مدارات

"يهود العراق والمواطنة المنتزعة" للدكتوركاظم حبيب / جمال العتابي

الدكتور كاظم حبيب ،أحد أعلام العراق في العصر الحديث، ذاع إسمه وانتشر في الأوساط العلمية والأكاديمية ، والمحافل الأدبية والفكرية ، له إجتهاداته وكتبه التي فتحت آفاقا رحبة في ميدان إختصاصه ، ومواقفه المثيرة للجدل ، فضلا عن تاريخه السياسي والنضالي . أحاط بهذا الميدان المترامي الأ طراف، لأن الأنسان ,على وفق رؤاه ، قوة عظيمة قادرة على بناء الحياة والتغيير.
عُرف حبيب بموسوعيته المعرفية ، تسعفه ذاكرته الحادة الممتدة في كل ضرب من ضروبها ، واشتهُر إقتصاديا، يعنى بدقائق هذا الإختصاص،بمنهج علمي رصين امتاز بالدقة والرصانة والسمو فوق العواطف والأهواء .صدر له أكثر من 30 كتابا وكراساً في الفكر والإقتصاد والسياسة والإجتماع ، والكثير من الدراسات والمقالات المتنوعة. ومن كتبه : العولمة من منظور مختلف بجزءين، الإستبداد والقسوة في العراق ـالفاشية التابعة في العراق ، لمحات من عراق القرن العشرين في أحد عشر مجلداً ، ولهذا الثراء ، أدعو الباحثين إلى دراسة شخصيته وآثاره العلمية ، ومنهجه واسلوبه وجمع المادة التي كتبها في العديد من وسائل النشر، وفيض مقالاته ومحاضراته التي تستحق العناية والتتبع .
أما كتابه الذي صدر مؤخرا عن دار المتوسط ( يهود العراق والمواطنة المنتزعة ) ، فيعد واحداً من أهم الإنجازات الفكرية التي قدمها كاظم حبيب ، إذ جاء بصفحاته الثماني مائة غنياً بمادته التاريخية والفكرية، الموثقة بمئات المصادر العربية والأجنبية والوثائق السياسية ، فضلا عن الشهادات الحيّة لعشرات من اليهود، والأرقام والإستبيانات ، معزّزة بالصور والبيانات الرسمية ، والقوانين الصادرة عن الحكومة العراقية ، عبر مراحل تطورها منذ تشكيل الدولة العراقية في بداية عشرينيات القرن الماضي .
إن الجهد الإستثنائي والمميز لكاظم حبيب في هذا السفر الخالد يجعل من كتابه هذا أحد أهم المراجع في دراسة تاريخ اليهود في العراق ، إلى جانب العديد من الدراسات لكتّاب آخرين ، ويشكل إضافة غنية صححت الكثير من المفاهيم ، وأزاحت الالتباسات والتابوات في هذا الميدان ، كما فنّدت الآراء الخاطئة في محاولات أخرى تناولت (إشكالية) يهود العراق ، على وفق منطلقات متعصبة ضيقة ومحدودة الأفق ، وما رافقها من مزاعم وتشويه طوال العقود الماضية ، وألقت الضوء على الحقائق بنظرة علمية محايدة .
