مدارات

في تجربتي الصحفية .. العرفان لصحافة الحزب الشيوعي العراقي !/ عبد اللطيف السعدي

في وقت مبكر بدأت الإحساس بواقع البلاد في ظل سطوة سياسات الحكام واجهة لسياسات ومصالح المستعمرين، وسلطات الإنتداب بعد ذلك. لم أعرف بعد كنه السياسة، فهمتها من خلال الموقف العملي، والإحساس المباشر وأنا في أولى مراحل الإبتدائية في مدرسة الوثبة في محلة الدوريين. وبعد ثورة تموز عام 1958، بدأت أتلمس شيئاً جديداً في أجواء البيت. حركة غير عادية، نشاط شبابي ونسائي لاخي الأكبر ولأخواتي السابقات لي عمراً. و تعززت أحاسيسي وبوادر وعي مبكر بقيم العمل من أجل الآخرين والشعب والوطن، وكذلك عبر ما كنت ألاحظه من أوضاع العائلة. وأحسست بأولى الحوافز الصحفية حين أخذ الأخ الأكبر والذي عرفت فيما بعد حين إنتمائه لتنظيم شبابي، يرتبط بالحزب الشيوعي العراقي، يكلفني بالذهاب إلى أحد أكشاك بيع الصحف عند ساحة الشهداء قبل جسر الشهداء، لشراء جريدة ميزتها بعنوانها الأحمر، واسمها القريب إلى روحي الفطرية (إتحاد الشعب). كنت أسير مبتهجاً، فخوراً بحملها مظهراً بتعمد العنوان الأحمر، محاولاً الإطلاع على صفحاتها قبل الوصول إلى البيت حيث سيحتكرها الكبار في البيت
ومع الزمن وتجاوزي لمراحل الدراسة المتوسطة والثانوية وثم المعهد وبهدوء وبالصمت الذي عرفت به، تبلورت أفكاري وتحددت سمات شخصيتي، متخذا طريق الإيمان بقضايا الشعب والفقراء الذي إنتهى بتبني منهج الماركسية الديالكتيكي بعد قراءات متمعنة بكتابي ياخوت وبودوستنيك، المادية التأريخية والديالكتيكية. وزاد قربي من تلك الصحيفة التي ما كتملت فرحتي باحتضانها لوقت طويل حين أغلقت، بقرار تعسفي. واكتملت مسيرة القناعات والإيمان باختيار واع لطريق الإنتماء. وبدأت في بدايات السبعينيات أقرأ بنهم وخاصة أولاً جريدة الفكر الجديد التي سبقت صدور طريق الشعب علانية بعد الإتفاق الجبهوي في العام 1973.
كنت أطالع حروف الجريدة الحمراء دون إغفال أي حرف منها. ولكوني بدأت كتاباتي وخاصة الشعرية في وقت مبكر، وكان لي فيها دفاتر خاصة. فيها كنت املي كل مشاعري ومواقفي من الحياة والعلاقات الإنسانية والحب والإنتماء بسرية. (دفاتري هذه رميت في نهر «الشطيط» قرب حي دراغ بسبب متابعات وزيارات الأمن بعد خروجي من العراق). وفي أواسط السبعينيات بدأت ابعث بقطع قصيرة من نصوص كنت أعتبرها شعرية. ومرة نشرت لي قطعة في باب «أوراق الإثنين». ومن هنا بدأت مسيرتي مع صحافتنا الشيوعية.
في منطقة الجزيرة التابعة لمحافظة نينوى، غرب الموصل وبين مدينتي تلعفر وتل عبطة، وبعد ترحيلي بدأت نشاطي بين فلاحيها. وكتبت أول تقرير صحفي عن واقع ومعاناة فلاحي الجزيرة، بتوقيع «ابن الجزيرة». واذكر هنا أن أخي وبواسطة علاقته مع طيب الذكر «أبو سيروان»، حيث كانا يعملان معا في لجنة المنطقة الوسطى للحزب، ساهما في أيصال مقالتي إلى الجريدة.
وبعد إنتقالي كمعلم إلى مدينة تلعفر، زادت صلتي بهيئات الحزب في الموصل، وأذكر أن المرحوم الفقيد أبو هافال (من دهوك) كان ممثلا للمكتب الصحفي وعملت معه في قراءة وإعداد المواد لإرسالها إلى الجريدة. وحتى أواخر العام الدراسي 1974 - 1975، حيث انتقلت إلى بغداد. ومن هناك بدأت مرحلة جديدة في علاقاتي عبر العمل الحزبي حيث واصلت العمل في المكاتب الصحفية باذلاً الجهود في إعداد المواد وإرسال ما أكتب دون اسمي. وفي سياق ذلك تعرفت على رفاق بارعين في العمل الإعلامي، وبينهم أذكر الشهيد سامي العتابي. وأخص هنا ايضا وبعرفان الرفيق والصديق عبد الحسين رمضان زنكنة (أبو نهار)، حيث كنت أستمد منه اندفاعا والتصاقا بالعمل الصحفي (كان يشغل حيزا في صفحات الدولية من طريق الشعب).
