مدارات

سجل أنا عراقي.. وكان بساحتي خمسون ألف

بغداد – ماتع:
حتى التماثيل في نصب الحرية، وحتى الحمامة في جدارية فائق حسن نزلت الى الساحتين، ففي الجمعة الزاهية البهية 7 آب 2015 كادت ساحة التحرير أن تنفلق ولكن ساحة الطيران أنقذتها فاستوعبت الآلاف المؤلفة من أجمل ناس بغداد وحواليها الذين جاءوا يعرضون حالهم من سوء الخدمات ومن الفساد المالي والاداري.
في الخامسة والنصف عصراً امتلأت ساحة التحرير عن بكرة أبيها، وبقيت الوفود تترى، وما دخل الساحتين واحدٌ بمفرده ولا بصحبة عشرة حتى، فقد كانت المجاميع تأتي وهي تنشد وتهزج وتصدح وتدخل عشراتٍ عشرات، نعم أفواجاً أفواجا، وهي تردد: "هيله عليهم هيله.. شعبنا بعده ابحيله" و "فوك داعش والبلاء.. انوب ماكو كهرباء" و "بإسم الدين باكونه الحرامية".
في السادسة إلا عشر دقائق كان الوافدون يتراكمون في شارعي ساحة التحرير المؤديين الى ساحة الطيران، وامتلأ الشارعان أيضا، وطاف المتظاهرون حول الجدارية المنسية وقرب مسطر العمال، واذا بالمنطقة من جسر الجمهورية الى ساحة الطيران تغصّ بأجمل بني بغداد، وليس جلهم بل كلهم من الشباب الراقي الذي تميز بتنوع الأطياف، وهم يرددون وتسمعهم السماوات والأرض: "خبز.. حرية.. دولة مدنية"، وكان كل الغضب الساطع لا يحمل إلا راية واحدة وهوية جامعة، العلم العراقي، وقارب عددهم الخمسين ألف متظاهر وأكثر وهم من مشارب فكرية وسياسية شتى، وزاد هذا الطيف القزحي جمالا أن شارك في نسج سنائه باقة من المكفوفين.
وهذه الحشود الهاتفة لا يصدق عليها سوى قول الجواهري الكبير في مسيرة تشييع أخيه "جعفر":
وسُدَّ الرُّواقُ فلا مخرجٌ وضاقَ الطريقُ فلا مَخرَمُ
وشَقَّ على "الهاتف" الهاتفونَ وضجَّ من الأسطرِ المَرْقَمُ
كما لا يصدق على هذه الحشود الا نعتها بأنها الأنبل الأرقى، اذ لم تحدث حالات سرقة أو نشل ولا تحرشات، فكانت التظاهرة اجمل من يومياتنا التي نعيش.
كان اليوم أجمل ثالث يوم في تاريخ العراق المعاصر، فالأول هو يوم ثورة 14 تموز عام 1958، والثاني كان يوم انتهاء القادسية السوداء في 8/ 8 / 1988، فكلا اليومين كانا بهيجين فوق التصور، اذ نزلت الجموع المتنوعة العفوية وهي فرحة وهاشة باشة بالثورة الأنيقة مرة ومرة بوقف الحرب القذرة، وفي ثالث الأيام المجيدة خرجت الناس ضد الحرباء العراقية القمئة، وليس في الافق احتمال أن تتوقف هذه الاحتجاجات ومنها تسلم أصحاب القرار السياسي تشريعا وتنفيذا رسالة جليّة واضحة صافية بصفاء بلوري مفادها أن الارادة الشعبية لن تكبل، وأن التظاهرات لن تقبل التأجيل، ويخطيء من يتصور انه يمكنه بالتسويف والترقيع توقيفها أو يتصور أنها فقاعة وتتلاشى، وليس الآن أمام أصحاب القرار السياسي سوى العمل والاستجابة للمطالب المشروعة لأبناء بغداد والمحافظات المحتجة، فلقد كانت الجموع مصممة على التواصل وهي تغرد بابتهاج:
شدة يا ورد شدة.. ساحتنه ورد شدة..