مدارات

لمناسبة إقامة نصب للعلامة إبن خلدون في موسكو: أبن خلدون وقوانين جدلية التاريخ / د. زهــدي الــداوودي

رغم كثرة الدراسات وظهور عدد كبير من الكتب والمقالات في البلاد العربية والأجنبية حول أبن خلدون (1332 – 1406) وفلسفته في التاريخ وعلم الاجتماع ومنطقه وفكره الأخلاقي والاقتصادي والسياسي، فإن جانبا مهما من اكتشافاته لم يزل مجهولا ولم يسلط عليه الضوء الكافي، وما زال بحاجة إلى دراسة علمية دقيقة. هذا رغم الاحترام الكبير للأعمال القيمة التي صدرت حول "المقدمة".
إن ما نريد قوله هنا بلا مبالغة ودون تحيز، وإنما إنصافا للحقيقة والتاريخ هو أسبقية أبن خلدون للفيلسوف الألماني جيورج فيلهيلم فريدريك هيجل في اتخاذ قوانين جدلية التاريخ منهجا في تفسير التطور التاريخي للمجتمعات الإنسانية.
كان أبن خلدون على وعي تام لما أكتشفه من الأشياء الجديدة التي لم يسبق لأحد من قبله أن تطرق إليها (1). وإذا كانت جدلية هيجل مبنية على المثالية، فإن تحليل أبن خلدون للتطورات التاريخية والمجتمع، لا يعتمد على أفكار مسبقة أو على تصورات مثالية غيبية، فمحتوى "المقدمة" هو نتيجة دراسة عميقة لمختلف الدول التي تكونت بالفعل في بلاد المغرب، إذ أن أبن خلدون ينطلق من واقعه الملموس ويتتبع أحداثه ولا يعممها إلا بصفة محكمة ودقيقة، وبهذا نراه يبتعد عن العيبين الدارجين عند المؤلفين الذين سبقوه:
1- عيب التصورات الغيبية.
2- عيب الاقتصار على الوقائع الجزئية.
ويظهر فضل أبن خلدون في ناحيتين:
الأولى: في تمييزه بين التاريخ كعلم وبين فلسفة التاريخ.
الثانية: في تساؤله الدائب عن العلل والأسباب للحوادث والوقائع.

إن النظرة الشمولية عند أبن خلدون، والتي تتضمن طبائع الموجودات، وقواعد السياسة وطبيعة العمران ودور العمل في تطور المجتمع الإنساني والأحوال في المجتمع ودور الاقتصاد والبيئة الجغرافية، والانتقال من حال إلى حال. كل تلك التفرعات المجتمعة في تشكيلة موحدة لا يمكن تفسيرها إلا في ضوء الجدل الذي يحرك باطن أحداث التاريخ.
(2)
ورغم أن تصور أبن خلدون للجدل لم يكن واضحا مثل هيجل، بسبب عصره، فهذا لا ينفي كون أبن خلدون هو أول من اكتشف قوانين الجدل.(3)
لم يعطنا أبن خلدون تعاريف قانونية لما اكتشفه من قوانين الجدل، بيد أنه سبر كنه هذه القوانين وشرحها من الداخل، ليس بصورة تأملية مجردة، بل كمراقب ومعايش ومؤرخ سياسي ومنظر نشط، تفاعل مع الأحداث الملتهبة وعاصر مختلف تقلباتها، وشاهد بأم عينيه الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والتحولات الجارية في المجتمعات المحيطة به. ومما يدل على عبقريته النفاذة، انه بآرائه الجديدة والسابقة لعصره قد اصطدم بحاجز اللغة التي طورها من حيث يدري أو لا يدري وذلك كانعكاس لقانون التأثير المتبادل بين الشكل والمضمون. ومما يؤسف له حقا أن يتهمه البعض في عصرنا، ممن لم يعرفوا قيمته، بالركاكة في الأسلوب.
وقبل أن نتطرق إلى الأطر التي أكتشف أبن خلدون من خلالها قوانين الجدل، ينبغي أن نتعرف على جوهر هذه القوانين. فما هي هذه القوانين؟
إنها انعكاسات للعمليات الموضوعية السارية في الطبيعة والمجتمع، ونعتبرها موضوعية، لأنها انعكاسات لعمليات واقعية، وهي:
1- توجد مستقلة عن إرادة الناس.
2- إنها موجودة بغض النظر ما إذا كان الناس يفهمونها أم لا يفهمونها.

