مدارات

موازنة الدولة والقطاع العام وحقوق العاملين في الشركات العامة / عدنان الصفار

وأخيراً انتهى الجدل حول الموازنة وتم إقرارها " بعاصفة من تصفيق السادة النواب "!. وكان تأخرها قد ادى الى توقف اغلب المشاريع في البلاد، خاصة وان العراق يمر في حرب مصير مع التنظيمات الإرهابية على محاور عدة من بلادنا.
لقد أكد المعنيون، من الخبراء الاقتصاديين وقوى سياسية وأعضاء في مجلس النواب، أن تأخر اقرار الموازنة المالية العامة للدولة، لعامي 2014و2015، كان سببا رئيسا في تعطيل اغلب مشاريع البلاد، وضياع احلام وطاقات الشباب، إضافة إلى أن تأخر الموازنة لفترة طويلة قد أدى إلى تراكم الديون واستنزاف قدرات البلاد. ان القراءة الاولية للموازنة تؤكد بان عمال ومنتسبي الشركات العامة في وزارة الصناعة والمعادن والوزارات الاخرى التي يتجاوز عددها ال 174 شركة هم المتضررون الرئيسيون من هذه الموازنة بعد الاهمال المتعمد وعدم تأهيل تلك الشركات ودعمها طيلة أكثر من عشر سنوات، بل تحولت إلى قضية ديون "قروض" يتطلب جدولة تسديدها اعتباراً من بداية عام 2016!!. المفارقة في موازنة عام 2015 أو الاصح موازنة "انهاء القطاع العام وشركات وزارة الصناعة والمعادن تحديداً" ان فيها من المتناقضات الشيء الكثير وخاصة ما يتعلق بموضوع الشركات العامة. فعلى سبيل المثال لا الحصر تتحدث الفقرة (ب) من المادة 33 من قانون الموازنة انه يتطلب " تفعيل قانون التعرفة الكمركية رقم 22 لسنة 2010 المعدل وقانون حماية المستهلك رقم 1 لسنة 2010 وقانون حماية المنتجات العراقية رقم 11 لسنة 2010 " وهنا نبادر لسؤال من صاغ قانون الموازنة.. فعن أية منتجات تتحدثون ويتطلب توفير تعرفة كمركية لها؟، وأية منتجات عراقية ستوفر لها الحماية وهي غائبة اصلاً؟ وكيف سنحمي المستهلك الذي اشبعتموه بالبضائع الفاسدة طيلة السنوات العشر الماضية؟. بعد هذا الذي فرض على الصناعة الوطنية من تدمير وخراب وإهمال وصل إلى قطع رواتب العاملين الذين اصبحوا الآن مهددين بالإحالة إلى التقاعد بحجة انهم (فائضون!) ونخشى ان تطلقوا عليهم (فضائيين)!!. هذا ما تتحدث به المادة 49 من قانون الموازنة التي خولت مجلس الوزراء " مناقلة الموظفين بين الوزارات " أو " أحالة الموظفين الفائضين في كافة شركات القطاع العام إلى التقاعد"! ولا تعرف المعايير التي ستحدد من كان فائضاً، ومن غير فائض. ومن المؤكد انه سيتم التلاعب بمصير العاملين وفق أمزجة من دمر وأهمل هذه الشركات، وتلك الإدارات التي تعاني من الفساد المالي والاداري بأعتراف مسؤولي الحكومة ومجلس النواب علناً. وايضا ستتدخل الاحزاب المتنفذة التي لها اعوان هنا وهناك في تقرير مصير حياة الاف العاملين وعوائلهم..
وغير معلوم كيف ستتم عملية المناقلة؟ وهل يعقل ان ينقل مهندس أو فني أو عامل على ماكنة ما وله خبرة طويلة في مجال عمله إلى قارىء مقاييس يتجول في أزقة بغداد والمحافظات بدلاً من الاستفادة من خبرته وممارسته الصناعية طيلة سنوات عمره؟! وكيف سيحال إلى التقاعد ان لم تكن له خدمة واستثناء من شرط العمر الوارد في قانون التقاعد الموحد؟. اليس ذلك يعني انضمامه الى جيش البطالة المتزايد وسينافس العاطلين عن العمل الجدد ممن بدأ أول حياته المهنية، شاءت حكومة المحاصصة أم أبت؟.
