مدارات

حين يصنع الشعب ثورته ! / يوسف أبو الفوز

ما الذي يجعل لثورة الرابع عشر من تموز 1958 هذه المكانة الرفيعة في قلوب عموم ابناء العراق ؟ مكانة خاصة رغم محاولات البعض اعتبارها مجرد "انقلاب" فتح باب الانقلابات العسكرية في تاريخ العراق الحديث ، ومحاولة تهميش دورها ، كما ان البعض الاخر حاول الاساءة لسمعة الثورة وقادتها ، بالضد من مشاعر وموقف عموم ابناء الشعب العراقي وقواه الوطنية، الذين ينظرون بتقييم عال لانطلاقتها ومسيرتها وربما بشيء من التقديس لرموزها!
أين يقف التاريخ من هذه الثورة؟
عند اندلاع ثورة الربع عشر من تموز ، وفي اول عدد لها بعد الثورة، وصفت مجلة "تايم" الامريكية الثورة بانها "مؤامرة نفذتها حفنة فقط من الضباط في ساعة واحدة فقط فسقط العراق المعروف منذ عهد بعيد بانه امنع قلعة للغرب في الشرق الاوسط " ، لكن المجلة لم تستطع سوى الاعتراف بان جماهير الشعب ايدت " المؤامرة " ورحبت بها !
فلقد انطلقت جماهير الشعب ، وفي ساعات قليلة لتحسم الامر، لتحول "الانقلاب" الى "ثورة" ، فلم يكن ما قام به الضباط الأحرار معزولا عن معاناة الشعب العراقي ونضالاته ، وعن التنسيق مع قواه الاساسية ، الممثلة بـ "جبهة الاتحاد الوطني " ، فالسرعة المذهلة التي حول بها الشعب العراقي حركة الجيش العراقي الى ثورة تعود لكون جماهير الشعب العراقي ومنذ سنين طويلة تخوض نضالا متواصلا ، سجل فيه الشعب العراقي وطلائعه السياسية صفحات مجيدة في العديد من الهبات والانتفاضات ، منذ الانتفاضة المسلحة عام 1936 ، ثم حركة مايس 1941 ضد الاستعمار البريطاني للعراق ، ووثبة كانون المجيدة عام 1948 ضد معاهدة بورت سموث ، والمعارك الوطنية عام 1952 و1956 ، وكان كل ذلك تمارين متواصلة لليوم المشهود ، يوم الرابع عشر من تموز ، حيث تمكن الشعب العراقي من تصفية حساباته مع حكامه المرتبطين بعجلة وخطط الاستعمار. لتسجل حقيقة انه ليس سوى الشعوب كقوة قادرة على تحويل التاريخ الى عبرة مجيدة ، وهذا الذي جرى صبيحة الاثنين في الرابع عشر من تموز ، فلم يمكن لحركة الضباط الأحرار ان تتمكن من النجاح لولا التفاف جماهير الشعب حولها . مجلة "الايكونوميست " التي تعتبر لسان دوائر المال والاعمال البريطانية الكبرى ، والتي عرف عنها رصانتها في مواقفها السياسية ، حيث وقفت ضد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ، كان لها موقف مضاد لثورة 14 تموز بل واعتبرتها "أسوا لحظة" في التاريخ ، لانها "ادت الى تدهور مركز الغرب " ، ودعت بشكل واضح الى التدخل العسكري ضد الثورة . ورغم ان الاسطول السادس الامريكي وسلاح الجو البريطاني تحركا وانزلا فيالقهما في الاردن ولبنان لقمع الثورة ووأدها الا انهما لم ينجحا في فعل شيء لان شعبا باكمله ، على كل مساحة العراق ، عربا وكردا ومكونات ، هب ونزل الى الشوارع ليدعم حركة "حفنة الضباط " ويحمي الثورة ويحتضنها ، ولا ننس القول ان ذلك ترافق مع موقف الاتحاد السوفياتي وتحذيره من عدم ترك ثورة العراق لوحدها والمناورات الاستثنائية التي نفذها في المناطق السوفياتية قرب الحدود التركية !
