مدارات

طريق الشعب تنتصر / فريد جلَو

عام 1977 ابلغني الشهيد خالد يوسف متي (ممثل الحزب الشيوعي في كلية الادارة والاقتصاد \ جامعة بغداد) بقرار عدم ادخال طريق الشعب للكليات والمعاهد.
كانت اجابتي اني غير ملزم بالقرار لكوني غير مرتبط بمنظمتكم.
كنت أغلي كمرجل يكاد ينفجر، والحماسة الثورية والرموز اليسارية كانت حاضرة أمامي، لذا قررت ادخال طريق الشعب الى الكلية. ولكن بأية وسيلة وهم يفتشون حتى حقائب الطالبات في الباب؟ ولمعت فكرة ادخال الجريدة في بطانة الجاكيت، وفعلا نزلت في محطة باب المعظم وأخذت الصفحة الاولى من الجريدة فقط لأطويها وأدسها في البطانة.
بالصدفة كانت الجريدة في الجهة اليسرى من الجاكيت وتغطي القلب، وفي الطريق الى الكلية كنت اتحسسها بين الفينة والاخرى وكانت تتسلل الى يدي نبضات قلبي شبه المستقرة.
كانت مفاجأة للجميع ان أفتح الصفحة الأولى وأنظر الى قطعان البعث والاتحاد الوطني (الطلابي البعثي) وهم ينظرون بنظرات خائبة يملؤها الحقد.
لا أتذكر الوقت الذي استغرقه الهدوء الذي سبق العاصفة. رأيت خمسة من مفتولي العضلات يحيطون بي ويحاولون سحب الجريدة مني، ولكني تمسكت بها ثم فقدت الوعي، لأجد نفسي في غرفة الأتحاد الوطني وزمرة سكرتاريته تحيط بي. أحدهم يقدم لي كأس ماء لأشربه والاخر يحاول غسل وجهي ورئيسهم يقدم لي سيكارة وكوب شاي، طبعا رفضتها جميعا.
طرق شديد على باب الغرفة المقفولة ما اضطرهم الى فتحها. نهضت لأخرج مسرعا رغم آلامي المبرحة لأجد حشدا كبيرا من الطلاب والطالبات في باب الغرفة لا أعرف أغلبهم، واخترق الصفوف رفيقي الشهيد ضرغام موسى، ليحتضنني ويطلب مني الخروج معه من الكلية بسرعة.
كنت أتحسس جسمي، وعندما وصلت الى فروة الرأس لم أجد جزءا كبيرا من الشعر.
الشهيد ضرغام يصف لي ما حدث كشاهد عيان، اذ تم ضربي بشدة على رأسي من الخلف فأغمي عليَ، ثم سحلوني من شعري الى غرفة الأتحاد. وقد تبرعت صديقة سكرتير الأتحاد لتبرر ان ما حدث رد فعل على تحرشي بها، فوجدت من يتصدى لها وأمام الطلبة ليجعلها تنزوي بعيدا، والذين كانوا يطرقون الباب هم طلبة مستقلون في أغلبهم جاءوا لإخراجي .
كان اللقاء مثيرا مع احد الرفاق الذي قابلنا في مقر اللجنة المركزية، فبعد اللوم على تصرفي ورد فعل أقوى تملكني، ذهب هذا الرفيق ليغيب في البناية لوقت ليس بقصير طالبا منَا الانتظار.
عاد الرفيق ليبلغني بضرورة استمراري في الدوام في اليوم الثاني وتخويلي حرية التصرف بإدخال الجريدة او عدمها، مع الظهور بأفضل مظهر ممكن من الأناقة. كما طلب مني تقديم شكوى مكتوبة الى الجبهة الوطنية وسكرتير الأتحاد الوطني (محمد دبدب)، وفي الوقت نفسه طلب من ضرغام اصطحابي الى الرفيق الشهيد الدكتور قتيبة الشيخ نوري لفحصي.