ثم ماذا عن الرواتب المتأخرة والمستحقة للعاملين في شركات القطاع العام؟. وماذا عن التعليمات المرسلة الى مصرفي الرشيد و الرافدين بصرف الرواتب للاشهر الاربعة الاخيرة من عام 2014، وماذا عن رفضهما صرف هذه المستحقات حتى ولو كانت لشهر واحد؟ واخر المعلومات المؤكدة في هذا الشان ما جاء في رد مدير عام مصرف الرافدين بموجب كتابه المرقم 3 / 36 في 7 / 1 / 2015 بأن ذلك " سبب إلى إرباك في عمل مصرفنا.. الخ " ورفض تطبيق قرار لمجلس وزراء جمهورية العراق، أعلى سلطة تنفيذية في بلدنا!.
ان البنى التحتية للدولة دمرت بسبب الاحتلال والانفلات الأمني والإرهاب وهشاشة الوضع السياسي العام وانهيار التعاون بين حكومة المركز والحكومات المحلية وانتشار ظاهرة الفساد الإداري والعصابات المنظمة، وليس بسبب وجود عشرات الاف العاملين في الشركات العامة وممن لديهم الخبرة والمهارة والكفاءة المهنية العالية ولا حتى ببضع الاف من العائدين للعمل (فصل سياسي او غيره). وايضا بسبب عدم وجود اية سياسة اقتصادية للدولة او اي مؤشر تنموي واضح للعيان لبناء المشاريع الاقتصادية : الخدمي منها والإنتاجية في القطاعات الاقتصادية كافة، فضلا عن انتشار ظاهرة البطالة وعجز القطاع الخاص الصناعي عن القيام بمهامه ودوره الاستثماري في الإنتاج المحلي وكذلك السماح من دون رقابة او سياسة كمركية باستيراد البضائع الأجنبية لتصبح أسعارها اقل من السلع العراقية، ومرد ذلك غياب السياسة الكمركية وخطط الاستيراد التي تهدف الى رعاية الإنتاج الوطني،كما ينعدم وجود نظام ضريبي علمي يعنى بدراسة دخل الفرد والناتج المحلي للقطاع الخاص الذي يراد له ان يضطلع بالمهمة الأساسية لإعادة بناء الاقتصاد العراقي فيما هو ما زال دون الطموح، وكذلك غياب وجود قطاع مختلط ناضج. كما ان هناك زيادة حادة في نسبة التضخم حيث كان ارتفاع الأسعار قد حدث من جراء زيادة الرواتب وعدم وجود سياسة وطنية لتحديد الأسعار والأجور،فضلا عن اقتصار دور الحكومة العراقية على تحويل واردات النفط الى نفقات تشغيلية (رواتب موظفي القطاع العام). ان البرنامج الحكومي الذي قدمه رئيس الوزراء الحالي يؤكد على ان القطاع الخاص ستكون له الأولوية في إعادة بناء الاقتصاد العراقي دون الاهتمام بالقطاع العام وما يمتلكه من أرث في الكفاءة والإنتاج. ونرى ان الموقف السليم لا يكمن في خصخصة هذا القطاع، بل في بلورة منهجية واضحة، تتيح التغلب على آليات النهب وسوء الإدارة التي تعرض لها ولا يزال، وإجراء تقييم شامل وموضوعي لمؤسساته، قبل الإقدام على أي خطوة لتغيير ملكيته، فهو يمثل بمجموع منتسبيه وخبراتهم المتنوعة التخصصات وبأصوله المادية، كتلة اقتصادية كبيرة تضم موارد بشرية ومادية مهمة معطلة الآن كلياً أو جزئياً، في حين يمكن ان يقدم مساهمة جدية في تنشيط الاقتصاد الوطني ومكافحة البطالة، اذا ما تمت إعادة تأهيله وتحديثه وتمكينه من استعادة عافيته وقدرته الإنتاجية من أجل تقديم أفضل الخدمات لحماية حقوق ومصالح شعبنا العراقي.