مدارات

الاقتصاد السياسي للاصلاح الاقتصادي في العراق 1- 7 د. صالح ياسر

ملاحظات حول مسودة "قانون الاصلاح الاقتصادي الاتحادي"

 

 بيّنت حصيلة الفترة المنصرمة تفاقم التفاوتات الاجتماعية واستمرار تعمق الفرز الطبقي والاستقطاب، وتعاظم التهميش الاجتماعي بشكل بات ينذر بتوترات اجتماعية قد يكون من الصعب السيطرة عليها فيما لو تفجرت التناقضات المكبوتة اليوم بفعل عوامل عديدة، بعضها يقع خارج الاقتصاد طبعاً.

وتشير الحصيلة الملموسة لتراكمات آثار هذه السياسات وتفاقم الاستقطاب إلى أن نمطا جديدا لتوزيع الدخل قد بدأ بالتبلور ويتعمق باستمرار. وقد نجم عن ذلك، بالتبعية، تباينات شديدة تحدث الآن في مستوى معيشة الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية المختلفة طبقا للتغير الذي حدث في مداخيلها وأثّر على مواقعها الاقتصادية. فهذه السياسات أثّرت سلبا على دخول ومستوى معيشة الطبقات الكادحة والفئات الوسطي، في حين أدت – في المقابل- إلى تحسن واضح في دخول بعض الشرائح وخصوصا تلك المرتبطة بالبيروقراطية والطفيلية والكومبرادور.
وبالمقابل لاحظنا خلال الفترة الأخيرة بروز عناصر خطاب اقتصادي تحاول بلورته بعض مراكز صناعة القرار مما يطرح ضرورة التوقف عنده والتعامل معه بروح ناقدة. وثمة جملة من الموضوعات يتكئ عليها هذا الخطاب وربما أولها تلك المتمثلة بـ " ضرورة اجراء اصلاحات هيكلية ". ولا يجادل احد على اهمية وضرورة الاصلاحات الاقتصادية التي تحتاجها البلاد ولكن الخلاف ينبثق عندما يجري الحديث عن مضمون هذا الاصلاح وقواه المحركة والآليات والظروف الملموسة التي يطبق فيها.
وفي لحظة التطور الملموسة التي تمر بها بلادنا فإن تفعيل النمو (طبعا ليس بالاعتماد على تصدير النفط الخام) وتعظيمه ورفع معدلاته إلى مستويات عالية لا بد أن يحكم خيارات التغيير وأهدافه. كما ان الانتقال من الطابع الريعي والأحادي الجانب للاقتصاد العراقي يتطلب تنويع الاقتصاد وتحريره من الاعتماد المفرط على عوائد النفط. وهذا يتطلب التطبيق الفعال لسياسة نفطية متسقة موجهة بإستراتيجية اقتصادية - اجتماعية ورؤية مستقبلية بعيدة المدى تعرف اهدافها جيدا وتمتاز بتناسق داخلي سليم وتعتمد بالاساس على تطوير قطاعات الانتاج المادي.
وبالمقابل، وبنتيجة ما تركته الازمة الاقتصادية العالمية من اثار سلبية، فقد بدأت تظهر وتتنامى تصريحات اطلقها بعض صناع القرار الاقتصادي والسياسي تشير الى ان الامكانيات المحلية محدودة مقارنة بالحاجات الفعلية، ولذا لا بد من فتح الابواب امام الاستثمار الاجنبي فهو الطريق الوحيد في مثل هذه الظروف.
نعود الآن الى موضوعنا الاساسي وهو طبيعة الاصلاح الاقتصادي المطلوب. يبدو ان المشكلة الاساسية المطروحة هنا هي هل ان الحديث يدور حول الاصلاح بشكل عام مستخلص حد الاستنساخ من تجارب اخرى، ام اصلاح ينطلق من الحاجات الفعلية للاقتصاد العراقي في لحظة تطوره الملموسة اليوم؟
هذه هي الاشكالية التي ينبغي تدشين الحوار حولها بعيدا عن اية اشتراطات ايديولوجية مسبقة خاضعة لضغط وصفات الصندوق والبنك الدوليين، والنتائج التي رافقت تطبيقها في بلدان عدة هي نتائج ابسط ما يقال عنها انها مخيبة وتفقأ العين.
ثمة اذن حاجة لطرح العديد من الأسئلة المثارة حول الموضوع، من بينها:
أولاً: لماذا الإصلاح الاقتصادي؟ إلى ماذا يهدف وما هي منطلقاته؟ وما هي القوى الاجتماعية التي يخدم هذا الإصلاح أهدافها في ظروف بلادنا الملموسة؟
ثانياً: ما هي البرامج المتاحة للإصلاح الاقتصادي، وأية خلفية نظرية (فكرية) تحكم هذه البرامج؟
ثالثاً: لماذا التأكيد على دور الدولة والقطاع الخاص والقطاع التعاوني والمختلط في الشأن الاقتصادي؟ وما علاقة الجوانب الاجتماعية بالإصلاح الاقتصادي؟ وهل ان التعددية الاقتصادية هنا هي خيار تكتيكي ام استراتيجي؟
رابعا: تحت أية ظروف داخلية وإقليمية وعالمية يعيش اقتصادنا اليوم ؟ وما هو نوع الإصلاح الاقتصادي المنشود الذي يستجيب لهذه الظروف ويتعاطى مع التحديات المحلية والاقليمية والدولية؟
اعتقد ان هذه الاسئلة هي اسئلة استراتيجية.
العودة للتاريخ مطلوبة
