مدارات

جديد فالح مهدي : الخضوع السني والإحباط الشيعي / د. جواد بشارة

كتاب الباحث العراقي المقيم في باريس د. فالح مهدي " الخضوع السني والإحباط الشيعي" أو "نقد العقل الدائري" محاولة جريئة لنقد العقل الإسلامي. فمن النادر أن تجد اليوم مفكرا متعمقاً في الفكر الإسلامي يسلك طريق النقد والتفكيك والتوغل في عمق المشاكل الفكرية للإسلام مما يوفر أداة فعالة لمواجهة التحدي الحضاري الذي يواجه الأيديولوجيات الدينية اليوم، كما يفعل الدكتور فالح مهدي في كتابه المهم هذا.
هناك محاولات لباحثين آخرين كمحمد آركون، حاولوا نقد العقل لكن مقارباتهم كانت محدودة في حين أن الباحث الدكتور فالح مهدي وضع حجر الأساس في المنهجية النقدية من خلال نقده للعقل الدائري، الأمر الذي لم يتلفت له أحد قبله، وهو دور المكان في تشكيل العقل والتفكير.
من المؤكد أن بحث الدكتور فالح مهدي لن يعجب الجميع من ذوي العقول المتخشبة وسيثير حفيظة البعض لأنه سيراه بمثابة تجني مفرط في حقه، خاصة عند التدقيق في المعاني الدفينة والمجازات غير المعروفة في المفردات والمفاهيم المستخدمة. فمفهوم الخضوع السني لا يعني على الإطلاق الطاعة العمياء التي توحي بالعبودية. أما الإحباط فهو مصطلح سيكولوجي معروف ينطبق على المكون المقصود به لأنه عاش تفاصيل خيبة الأمل والمرارة التي عاشها الشيعة في العالم الإسلامي منذ النشأة والتكوين في حقبة تاريخية قديمة إلى يوم الناس هذا، مما دفع بمنتسبي هذا المكون الإسلامي إلى إثراء المخيلة وحشوها بالمبالغات وتمجيد الذات المنهكة إلى حد الجنوح كما قال المؤلف ، لكن الغاية من هذا التشخيص العلمي لم تكن التجني ولا التجريح بقدر ما كانت سلوك منهجية نقدية صارمة وموضوعية بعيداً عن المزايدات والتملق والتحيز لهذا الطرف على حساب الطرف الآخر.
الكتاب عبارة عن سفر فكري ومعرفي عميق ومتنوع، وليس التعاطي مع الإسلام كدين وسلوك وسياسة، بل وسيلة لكشف أسباب تخلف الشعوب التي تقطن العالم الإسلامي.
فهناك البعد الحضاري ، وهناك البعد التاريخي، وهناك البعد الآيديولوجي، وكلها علامات فارقة على الانهيار والسقوط المدوي للمرحلة التي سبقت سقوط بغداد، التي كانت تمثل رمزاً حضارياً ساطعاً وتعاقب عليها أقوام متخلفون أغرقوا العالم الإسلامي في ظلام الانحطاط حيث تدهورت ثقافة المدن وسادت المجتمعات القائمة آنذاك قيم البداوة وطغيان الأعراف الريفية على حساب الحضرية أو المدينية، حيث سادت الأساطير والعقلية الخرافية وتراجعت الثقافة العلمية والنقدية الاستكشافية والتجديدية. بيد أن أحدا لم يستطع وضع الإصبع على الجرح قبل محاولة الأزهري علي عبد الرازق في كتابه:" الإسلام وأصول الحكم" للكشف عن أسباب الإنحطاط مما جعله يدفع ثمناً باهظاً على جرأته هذه، وكان هناك أيضاً دور لا يمكن تجاهله أو نسيانه لشخصيات كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورفاعة الطهطاوي وطه حسين وسلامة موسى الخ .
وفي الفترة المعاصرة برز بعض الباحثين مثل التونسي هشام جعيط ، صاحب كتاب الفتنة، ومحمد آركون، صاحب كتاب نقل العقل الإسلامي، ومحمد عبد الجابري ، صاحب كتاب نقد العقل العربي، وجورج طرابيشي في نقده لنقد العقل العربي، وعبد الله العروي وغيرهم، وأغلبهم حاول أن يقترب من المحرم لكنه لم يفلح في الإجابة على السؤال الجوهري: لماذا بقيت البنى الثيولوجية كما هي منذ القرن الرابع الهجري أو العاشر الميلادي قائمة؟ ولماذا بقيت البنى الثقافية قائمة على الخرافة وسيادة العقل الخرافي؟
وحده الدكتور فالح مهدي تمكن من تقديم إجابات علمية منهجية عليها في بحثه الموسوم "نقد العقل الدائري".
سبق للدكتور فالح مهدي أن قام بجولة فكرية نقدية أولية سنة 1991 في بحثه عن أسس وآليات الدولة في الإسلام باللغة الفرنسية لتشخيص التكوين الأخلاقي والذهني والاجتماعي والثقافي والعقائدي والنفسي للمجموعة البشرية التي تعيش في قلب العالم الإسلامي. وهو يعاود اليوم في بحثه هذا سبر أغوار وتقصي أسباب وجذور الأمراض المزمنة التي تعصف بالعالم الإسلامي كالتعصب الديني والمذهبي، وغربلة البنى الاجتماعية ذات الطابع البدائي المتمثلة بالقبيلة والعشيرة التي كانت الأساس الذي بنيت عليه مختلف الأنظمة الاستبدادية التي عاشت وتغذت ونمت على جهل الغالبية العظمى من المجتمعات الإسلامية. وأعمق ما استلهمته من هذا البحث أن الفتنة في العالم الإسلامي ليست حدث عابر أو مرض وجد في مرحلة زمنية وانتهى، بل هو مرض مزمن كالأمراض العصابية حيث لا يدرك الإنسان البسيط أنه مصاب به. فهي بمثابة مرض جماعي يمتد لعدة قرون. وإذا لم يعالج هذا المرض بعد الغوص في طفولة المريض فإن هذا الأخير سوف يحيى ويموت دون أن يعي أنه مريض أو يدرك حالة التنافس والعدائية والإنطواء ونبذ الآخر والخوف منه والتذبذب والهوان والصغر، و دون ان يمتلك الشجاعة والسعي الحثيث لمعرفة ما جرى، وهذا ينطبق على الافراد والجماعات على حد سواء.