لا يختلف المراقبون والمؤرخون في ان التفاف جماهير الشعب حول ثورة الرابع عشر من تموز لم يضمن حمايتها من تحركات ومؤامرات فلول النظام الملكي القديم ، بل وانما اعطى الثورة مضمونا شعبيا ، مع امال بفتح افاق تقدم لتحقيق انجازات تاريخية ، وهذا الذي حصل في سنين الثورة القصيرة خصوصا الاولى منها . فثورة الرابع عشر من تموز 1958 جاءت بجمهورية ديمقراطية ، لها سيادة وطنية ، وحولت العراق من قاعدة لحلف عدواني ــ هو حلف بغداد الذي انسحب منه العراق فور اندلاع الثورة ــ الى قاعدة للتحرر في المنطقة. رافق ذلك قرارات ستراتيجية لتحرير اقتصاد العراق من التبعية لمنطقة الاسترليني واسترجاع حقوق السيادة على الثروة النفطية، وثم صدور قانون الاصلاح الزراعي الذي صاغ العلاقات الاجتماعية في الريف على اسس جديدة، وما رافق ذلك من قرارات وقوانين تلبي حقوق العمال والمساواة في المجتمع ما بين المراة والرجل والسماح ل1111 منظمات المجتمع المدني بالنشاط العلني والقانوني، والحق لبعض الاحزاب بالعمل العلني واصدار صحفها الخاصة.
من جانب اخر فأن قوى الردة، من بعثيين وحلفائهم من جنرالات العهد الملكي المباد وشخصيات طامعة وقوى محلية انتكست بسبب انجازات الثورة، نجحوا جميعا في استثمار حالة التردد والتذبذب لدى قيادة الثورة وطبيعتها في الخوف من الديمقراطية وسياسات التراجع في بعض ممارساتها ثم جاء انفراط جبهة الاتحاد الوطني مترافقا مع الاخطاء التي ارتكبتها القوى الوطنية وقيادة الثورة، فنجح العفالقة وبدعم خارجي امريكي واقليمي من تنفيذ انقلاب 8 شباط 1963 الدموي الغادر الذي اعاد العراق الى عهود مظلمة وليكون انتقاما من الشعب الذي ساند الثورة وانجازاتها، لكن هل انطفأت شعلة الرابع عشر من تموز ؟
ان ذاكرة شعبنا العراقي حية، سواء بصور الجرائم التي نفذها اعداء ثورة 14 تموز في انقلابهم البغيض عام 1963 وما تبع في انقلاب العفالقة الثاني عام 1968 ، او بصور ايام ثورة 14 تموز 1958 المجيدة وما تحقق فيها من انجازات نوعية ، والتي ستبقى راسخة في قلوب وذاكرة وضمير الاجيال من ابناء شعبنا العراقي. ان دروس ثورة 14 تموز وتجربتها الفريدة لا يمكن ان ترمى بعيدا في كتب التاريخ، بل ستظل شاخصة دوما في عمل ونشاط القوى السياسية المؤمنة بالديمقراطية وجماهير الشعب ومنظمات المجتمع المدن ، وذلك بالترابط مع المتغيرات في الحياة والعالم والوطن. ان استيعاب اهمية وضرورة التحالف الوطني على اسس المتغيرات في العالم وتحديد الاوليات وتشخيص الثانوي والاساسي لكفيل بتفجير طاقات الشعب وتسييرها بالشكل الصحيح، لتوطيد واستكمال البناء الديمقراطي وترسيخه بما يضمن إقامة دولة القانون والمؤسسات الدستورية، فالشعوب قادرة على اجتراح المعجزات ولا يمكن ابدا الاستهانة بقدراتها لصنع مستقبلها المشرق ! .