قبل ذلك، لا بد من التذكير بان الحديث عن "الاصلاح" ليس جديدا بل سبقته العديد من التسريبات عن ان حكومة "الشراكة الوطنية" كانت بشان طرح مشروع للاصلاح. وقيل في مناسبات سابقة ان هناك " ورقة للاصلاح " لم تنشر تفاصيلها ابدا ولكن تم تسريب بعض بنودها كبالونات اختبار لقياس مدى ردود الفعل تجاهها. كما صدرت في حينه تصريحات متناقضة من مختلف الكتل النيابية، بين من ينفي وجود مثل هذه الورقة وبين من يشككك بجدية (التحالف الوطني) و (دولة القانون) في القيام بإصلاحات ومشددة على تنفيذ التعهدات والالتزامات التي نص عليها "اتفاق أربيل" الذي تشكلت على اساسه "حكومة الشراكة الوطنية". واتضح لاحقاً انه لا وجود لهذه الورقة، وإنما كانت هناك "افكار وتصورات" مطروحة على الكتل السياسية من قبل (التحالف الوطني)، لمناقشتها وصولا إلى توافقات بشأنها. هكذا وبكل سهولة تنكر المعنيون بـ "الاصلاح" !.
ومن جانب اخر دعى العديد من القوى والاحزاب السياسية إلى الكشف عن "ورقة الاصلاح" ان كانت موجودة فعلا واعلانها للرأي العام، والى الخروج بالمناقشات والمداولات من الحلقة الضيقة لقيادات الكتل المتنفذة الى فضاء اوسع. فمثل هذه " الورقة " تحتاج الى تفكيك لمعرفة مضامينها والنوايا الحقيقية لمعديها وما يقف ورائها من اهداف.
ومن خلال ما تناثر من تصريحات حول "ورقة الاصلاح" العتيدة، يمكن القول ان " الاصلاح " الذي كانت تروج له القوى المتنفذة هو عبارة عن تكتيك يندرج في اطار استراتيجيات هذه القوى للبقاء لاطول فترة ممكنة معاندا رياح التغيير المطلوبة بعد ان عجزت عن ايجاد حلول ومخارج معقولة للازمة البنيوية، بل ادت كل ممارستها الى اعادة انتاج هذه الأزمة والعجز عن التعاطي مع التغيرات العاصفة التي شهدتها البيئة الاقليمية والدولية خلال الاشهر الاخيرة.
قد يتيح هذا النوع من الاستراتيجيات احتواء الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الضرورية، والتكييف مع الضغوط الداخلية والخارجية من اجل التغيير الى حين. كما أن ما يميز هذه " الاصلاحات " هي انها من صنع بعض القوى المتنفذة بدلا من أن تكون محصلة لنقاش وطني واسع بين كل الفاعلين السياسيين والاجتماعيين من دون اقصاء او تهميش.
والمشكلة المثيرة للانتباه هنا هي ان ما يروج له من " اصلاحات " تنطلق مسبقا من فرضية اقتصاد السوق ومن "مسلمة" ان الليبرالية الاقتصادية تؤدي الى ليبرالية سياسية. في حين ان التجربة في العديد من البلدان اثبتت عدم صحة هذه "المسلمة"، حيث لم يؤد "تحرير" الاقتصاد الى تحرير الحقل السياسي وتكريس الديمقراطية، بل افضى الى نكوص سياسي وديمقراطي وتفاقم التناقضات المجتمعية وانفجارها. والمثالان التونسي والمصري يدللان على ذلك حيث كانا يقدمان على انهما نماذج لنجاح " التحرير الاقتصادي " بحسب وصفة صندوق النقد الدولي. اضافة الى ذلك فان " التحرير الاقتصادي " لم يؤد هو الآخر الى بناء اقتصاد سوق على وفق النموذج المطبق في البلدان الراسمالية المتطورة، بل ترتب عليه استفادة شرائح من "شبكات المصالح " من المرتبطين بالنظام الحاكم، حيث استولت هذه المجموعات " راسمالية المحاسيب" على الجزء الاعظم من الثروة الوطنية ونهبها بمختلف الاشكال. كما لم تتمكن العديد من الدول من التخلص من اقتصاد الريع وبناء اقتصاد منتج. بمعنى اخر، ان التحرير السياسي والاقتصادي لا معنى له ان لم يسبقه تغيير في القواعد التي تحكم العملية السياسية.
بعبارة ادق واكثر وضوحا، ان ما ترشح من معلومات عن " الاصلاح " المزعوم يتيح القول انه لا يرتقي الى تطلعات العراقيين على اعتبار ان الامر لا يتعلق بالإصلاح بحد ذاته، بل بمضمونه ومدى قدرته على تغيير الاضاع، وان هذا التغيير يجب ان يكون شاملا وتشارك فيه كل القوى المعنية، من دون أي اقصاء او تهميش.
ولهذا فانه عند تدشين النقاش حول " الإصلاحات الاقتصادية المنشودة "، المناسبة لظروفنا الملموسة، من الضروري التأكيد هنا على القضايا التالية:
• الإصلاح المنشود يجب ان يكون جزء من رؤية إستراتيجية ينبغي أن تحدد أهدافها بوضوح وبعيدا عن أية رطانة.
• الدولة في هذه المرحلة ينبغي ان تلعب دورا متوازنا ومتكاملا مع السوق لا طرفا ثانويا ومهمشا كما يريده صقور الليبرالية الجديدة.
• القطاع الخاص المحلي في العراق وبسبب أوضاعه المعروفة يحتاج ولوقت طويل الى الدولة ودعمها، ومن الخطأ – في ظروفنا الراهنة - طرح الأمور من منطلق أولوية قطاع على حساب آخر بل من خلال الوحدة الجدلية والتأثير المتبادل والاستفادة من كل القطاعات: الحكومي، الخاص، التعاوني، المختلط.. الخ.
• الانتقال من الطابع الريعي والأحادي الجانب للاقتصاد العراقي الى تنويع الاقتصاد وتحريره من الاعتماد المفرط على عوائد النفط. وهذا يتطلب التطبيق الفعال لسياسة نفطية متسقة موجهة بإستراتيجية اقتصادية ورؤية مستقبلية بعيدة المدى وواضحة الأهداف ومتناسقة داخليا.

