الفترة القانونية لدورته. وهو الأمر الذي يعني أن تلك التشريعات تنظر إلى اللجان البرلمانية، ليس فقط باعتبارها أجهزة فرعية للبرلمان، وإنما كبديل للسلطة التشريعية (اسبانيا، المكسيك، بوليفيا، فنزويلا….الخ). حتى أن الدستور الاسباني أباح للجانه الدائمة إصدار بعض التشريعات مؤقتة السريان، وخصوصاً عند تأخر انعقاد الدورة البرلمانية لهذا السبب أو ذاك، أو انقضاء فترتها الدستورية (المادة 78).
من المسائل التي استأثرت باهتمام كبير من قبل المختصين بالشأن البرلماني هي ممارسة الصلاحيات الرقابية من قبل لجان الجهاز التشريعي للدولة، حيث تقوم الأخيرة بالتحقيق والاستجواب، وقد منحتها اغلب التشريعات إمكانية الطلب إلى أعضاء الجهاز التنفيذي للدولة والقادة السياسيين المثول أمام اجتماعات تلك اللجان والإدلاء بما يمكن أن يسهل المهمة الرقابية للبرلمان، في ذات الوقت من الضروري الإشارة إلى أن أعضاء السلطة التنفيذية لا يتحملون مسؤولية مباشرة أمام اللجان البرلمانية، وأن قرارات الأخيرة لا تكون إلزامية بالنسبة لهم. بالإضافة إلى ذلك فان للبرلمان الحق بتشكيل لجان مختصة مؤقتة تكون مهمتها الأساسية إجراء التحقيق عند الضرورة. على انه لابد من التذكير هنا بان ما يميز عمل اللجان المذكورة هو أن جلساتها سرية، وفي كثير من الأحيان يترتب على أعضائها تقديم تعهد خطي بعدم تسريب ما يدور في جلسات اللجنة (لجان الأمن والدفاع على وجه الخصوص) فيما تعتبر محاضر الجلسات وثائق سرية غير قابلة للنشر.
إن من القضايا الهامة التي شكلت، وما تزال تشكل، معضلة بالنسبة للكثير من البرلمانات هي مسألة التزام البرلمانيين بحضور اجتماعات لجان الاختصاص المختلفة. فغياب عدد محدد من الأعضاء، إضافة لإخلاله بالنصاب القانوني ومشروعية القرارات المتخذة من قبل اللجان، فانه يؤثر سلبا على مجمل عمل البرلمان ويعيق أداءه الوظيفي. وقد ذهبت الأنظمة الداخلية البرلمانية إلى معالجة هذه المسألة بأساليب مختلفة توزعت بين إعفاء العضو من عمل اللجنة، وحسم نسبة من راتبه الشهري (في البرلمان الفرنسي مثلاً).
إنني أرى أن التأسيس لبرلمانية سليمة والارتقاء بعمل الجهاز التشريعي الأهم في الدولة يتطلب التخلص من إرث الأنظمة الشمولية، التي سادت في وطننا في الفترة الماضية، والعمل على تجاوز السلبيات التي ولدتها سياسة المحاصصة الطائفية والقومية، والتوجه لاعتماد معيار التخصص والكفاءة في تشكيل اللجان البرلمانية، مع السعي لتربية كوادر متخصصة في مجال الاستشارة القانونية للعمل كمساعدين لأعضاء اللجان البرلمانية. وربما يكون من المناسب الاستفادة من تجارب الدول الأخرى في هذا المجال، حيث ترسل كليات القانون طلبتها للتطبيق في البرلمان، وفق تنسيق مسبق، فيما يقوم الأخير (البرلمان) بالتعاقد مع الطلبة المتميزين للعمل بعد التخرج كمستشارين في لجانه البرلمانية. وقد قدر لي الإشراف على اؤلئك الطلبة ومرافقتهم إلى البرلمان الروسي، أثناء عملي في مجال التعليم الجامعي، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وأعرف حجم الاستفادة المتبادلة بين الطرفين، في ظروف سياسية تكاد تكون مشابهة لما يحصل في العراق في الوقت الراهن.