توزع الكتاب على تسعة عشر فصلاً ، بجزءين وخمسة عشر ملحقا ، متتبعاً فيها بدايات وجود اليهود في العراق ، وتطور أعداد نفوسهم بين أعوام 1794 ــ1954 ، ثم تناول مدارسهم في العراق ، والبنية الإجتماعية لهم ، ودور المثقفين اليهود في الحياة الثقافية العراقية ، وقدم نماذج متقدمة من مثقفيهم وكُتابهم المهجرين قسراً، أو النازحين إلى إسرائيل وبلدان العالم الأخرى ، وتقصّى في مجالسهم الإجتماعية ودورهم في الموسيقى والغناء ، وقدّم معلومات جديدة عن النشاط الصهيوني في العراق ، عبر فصول شغلت حيزا واسعا من الدراسة ، ومواقفهم السياسية من النظام الملكي ، وموقف القوى السياسية الأخرى منهم ، القومية واليسارية على حد سواء ، وخصّص أكثر من فصل لحركة شباط ــ مايس 1941 الإنقلابية ، و( الفرهود) ، وموجات العداء الموجّه ضد وجودهم ، وأفرد لمواقف الحزب الشيوعي العراقي إزاء القضية الفلسطينية ويهود العراق فصلا كاملا، إتسم بغزارة المعلومة ، وملامستها الواقع الذي عايشه المؤلف ، وحيويتها إعتمادا على الجذر الفكري والسياسي الذي ينتمي اليه الكاتب ، مزيلا العديد من الشكوك والاتهامات التي رافقت هذه المواقف حينذاك .وتابع المؤلف أوضاع يهود العراق في الفترة بين 1963 ــ2003 ، وفي الجزء الثاني ، الأهم في الدراسة ، فإنه أعتمد على إستطلاع الآراء لمجموعة من يهود العراق في إسرائيل ، وممن أسقطت عنهم الجنسية العراقية ، وآراء عراقيين من غير اليهود ، معتمداً على منهج الإستبيان ، بالمراسلة وباللقاء المباشر ، ثم عرَّج على تحليل مضامينها ، والتوصل إلى حقائق مذهلة في النتائج .
إن أهمية الجزء الثاني تكمن في مخاطبة الجانب الأعمق والأدَّل في الإنسان :ذاكرته ، ومسارنا الأهم ، إذ نكتشف في هذه الذاكرة معلومات جديدة نرى فيها أنفسنا والآخرين ، حتى نتبين الإتجاه السليم في البحث عبر العقل والإحساس والمعايشة الحية ، ذلك ان التاريخ كما نفهمه ليس رفوفا مرصوفة بالكتب ، بل نباهة المعاينة ، لذا جاءت الشهادات دقيقة في تأثيرها، وعميقة في أبعادها .
إن من يتولى التصدي لأحداث التاريخ ، لابد من أن يتحلى بأفضل الصفات الذاتية والموضوعية ، وأن يكون على درجة عالية من الوعي والإنفتاح ، ومقدرة فائقة على تحمل المسؤولية ، وخزين تجاربه الإبداعية وأصالتها .لقد يسّر لنا الدكتور حبيب الإطلاع على إجابات عدد من المبدعين الذين تركوا بصماتهم في حياتنا الثقافية والسياسية ، وتدفقت في شهاداتهم الصورة التي لم تفارق مخيلتهم ، صورة العراق الوطن ، البيت ، الأزقة ، أحياء بغداد ومدارسها ومقاهيها ، صورة العنف والقسوة ..لمحات وومضات، فيها فيض من الحنين ، وعذابات التهجير وحرق المنازل ، والفرهود .
إن واحدة من أعقد الإشكاليات التي واجهت المجتمع العراقي ، هي ( إشكالية الهوية العراقية) وقضية المواطنة ، إذ تعرضت الى التجزئة والتهميش والتخريب مثلما تهدمت الهموم الكبرى لدى الفرد والمجتمع والدولة ، وتعقّد الخلاف حولها ، ولعل اخطر النتائج التي تمخضت عن إلغاء الهوية ، تلك التي هددت أسس وبنية الوجود الفعلي للدولة والمجتمع،وخرجت عن منطق التاريخ ، وإزدادت تعقيدا حينما كانت السلطة السياسية تمثل أيديولوحيا عنصرية وشوفينية متعصبة ، لاتحترم القوميات والأقليات والطوائف والأديان وتنسف وجودها .
إن حقيقة العراق في التاريخ المعاصر ، بإستثناء فترة الجمهورية الأولى بعد 58 ، تشير الى انه لم يكن تجمعا للأعراق ، بل ناف لها ، وهو ما أثبتته الوقائع التاريخية عبر مراحل كثيرة من الزمن، وإستفحال النزعة القومية المتطرفة والعنصرية لدى الحركات السياسية القومية العربية ، والتي إتسمت بمواقف تراوحت بين العداء الصريح والكراهية المستترة .