إن انعكاسات العمليات السارية في الجوهر الحقيقي للأشياء، هي وحدها التي يمكن أن تصبح قانونا. كما أن مجرد انعكاس العمليات المختلفة لا يعد قانونا، فالانعكاس الملائم للعمليات التي تتكرر بانتظام في الطبيعة والمجتمع هو وحده الذي يمكن أن يصبح قانونا.
إن أكثر القوانين عمومية هي القوانين الأساسية للجدل واستلت من تاريخ الطبيعة والمجتمع البشري. ويمكن إيجازها أساسا في ثلاثة قوانين:
1- قانون تحول الكم إلى الكيف والعكس بالعكس.
2- قانون وحدة الأضداد.
3- قانون نقض النقيض.

إن الجدل بالمعنى الدقيق هو دراسة التناقض في جوهر الأشياء نفسها. إن أية حركة اجتماعية ومن ثم كل القوانين الاجتماعية أيضا، إنما هي نتيجة لنشاط بشري، والبشر هم المنتجات الأكثر تعقيدا وتمايزا للطبيعة والمجتمع ولا يتناقض ذلك مع الفرضية الأساسية للجدل، وهي أن القوانين الاجتماعية جميعا ذات طبيعة موضوعية، مستقلة عن إرادة الناس. الواضح أنه إذا لم يكن هناك بشر ولم يشكلوا مجموعات وطبقات ولم يكن هناك صراع بين الظالمين والمظلومين، لما وجد التاريخ، ولما وجدت قوانين اجتماعية. إن القوانين الاجتماعية هي نتيجة للنشاط البشري، ولكنها ليست أفعال الإرادة الواعية.