يقول الباحث الدكتور فالح مهدي أن بحثه هذا يطمح لفهم آليات الأمراض المزمنة التي وجدت ، ولم تزل ، في الجسد الجماعي مع إنه قد يبدو للوهلة الأولى من غير المنطقي والمعقول أن تمتد أمراض إلى مايقارب 1500 عام. فكيف وجدت وما هي شروط استمرارها وقدرتها على المقاومة تلك السنين الطوال؟
الكاتب لم يبحث في أسباب الفتنة في العالم الإسلامي، بل في نتائجها وانعكاساتها المعاصرة والتبعات المترتبة عليها وأثرها في البناء الفكري لدى المكونين الرئيسيين في الإسلام، والذريعة التي يتمترس خلفها الجميع كل وفق تفسيراته وتبريراته لها ولما حصل فيها.
إن هيمنة الآيديولوجيا التعصبية على العقل الجماعي هي التي تدفع ببعض أفراده إلى ارتكاب أبشع الجرائم وأكثرها وحشية وقسوة وبربرية كتفجير الذات وسط جمع من المصلين في مسجد أو المتسوقين في سوق شعبي وهو متيقن أنه يقوم بذلك إرضاءً لربه وإنه يقتل مرتدين عن الإسلام وكفرة يستحقون الموت وأن ربه سيكافئه حيثسيتناول الغداء مع نبيه وبرفقته سبعون من الحوريات. فمن أين جاء مثل هذا اليقين عند هؤلاء البرابرة لكي يقتنعوا بان الله سيدخلهم الجنة مكافأة لهم على جرائمهم المقززة هذه؟
في معرض إجابته على هذا التحدي الحضاري الكبير قام الباحث برحلة في العالم الأسطوري والديني لمصر الفرعونية ولحضارة بلاد الرافدين، لأنها كانت تمتلك المقدمات الثيولوجية لما ستكون عليه آلية الفكر العقائدي الإسلامي حسب قناعة الباحث. إذ ينبغي قراءة الإسلام على ضوء التراث المصري القديم وتراث وادي الرافدين ليس الأسطوري فحسب ، بل أيضاً القانوني والسياسي والاجتماعي والاثنروبولوجي والاقتصادي والمعماري المتعلق بنمط بناء المدن والحواضر الكبرى.
فالإبحار بعيداً في تراث بلاد ما بين النهرين قاد الباحث لفهم نظام القيم الإسلامي حيث بدأ هذا التبلور في العقل البشري منذ بدء مرحلة الزراعة (3000 سنة ق م ) وتطور الأمر عند السومريين والبابليين والفرس والمصريين والكنعانيين والفينيقيين واليهود واستقر أخيراً عند المسلمين ولا يزال فاعلاً إلى اليوم. وكان لابد للباحث أن يعطي مقدمات منهجية نظرية لفهم الحيز المكاني، الفردي والجماعي، الذي ولد فيه الإسلام حيث إن التراث القديم الذي يمتد زمانياً إلى أكثر من خمسة آلاف سنة لا يزال يحكم الحياة اليومية في البلاد الإسلامية على امتدادها الجغرافي الحالي.
الكتاب ذو قسمين أساسيين، الأول يستعرض الطريقة المنهجية والبناء النظري للبحث من خلال التوغل في الماضي زمانياً ومكانياً لدراسة نشوء الحضارات السابقة وتطورها، مع التركيز على حضارة وادي الرافدين وتأثيرها اللاحق على الإسلام وشرح قيم وعادات وتقاليد ذلك العالم القديم ، ومن ثم عرج على عرض انطلاقة الإسلام من الحيز الصحراوي ونجاحه في إخضاع حضارات تمتد لأكثر من ثلاثة آلاف سنة قبله وتمكن من ضمها وتوحيدها لغوياً وعقائديا، واختلطت القيم الاجتماعية والانثربولوجية القديمة والإسلامية في مختلف النواحي كالزواج والنظافة والحلال والحرام والجنس والمرأة والطهارة الخ.
أما القسم الثاني فقد كرسه المؤلف إلى أطروحته الفكرية في ما أسماه الخضوع السني والإحباط الشيعي باعتبارهما جوهرياً يمثلان نقداً للعقل الآيديولوجي وليس نقداً للعقيدة كما هي مطبقة، مستنداً في ذلك إلى كم هائل من المصادر والمراجع المعتبرة والرصينة باللغات العربية والفرنسية والانجليزية.
وقد بلغت صفحات البحث حوالي 388 صفحة مركزة ومكثفة، كل فقرة وضعت في مكانها بدقة متناهية وتعمد مدروس، مع كشف بالمصطلحات وفهرس للأعلام الذين تم ذكرهم في البحث، ومختصر للدوريات باللغات الأجنبية والمعاجم والموسوعات الأجنبية التي استند عليها المؤلف .