في الصباح التالي كنت متهيئا للذهاب الى الجبهة الوطنية وهناك استفسر أحدهم عن سبب الزيارة، وعندها قادني الى غرفة الرفيق الشهيد .
استقبلني الشهيد بدماثته المعهودة، ووعد بأجراء تحقيق وكلانا لم يكشف عن علاقة اجتماعية تربطنا. ثم ذهبت الى الكلية القريبة من مقر الجبهة لأدخلها وانا متأبط طريق الشعب مع اللفيكس ( اللفيكس هو حاوية اوراق كان يستخدمها طلاب الجامعات). ودخلت الكلية بسلام وكالعادة جلست في النادي وفتحت الجريدة لأقرأها كاملة هذه المرة وانا أشعر ان طريق الشعب قد انتصرت على الفاشست، وكما تعودت تركتها على الطاولة ليقرأها غيري من الطلاب.
بشائر انتصار طريق الشعب جاءت في نفس اليوم الذي تم فيه الأعتداء. ففي ذلك اليوم عدت الى البيت متأخرا لأجد العائلة تنتظرني على أحر من الجمر بقلق شديد، فقد سبقتني شقيقتي في العودة مبكرة من كلية الزراعة لتخبر العائلة عمَا حدث أذ كانت هناك اتصالات هاتفية بين سكرتاريات الاتحاد الوطني حول الموضوع. وطبعا بحكم كونها عضوة في سكرتارية كليتها علمت بالخبر، ثم شقيقي الذي كان في مقر الحزب آنذاك وأخبر بالحدث وكان رد فعله مشابه لرد فعلي على الاتهامات التي وجهت لي، ليجد الحدث في اليوم التالي يتداوله طلبة الجامعة المستنصرية.
بعد انتهاء الدوام في الكلية في اليوم التالي، ذهبت الى مقر سكرتارية الإتحاد الوطني التي كانت قريبة ايضا من كليتنا، بعد ان تجاوزت عقبة الاستعلامات أجلسوني في قاعة في الطابق الثالث بأنتظار مقابلة السكرتير ( محمد دبدب )، وبعد مضي اكثر من ساعة عشت فيها في أجواء شبيهة بأجواء مقرات الأمن سيئة الصيت.
وضعت الشكوى أمام ( دبدب )، طبعا لم يقرأها ودخل في حوار مباشر معي : انت شيوعي ولدينا تقارير موثقة عن نشاطك، فأنكرت ذلك وطلبت منه ان يقابلني بأي شخص او وثيقة تدينني، فتخلى عن ذلك الموقف ليساومني : بمجرد انتمائك إلى الاتحاد الوطني لما تبقى من السنة اوقع لك الان على وثيقة لبعثة الى أية دولة تختار لدراسة الهندسة التي أعلم انها رغبتك. حضرت أمامي في تلك اللحظة كل المساومات التي جرت مع الرفاق الخالدين : فهد وسلام عادل وآخرين لتسقيطهم مقابل العفو عنهم، ووجدت ان هذه المساومة رخيصة جدا خصوصا ان حياتي في تلك اللحظة لي?ت في خطر، وطبعا كان ردي الرفض مهما كانت المغريات.
المواجهة الأخيرة كانت مع مسؤولي الحزبي في الكرخ المركز. فبعد اجتماع عاصف أدانني بخرق توجيهات الحزب ولكني كنت متمسكا بصحة موقفي، وحينذاك ابلغني بتجميد عضويتي. لم يفتني سوى اجتماع واحد لمنظمتي، اذ اتصل بي رفيق جديد ليبلغني بألغاء التجميد وضرورة حضوري الأجتماع القادم.
كان الأتصال الهاتفي من مسؤولي الجديد الأنتصار النهائي لطريق الشعب الذي يجب أن يُهدى الى الحزب وكوادر جريدته، والى الطلبة المستقلين والرفاق الذين آزروني في ذلك الموقف وخصوصا الرفيق الشهيد ضرغام موسى.