إن النشاط البشري الذي يعبر عنه فكر أبن خلدون بالعمران هو أساس وجود الإنسان وحضارته ويلعب عنده دورا حاسما في تطور المجتمع.
وينبغي أن ننتبه إلى تكرار كلمة "العمران"، وكيف جعلها أبن خلدون أساس الفضيلة الأخلاقية للمجتمع، والى تكرار كلمة "الخراب" وجعلها أساس النقيض الأخلاقي له. فليس هناك عند أبن خلدون مقياسا آخر للخير غير مقياس العمران، ولا مقياس للرذيلة غير الخراب.
"فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران وانتقضت الأحوال وابذعر الناس في الآفاق من غير تلك الإيالة في طلب الرزق فيما خرج عن نطاقها فخف ساكن القطر وخلت دياره وخرجت أمصاره واختل باختلاله حال الدولة والسلطان لما أنها صورة للعمران تفسد بفساد مادتها ضرورة"(4)
إن التأكيد على وحدة الطبيعة البشرية وتبدل الأحوال بتبدل الأمصار ودور العمل في بناء الحضارة، لا يمكن تفسيره إلا عبر منهج علمي دقيق. وإذا كانت استنتاجاته الشمولية تدل على مقدرة فائقة على التعليل والتعميم، فإن ديناميكية التاريخ وحركته وفقا للجدل، إنما تدل على بصيرة نافذة استطاع بها أن يستشف باطن التاريخ والمحرك الفعلي لأحداثه. (5)
وهل يمكن لمن لم يهتد بهذا الشكل أو ذاك إلى قوانين الجدل أن يتعمق في تحليل الأحداث المتشعبة بهذا الأسلوب الشمولي الجدلي؟
وكمدخل لاكتشاف قوانين الجدل الموضوعية، نرى أبن خلدون يعتمد على التحليل والاستنتاج والتوصل إلى الأسباب الحقيقية لوقوع الأحداث التاريخية دون التحول الى مجرد راو للوقائع، وهو إذ يتناول أحوال الدولة في ديمومتها وديناميكيتها وتقسيمه لتطور الدول والحضارات إلى ثلاثة أطوار: البداوة، التحضر، التدهور؛ إنما فعل ذلك انطلاقا من فهمه لقانون الحركة المطلقة والتطور من البسيط إلى المعقد، والذي ينطبق عليه قانون تحول الكم إلى الكيف، (التراكم الكمي يؤدي إلى التغير النوعي).
إن نظرية الأطوار الثلاثة عند أبن خلدون يمكن أن تكون أساسا لنظرية المراحل التالية:
المجتمع البدائي، المجتمع الطبقي الأول والعبودية، الإقطاع، الرأسمالية. إن كل تشكيلة من هذه التشكيلات الاقتصادية والاجتماعية قد مرت بهذا القدر أو ذلك بنظرية الأطوار الثلاثة. ولعبت إنتاجية العمل، التي يسميها أبن خلدون "العمران" أو "المعاش" دورا حاسما في تطور هذا المجتمع وتخلف ذاك.
وينتقد أبن خلدون أسلافه من المؤرخين لجهلهم بالطبيعة البشرية وطبيعة المجتمعات أو الجهل بطبائع الأحوال في العمران. وأنه كان يبغي لتحاشي هذه الأغلاط الاضطلاع بصنائع الموجودات وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في المجتمع الإنساني. إنه مع تسليمه بذلك يرى أنه:"من الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام وهو داء دوى شديد الخفاء إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال".(6)
أما النقد الذي يوجهه أبن خلدون إلى المؤرخين العرب والمسلمين الذين سبقوه، وهو نقد يمكن تعميمه، إلى حد ما، على كل المؤلفات التاريخية منذ عهد هيرودوت إلى القرن التاسع عشر في الغرب، فيتمثل في عدم معرفتهم بالعلاقات العضوية بين وقائع التاريخ السياسي والعسكري من جهة وبين وقائع التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من جهة أخرى. وهذا ما يطلق عليه أبن خلدون "المعرفة بالعمران"، فهو يرى أسباب أخطاء المؤرخين في جهلهم بالهياكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وتتبع تغيرها وتطورها.
ولهذا "يحتاج صاحب هذا الفن إلى العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال والإحاطة بالحاضر من ذلك ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من الخلاف وتعليل المتفق منها والمختلف والقيام على أصول الدول والملل ومبادئ ظهورها وأسباب حدوثها ودواعي كونها وأحوال القائمين بها وأخبارهم" (7)

وينبه أبن خلدون إن هذا الانتقال لا يجري اعتباطا وإنما كنتيجة لتبلور الطبقة الارستقراطية الحاكمة وإيغالها في اضطهاد الشعب، بعد أن كانت تعتمد العلاقات الأبوية في بداية نشوئها. كما وأن الصراع التناحري لا يتعمق بين الشعب وحكامه حسب، بل ينتقل إلى مستوى أعلى، إلى داخل الطبقة الحاكمة نفسها.
وينبغي أن نلاحظ هنا الدور الحاسم للعامل الاقتصادي في تصعيد هذا الصراع الذي نستنبط منه قانون نقض النقيض "ثم إذا أخذت الدولة في الهرم بتلاشي العصبية وفناء القليل المعاهدين للدولة احتاج صاحب الأمر حينئذ إلى الأعوان والأنصار لكثرة الخوارج والمنازعين والثوار وتوهم الانتقاض فصار خراجه لظهرائه وأعوانه وهم أرباب السيوف وأهل العصبيات وانفق خزائنه وحاصله في مهمات الدولة وقلت مع ذلك الجباية لما قدمناه من كثرة العطاء والإنفاق فيقل الخراج وتشتد حاجة الدولة إلى المال فيتقلص ظل النعمة والترف عن الخواص والحجاب والكتاب بتقلص الجاه عنهم وضيق نطاقه على صاحب الدولة ثم تشتد حاجة صاحب الدولة إلى المال وتنفق أبناء البطانة والحاشية ما تأثله آباؤهم من الأموال في غير سبيلها من إعانة صاحب الدولة ويقبلون على غير ما كان عليه آباؤهم وسلفهم من المناصحة ويرى صاحب الدولة أنه أحق بتلك الأموال التي اكتسبت في دولة سلفه وبجاههم فيصطلمها وينتزعها منهم لنفسه شيئا فشيئا وواحدا بعد واحد على نسبة رتبهم وتنكر الدولة لهم ويعود وبال ذلك على الدولة بفناء حاشيتها ورجالاتها وأهل الثروة والنعمة من بطانتها ويتقوض بذلك كثيرا من مباني المجد بعد أن يدعمه أهله ويرفعوه"(8)