وعند اضطراري لترك الوطن والخروج الى بيروت، هناك تحديداً باشرت عملي الإعلامي والصحفي العام في الصحافة الشيوعية، وفي غيرها من الصحف العربية والفلسطينية بشكل خاص. كُلفت حينها بالعمل مع هيئة تحرير مجلة المنظمات الديموقراطية «الحقيقة». وكان المشرف عليها أولا الصحفي القدير عدنان حسين، وثم أبو فادي (موسى.... ). وفي كردستان وضمن حركة أنصار الحزب الشيوعي العراقي، اصبحت ضمن «لجنة إعلام قاطع بهدينان»، من بعد الهجوم التركي وانسحاب قواتنا إلى العمق العام 1983، حين صار مقر القاطع في منطقة نهر زيوة. كنت أتابع كتابات الانصار في هيئة تحرير جريدة «النصير»، وأكتب بعض المقالات الصغيرة بالتعاون مع العزيز علي محمد (أبو سعد إعلام). وكلفت بقيادة لجنة إعلام سرية القاطع. وبالتعاون مع العديد من الرفاق الأنصار وأخص العزيز أبا نسرين لاسلكي (نمير) والعزيز كاردو (كفاح الأمين) الذي كان في زيارة إلى القاطع، أصدرنا مجلة «زيوة» الدفترية. وبعد حملات الأنفالات من قبل النظام الدكتاتوري المقبور، لمنطاق كردستان العراق، واضطرارنا لترك المنطقة، وحين عودتي إلى دمشق كلفت بالعمل في إعلام الحزب، حيث كنت أتعاون مع الدكتور غانم حمدون في إعداد نشرة خاصة بالمتابعة. كما عملت بعد حين مع الرفاق في «طريق الشعب». وكلفت في العام 1991 بالعودة إلى كردستان وتحديدا في مدينة شقلاوة للبدء ببث إذاعة (صوت الشعب العراقي) وحتى العام 1992. وفي دمشق مجدداً عدت للعمل في مكتب الشام متعاونا مع الدكتور غانم والدكتور الجميل فقيدنا أبو سعد (حامد العاني) في إعداد جريدة «طريق الشعب»، ومجلة «الثقافة الجديدة». وكنت أتابع التصميم والطبع في إحدى مطابع دمشق حتى خروجي منها مجبراً، في أواخر العام 1994.
ومن محطتي الجديدة إيطاليا، كنت أتواصل مع صحافتنا الشيوعية، حيث كتبت العديد من المعالجات والمقالات لمجلة (رسالة العراق) التي كانت تصدر في لندن. وكذلك في مجلة «الثقافة الجديدة».
هذا سفر شيوعي حاولت حصره بعيدا عن الكثير من التفاصيل والأحداث. التفاصيل التي أعتبرها مهمة للحديث عن مسيرة الصحافة الشيوعية، ودورها المتميز والتاريخي، ليس فقط في متابعة ونقل مطامح وتطلعات ومطاليب ابناء شعبنا وخاصة من الكادحين وجميع الفئات العاملة، وإنما وايضا في تكوين وبلورة تجربة صحفية مهنية اسهمت بتخريج أجيال من الصحفيين الماهرين والمهنيين، الذين لعبوا، وما زالوا، أدواراً مهمة في الصحافة ووسائل الإعلام العربية والفلسطينية على وجه التحديد. أقرُ هنا، لم يكن كافيا بالنسبة لي تعلقي ورغبتي وبدايات ملكاتي الفطرية الاولى للعمل في ميادين الإعلام والصحافة، بل لقد تبلورت ملكاتي وتحددت سمات وطابع كتاباتي، حتى بالمعاني المهنية، وذلك ارتباطا بتجربتي مع الصحافة الشيوعية في العراق، مع صحافة الحزب الشيوعي العراقي تحديداً. وكان لصحفيين كبار في مسيرتها دورٌ كبير في مسيرتي الصحفية ومسيرة المئات من كبار الصحفيين الذين ما زالوا يلعبون دورا كبيرا في ميادين الإعلام والصحافة والإعلام في العراق وفي المنطقة العربية وعلى أوسع نطاق.
لقد كانت تجربتي مع صحيفتنا الغراء،» طريق الشعب» في بغداد، من بعد سقوط الدكتاتورية الصدامية، ورغم ما تضمنته من مصاعب، وعراقيل ذاتية وموضوعية، كانت بالنسبة لي مدرسة أخرى شذبت الكثير من هناتي الصحفية في الكتابة وأغنتني كثيرا في كل ميادين الكتابة الصحفية.
أحسب نفسي ابناً متلفعا بالحب والعرفان لصحافة حزبنا الشيوعي العراقي. فطوبى لصحافتنا الشيوعية، وطوبى لكل الصحفيين الذين اسهموا في بناء صرح فنون الصحافة في العراق.