عدا ذلك يصبح الحديث عن " الاصلاحات " مجرد رطانة سياسية، وكسبا للوقت..أي جعجعة بلا طحين.
*******
بعد الملاحظات العامة اعلاه لا بد من التوقف عند مشروع " قانون الاصلاح الاقتصادي الاتحادي" الذي قد اقره مجلس الوزراء في جلسته الخامسة والثلاثين المنعقدة بتاريخ 13/9/2013 المدقق من قبل مجلس شورى الدولة وأحاله إلى مجلس النواب لمناقشته وتشريعه- وللاختصار سنشير اليه لاحقا "القانون"- عبر قراءة متانية وتفكيكية لمفرداته بما يتيح لنا كشف " المستور" وتحديد فحوى الخطاب المثبت في النص "القانون" الذي تريد القوى المسيطرة الترويج له.
يقول الفيلسوف جاك دريدا: النص سرداب مظلم يفتح على منافذ من ناحية وهو غامض ومعتم من ناحية اخرى. ومن هنا لابد من تفكيك النص وهو هنا "القانون"، ليخرجه عن " صمته " ويقوض أمنه المعرفي وسلطته، أي محاولة دفعه الى قول مالم "يتعود " قوله. هنا تنطرح علينا اشكالية اخرى تتعلق بالقراءة ونوعيتها، وهل هي قراءة " بريئة " تعتمد " لجم " تناقضات النص؟ أم انها قراءة تسعى لتفجير " الاختلاف " الكامن في صلب النص وابراز مستوياته المتعددة.
عند قراءة " القانون، بعيدا عن التفاصيل التي تتضمن " معرفة عامة "، يمكن القول أنه – أي القانون - يرتكز على عدة أعمدة أو ركائز تشكل " الاسمنت المسلح "له:
- الركيزة الاولى: الخيار الناظم للاصلاح حسب "القانون": اقتصاد السوق من خلال " بناء اقتصاد مترابط ومتين يستند على مبادئ السوق ".
- الركيزة الثانية: الخصخصة دون قيد أو شرط ! إقصاء الدولة وتحويلها الى مجرد خفير!
- القضية الثالثة: مضمون "اعادة هيكلة الاقتصاد العراقي" .. تنمية واستقلال ام اعادة انتاج التبعية وتأبيد الهيكل الراهن- الحدود والإمكانيات والمآل.
- القضية الرابعة: تعدد المرجعيات الفكرية لـ "الاصلاح" . مبادئ الرؤيا الاصلاحية في "القانون" متناقضة –
- القضية الخامسة: رسملة القطاع الزراعي وتحويل الارض الى سلعة.