إن ديناميكية الحركة من البسيط إلى المعقد وتدرج المجتمعات إلى مراتب تطور أعلى فأعلى مسالة واضحة عند أبن خلدون. وهو يجمع خلال ذلك قانوني نقض النقيض وصراع المتناقضات، فبالنسبة للقانون الأول يكون عامل قيام الحضارة هو نفسه عامل تدهورها وفنائها. العصبية أساس قوة القبيلة ولا تكون الرياسة إلا في أهل أقوى العصائب وأن العصبية تهدف إلى الملك وتنقل المجتمع من البداوة إلى التحضر(9). ومن ثم تصبح العصبية نفسها نقيض السلطان وعامل سقوطه.
إن معظم المؤرخين الأوروبيين الذين تناولوا أسباب سقوط الامبراطورية الرومانية وظهور الممالك الجرمانية ومن ثم الانتقال من المجتمعين البدائي والرق إلى الإقطاع، يؤكدون بالدرجة الأولى على هذه النظرية في تحليلهم لسر قوة القبائل الجرمانية التي كان أساسها العصبية القبلية واتحاد القبائل؛ هذا بالإضافة إلى تطبيق نظرية "الأطوار" في دراسة تاريخ العالم وتحليل تطور وانحلال الدول والحضارات.
وهنا نجد أبن خلدون يجسد لنا بكل وضوح قانوني نقض النقيض وتحول الكم إلى الكيف، أي انتقال المجتمع من تشكيلة اقتصادية اجتماعية معينة إلى أخرى أعلى منها. ولعل أحسن تجسيد لذلك هو كلامه:"إن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع". وهاهو هيجل يقول بعده أربعة قرون:"الاستعلاء يؤدي إلى السقوط"، فمن الذي يعتبر صاحب الجدل يا ترى؟. وهو إذ يؤكد على موضوعته المذكورة، إنما يدعمها بقوانين وحدة الأضداد وصراع المتناقضات وتحول الكم إلى الكيف.
إن طبيعة الملك تقتضي الترف حيث النزوع إلى رقة الأحوال في المطعم والملبس والفرش والآنية وحيث تشييد المباني الحافلة والمصانع المتسعة والهياكل المرتفعة وحيث إجازة الوفود من أشراف الأمم ووجوه القبائل مع التوسعة في الاعطيات على المصانع والموالي وإدرار الأرزاق على الجند. ويزيد الانغماس في الترف والنعيم لا من جانب السلطان وبطانته فحسب، بل من جانب الرعية أيضا إذ الناس على دين ملوكهم حتى يصل الأمر إلى أن الجباية لا تفي بخراج الدولة. "ويحتاج السلطان إلى ضرب المكوس على أثمان البياعات في الأسواق لإدرار الجباية لما يراه من ترف المدينة الشاهد عليهم بالرفه ولما يحتاج هو إليه من نفقات سلطانه وأرزاق جنده ثم تزيد عوائد الترف فلا تفي بها المكوس وتكون الدولة قد استفحلت في الاستطالة والقهر لمن تحت يدها من الرعايا فتمتد أيديهم إلى جمع المال من أموال الرعايا من مكس أو تجارة أو نقد في بعض الأحوال بشبهة وبغير شبهة ويكون الجند في ذلك الطور قد تجاسر على الدولة بما لحقها من الفشل والهرم في العصبية فتتوقع ذلك منهم وتداوى بسكينة العطايا وكثرة الإنفاق فيهم ولا تجد عن ذلك وليجة وتكون جباة الأموال في الدولة قد عظمت ثروتهم في هذا الطور بكثرة الجباية وكونها بأيديهم وبما اتسع لذلك من جاههم فيتوجه إليهم باحتجان الأموال من الجباية وتفشو السعاية فيهم بعضهم من بعض للمنافسة والحقد فتعمهم النكبات والمصادرات واحدا واحدا إلى أن تذهب ثروتهم وتتلاشى أحوالهم ويفقد ما كان للدولة من الأبهة والجمال بهم وإذا اصطلمت نعمتهم تجاوزتهم الدولة إلى أهل الثروة من الرعايا سواهم ويكون الوهن في هذا الطور قد لحق الشوكة وضعفت عن الإستطالة والقهر فتنصرف سياسة صاحب الدولة حينئذ إلى مداراة الأمور ببذل المال ويراه أرفع من السيف لقلة غنائه فتعظم حاجته إلى الأموال زيادة على النفقات وأرزاق الجند ولا يغني فيما يريد ويعظم الهرم بالدولة ويتجاسر عليها أهل النواحي والدولة تنحل عراها في كل طور من هذه إلى أن تفضي إلى الهلاك وتتعوض من الاستيلاء الكلل فإن قصدها طالب انتزعها من أيدي القائمين بها وإلا بقيت وهي تتلاشى إلى أن تضمحل كالذبال في السراج إذا فني زيته وطفئ.(10)

