مدارات

قد يكون الشرف في آخر درك أحيانا / عدنان منشد

جميلة هي الطرفة التي أطلقها الباحث والمترجم المعروف كاظم سعد الدين في ختام الاحتفالية الخاصة بمنجزه الأدبي العريض خلال أكثر من نصف قرن من خلال منبر ملتقى الخميس الابداعي المنصرم في الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق .
خلاصة هذه الطرفة, ان عباس الكرادي , هو أحد معارف هذا الأديب, ومن الساكنين في منطقة الكرادة الشرقية ببغداد , الى جواره. وكان شابا جاهلا في أربعينيات القرن الماضي , يسعى في مناكب الأرض لكسب الرزق عن طريق البساتين الغناء في محلة ( الجادرية). فتراه يتسلق النخيل حينا , ويتوثب أشجار التين والرمان أو السدر حينا آخر , أو يلتقط ما تجود به ضفاف السواقي من خضار وأعشاب. كان عباس الكرادي يعبد الله بالفطرة, حتى ولو لم يسجد أو يقرأ القرآن , أو يعرف أحكام الصيام والحج. هو من أهالي الكرادة الشرقية البسطاء الذين يرضون بالقليل من الزاد , ويخافون سطوة الحكام والشرطة الملكيين. وكان يطيب له في نهاية النهار أن يلقي بنفسه في نهر دجلة مستمتعا بجذل السباحة , ومتحررا من أدران نفسه وعفونة جسده , من دون أن يتوقع أن القدر سيكون له بالمرصاد , وأن الفأس ستقع في الرأس .
أللهم اشهد أنني أتحدث بطرفة الأديب سعد الدين, من دون رتوش أو تنميق أو بهارات أدبية مخلة بسياق طرفته.
وحينما حدث المكنون في سياق خدمة العلم الاجبارية لعباس الكرادي في ذلك الزمن , لم يجد ( أبو خضير) الكرادي في نفسه هوى للامتثال الى قواعد الخدمة العسكرية ومتطلباتها طيلة شهر كامل , لم تكن حصيلة رزقه فيه سوى ( 600 ) فلس , أو ( بيزة ) كما كان يطلق العراقيون على أحقر عملة وطنية وقتذاك . فما كان منه, بعد أول اجازة شهرية له من معسكر الهنيدي العتيق (معسكر الرشيد المعروف ) الا أن يسعى للبحث في داره عن قطعة قماش (بقجة) ليضع فيها بدلته العسكرية وخوذته وبسطاله, ثم ليجعل من البقجة ( صرة ) مؤتمنة بأيدي والدته العجوز , لتذهب بها الى قائد المعسكر المذكور , قائلة له : هذه أمانتكم ردت اليكم , ابني لا يطيق العمل معكم يا ناس . فابني هواه المستمر بساتين الجادرية, والسباحة في شط دجلة.
هنا استشاط القائد العسكري غضبا , وقال للأم العجوز: والشرف , والضبط والربط والالتزام ؟! فأجابته بهدوء : تجدونها في البسطال.
تكررت ذات الحكاية كما يقول الأستاذ كاظم سعد الدين - في عام 1963حينما تطوع خضير بن عباس الكرادي في صفوف الحرس القومي العفلقي شهرين أو ثلاثة. فما كان من جدته الكريمة الا أن تجمع بقجة أبيه القديمة, وتجمع السلاح والشارة البليدة البيضاء التي تحمل اختصارا ( ح/ق ) مع سلاح بور سعيد الخفيف والبسطال, لتضعها بين أيدي (نزار الونداوي) القائد العام للحرس القومي, لأن الابن دائما على سر أبيه , فصرخ الونداوي بوجهها : وأين الشرف والعقيدة والوحدة والاشتراكية والقومية؟!
قالت له العجوز ببساطة: تجدونها في البسطال.