إن الوفاء للمواطنة هوأحد الدوافع التي حفزت كاظم حبيب على التحري والتنقيب في العمق ، وفاء لمواطنات ومواطنين عاشوا مع بقية سكان هذه المنطقة من العالم ، سكان وادي الرافدين وكردستان ،قرونا عديدة ، ثم هاجروا ، وهجّرواعن بلادهم ، وحزنا عليهم لأنهم نزحوا الى غير رجعة . أكثر من 118 ألف إنسان عراقي تقريبا هجّر أغلبهم قسرا ، وتوصل الباحث إلى حقائق وأسباب مهمة تقف وراء هذا الفعل ،إذ يؤكد أن القوى الرجعية والشوفينية العراقية ، لم تكن وحدها المسؤولة عن هذه العملية غير الإنسانية ، وجريمة إسقاط الجنسية العراقية ، بل شاركت فيها الحكومة البريطانية ، والمنظمات الصهيونية العالمية ، والحكومة الإسرائيلية والموساد الإسرائيلي ، إضافة الى الولايات المتحدة الأمريكية .
إن التوصل إلى مسؤولية هذه الاطراف ليس إدعاء من الكاتب ، كما يذكر ، بل سجّله الكثير من الذين عملوا سنوات طويلة في جهاز الموساد الإسرائيلي في عدد كبير من الكتب التي صدرت خلال العقود الخمسة المنصرمة ، وإستنادا الى المصادر والمقالات الكثيرة التي نشرها كتّاب ومواطنون عراقيون يهود ، هجّروا قسرا في تلك الفترة العصيبة من تاريخ العراق ، كما برّر الكاتب أسباب عجز القوى الوطنية الرافضة للتهجير ، ومنها الحزب الشيوعي العراقي في التصدي لإيقاف تلك الإجراءات ، بأنها تعود الى الظروف العربية والعالمية المعقدة ، والأجواء المرافقة للتقسيم في الفترة بين 48 ــ1952.
إن صيرورة العراق وكينونته تشيران الى ما لايرقى اليه الشك الى التداخل المطلق لتاريخ الأقوام والثقافات والأديان والجغرافيا...وأسهمت هذه العناصر مجتمعة في عملية تشكيل البناء الحضاري ، وهوية المواطنة عبر مراحل التاريخ ، على الرغم من كل المحاولات التي يسوقها البعض بما يتوفر له من (أدلّة) بحاجة الى المزيد من النقاش ، حول تميز أو أحقية هذا العرق أوذاك ، لإثبات التفوق أو نفي الآخر ، أوما تسمى الحقوق التاريخية لهذه القومية أو الدين أو الطائفة ،متناسية المبادىء التي جاءت بها الشرائع السماوية ، وهي تدعو الى العدالة والمساواة بين أبناء البشر .
ليس مأخذاً على القارىء أن يعلن إعجابه بما يقرأ لمادة خصبة وغنية ، وتتوهج ذاكرته بنصوص مضيئة من مصادر المعرفة ، إختلفنا أم إتفقنا عليها ، ودواعي الإعجاب تعود الى أن المؤلف هنا منفتح على الذهنية الإنسانية العراقية بعطائها وإبداعها ، فضلا عن السرد التاريخي والتوثيقي الممتع للأحداث ، فالجزء الثاني من الكتاب حمل جذوة لم تنطفىء في أعماق اولئك الذين قدموا شهادات تقطر حزنا ولوعة على وطن أجبروا على مغادرته ، على الرغم من تعاقب الأجيال والأزمان .تلك الشهادات كانت بهاءً ينطلق من نور الإحتراق نفسه .
إن قراءة أعمال كاظم حبيب ومنجزه الفكري والعلمي تؤكد حقيقة طليعيته بين الكتاب الذين سعوا بإخلاص وصدق وأمانة إلى تثبيت مواقعهم الفكرية ، بعيدا عن أي مناخ يحول دون تقديم كتابة حرة ملتزمة بالإنسان .