لا حاجة بنا إلى تحليل ما يقوله أبن خلدون في السطور آنفة الذكر، بيد أن ما يصوره لنا بصورة جلية، الأمر الذي لم يسبقه مؤرخ آخر من معاصريه أو ممن سبقوه، هو ربطه العامل الاقتصادي باستقطاب الطبقات والفئات الاجتماعية، واحتدام الصراع بين الشعب وحكامه مما يؤدي بالتالي إلى انهيار مؤسسة الدولة.
ويؤكد أبن خلدون بأن هذا الانهيار إنما هو مسالة حتمية لا بد منها، كما لو أنه يريد بذلك أن يرينا مدى فهمه لقانون التطور الحتمي الذي أصبح في عصرنا مؤشرا لدراسة علم التاريخ. "وربما يحدث عند آخر الدولة قوة توهم أن الهرم قد ارتفع عنها ويومض ذبالها إيماضة الخمود كما يقع في الذبال المشتعل فانه عند مقاربة انطفائه يومض إيماضة توهم أنها اشتعال وهي انطفاء" (11)
إن المقتطفات التي أخذناها من أبن خلدون لاستنباط قوانين الجدل منها، لهي قطرة من بحر. ولا شك أن دراسة قصيرة لا تفي بالغرض، بيد أن إلقاء الضوء مهما كان ضعيفا، قد يفتح الطريق لدراسة أشمل. ولعل الرجوع إلى "المقدمة" نفسها ودراستها في ضوء منهج علمي دقيق ومقارنتها بالمفهوم العلمي الحديث للتاريخ، يرينا أن أبن خلدون إنما يتربع ليس على قمة التراث العربي الإسلامي حسب، بل العالمي الإنساني أيضا.
-------------------------------------------------------------------------------
هوامش:
1- يقول أبن خلدون بهذا الصدد "وسلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكا غريبا. واخترعته من بين المناحي مذهبا عجيبا. وطريقة مبتدعة وأسلوبا. وشرحت فيه من أحوال العمران والتمدن وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية ما يمتعك بعلل الكوارث وأسبابها..". ( مقدمة ابن خلدون، القاهرة، ص6)
2- قارن، صبحي، أحمد محمود، في فلسفة التاريخ، بيروت (بلا تاريخ)، ص141 .
3- ينبغي ملاحظة الفارق بين عصري كل من أبن خلدون وهيجل سواء من حيث الزمن أو من حيث تطور العلوم والتكنيك، الأول ولد في 1332 والثاني في 1770 .
4- مقدمة أبن خلدون، ص 287.
5- أنظر، في فلسفة التاريخ ص 142 .
6- المقدمة، ص28 .
7- نفس المصدر.
8- مقدمة أبن خلدون، ص 284 .
9- في فلسفة التاريخ، ص 141 .
10- قارن، مقدمة أبن خلدون، ص 297 .
-11 نفس المصدر، ص 294.