مدارات

شيلي.. أربعة عقود على الانقلاب الفاشي / رشيد غويلب

تظاهرة استذكار لضحايا الدكتاتورية

دأبت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية خلال حقبة الحرب الباردة على تنظيم ودعم الانقلابات العسكرية للإطاحة بالنظم الوطنية الديمقراطية، وبالحكومات اليسارية الشرعية المنتخبة في العديد من البلدان، او للحد من اتساع نفوذ وجماهيرية احزاب شيوعية ويسارية في بلدان أخرى. وما تزال ذاكرة الشعوب تحتفظ بصور دموية للانقلاب ضد حكومة مصدق الوطنية في إيران، في 19 آب 1953، وانقلاب 8 شباط الاسود في العراق، ومجزرة الانقلابيين ضد شيوعيي اندنوسيا في عام 1964، الانقلاب الفاشي ضد حكومة الوحدة الشعبية اليسارية المنتخبة في شيلي، بزعامة سلفادور الليندي عام 1973، الذي مرت امس الاربعاء ذكراه الأربعون، ففي الحادي عشر من ايلول 1973 نفذ جنرالات في الجيش الشيلي، بقيادة اغسينو بونشيت انقلابا عسكريا أطاح بحكومة الرئيس الشرعي للبلاد سلفادور الليندي، وادى الى مقتله.
وكان الليندي قد فاز في الرابع من ايلول 1970 بانتخابات الرئاسة، مرشحا عن تحالف الوحدة الشعبية، الذي ضم الحزب الاشتراكي، والحزب الشيوعي، ومنظمات يسارية صغيرة اخرى. وكانت التصريحات التي ادلى بها، بعد اعلان نتائج الانتخابات مباشرة، هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي في الولايات المتحدة في حينه، لا تبعث على الاطمئنان: "انا لا افهم لماذا ينبغي لنا ان لا نفعل شيئا ونحن نرى بلدا، وبسبب عدم مسؤولية شعبه، يصبح شيوعيا. ان القضية اهم من ان تترك لقرار الناخبين الشيليين"، في اشارة منه الى الأهمية التي تتمتع بها شيلي عالميا في مجال انتاج النحاس، الذي كانت تهيمن عليه شركات امريكية، بلغت أرباحها في عام الانتخابات 4.5 مليار دولار.
بعد انتخابه شرع الليندي بتنفيذ برنامج إصلاحات اشتراكية بالضد من مصالح رأس المال الكبير والإقطاعيين. وبدأت الحكومة اليسارية بتأميم حقول انتاج النحاس التي تسيطر عليها الشركات الأمريكية، ومصادرة أراضي الإقطاعيين الكبار. وعملت على رفع أجور العاملين، وتجميد اسعار المواد الاستهلاكية المهمة، وبدأت بتوزيع الحليب على الاطفال، والنساء الحوامل، فضلا عن إعادة العلاقات الدبلوماسية مع كوبا. وكشف السياسيون الأمريكان، الذين يطيب لهم تمثيل دور المدافعين عن الحريات وحقوق الانسان عن وجوههم الحقيقية. لقد عبر عن ذلك السفير الأمريكي السابق في شيلي بوضوح تام: " لا ينبغي ان نسمح بتحقيق شيلي بقيادة الليندي اصغر المكتسبات، ويجب علينا ان نفعل كل ما نستطيع لدفع شيلي والشيليين الى اقصى درجات الحرمان والفقر". وهذا يتلاءم مع ما قامت به وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في خريف عام 1970، عندما قدمت العون والأسلحة لقتلة رئيس أركان الجيش الشيلي رينه شنايدر الموالي للرئيس المنتخب.
وبدأ الانقلاب بقصف القصر الجمهوري في ساعات الصباح الباكر من يوم 11 ايلول 1973. وفي الأيام والأسابيع التي اعقبت ذلك، جرى قتل واعتقال وتعذيب الآلاف من اليساريين والديمقراطيين من أعضاء احزاب التحالف اليساري الحاكم، ومناصري حكومته. وفقد الكثير من هؤلاء حياته بواسطة حفلات الإعدام الجماعية، او التعذيب الوحشي الذي تعرضوا له في العديد من المعتقلات التي انتشرت في العاصمة سانتياغوا، ومدن البلاد الأخرى، وكان اشهرها تحويل ملعب سانتياغوا لكرة القدم الى معتقل جماعي شهد من بين جرائم اخرى استشهاد المغني الشيوعي الشهير فكتور جارا، الذي كان يحث، بواسطة الأغاني الثورية، المعتقلين على المقاومة والصمود. واشارت التقديرات الى ان عدد ضحايا وصل الى 30 الف من الرجال والنساء والأطفال.
بعدها بدأ الانقلابيون إلغاء قرارات التأميم، وإعادة الاراضي الى الإقطاعيين. وباشر البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والحكومة الأمريكية تقديم القروض السخية لسلطة الانقلاب.
وعمت العالم حركة احتجاجات واسعة، حملات تضامن غير مسبوقة، وشكلت في العديد من البلدان لجان للتضامن مع الشعب الشيلي. ولا يزال الكثيرون منا يتذكرون النشاطات العديدة والمتنوعة التي نظمها الشيوعيون والديمقراطيون العراقيون، تضامنا مع الشعب الشيلي في بغداد وعدد من المحافظات العراقية. ولا تزال الذاكرة عامرة بالعديد من القصائد والأغاني التي أنشدتْ تضامناً مع ضحايا الانقلاب.
تظاهرة لاستذكار ضحايا الانقلاب
شهدت العاصمة الشيلية سانتياغو الاحد الفائت تظاهرة كبيرة ساهم فيها اكثر من 60 ألفا لاستذكار ضحايا الانقلاب الفاشي. وقد واجهت قوات الشرطة العسكرية جموع المتظاهرين المتجهين الى المقبرة الرئيسية في المدينة، حيث قبور أعداد هائلة من الضحايا، واجهتم بخراطيم المياه والغازات المسيلة للدموع. وقامت الشرطة باعتقال 220 متظاهراً.
وقبيل الذكرى الأربعين للانقلاب قدمت جمعية القضاة الشيليين الاعتذار لذوي الضحايا لتعاون القضاء مع سلطة الانقلاب طيلة سنوات حكمها التي استمرت سبعة عشر عاما. وجاء في البيان الصادر بهذا الخصوص: " انه اعتذار متأخر، ولكن قد حان الوقت لطلب الصفح من الضحايا وعوائلهم، ومن المجتمع الشيلي". وأضاف "لقد تخلى القضاء، وخصوصا المحكمة العليا عن مهمتها الأولى في الدفاع عن الحقوق الأساسية للضحايا في مواجهة السلطة". ومن الجدير بالذكر ان المحكمة العليا ردت 9000 قضية لذوي الضحايا انصياعا لضغوطات سلطة الانقلاب.
وتمر الذكرى الأربعون هذه السنة خلال حملة الانتخابات الرئاسية، التي ستجري في السابع عشر من تشرين الثاني المقبل. وتبدو فرص فوز مشيل باشيليه مرشحة تحالف "أكثرية جديدة"، الذي يشارك فيه الحزب الشيوعي الشيلي، الى جانب قوى عديدة من الوسط واليسار. قوية جدا.