مدارات

ساهر.. صحفي بارع من تلاميذ طريق الشعب / كفاح حسن

في يوم خريفي ممطر، وسط فوضى باصات نقل الركاب في ساحة الميدان، كان لقائي الأول مع الشهيد باسم كمونه (ساهر).. هو قادم من دوامه الدراسي في الوزيرية، حيث كلية الإدارة والإقتصاد في جامعة بغداد. وأنا قادم من شارع صفي الدين الحلي حيث دوامي الدراسي في الجامعة المستنصرية. التقينا لتناول الغداء في أحد مطاعم الميدان الرخيصة. ثم اخذنا الباص المتوجه إلى شارع السعدون حيث مقر أسرة تحرير طريق الشعب، لنحضر الإجتماع الدوري للمكتب الصحفي الطلابي. حيث سيحل محل الرفيق أبو مروان (لطيف) الذي ترك العمل الصحفي وانغمر في النشاط الطلابي التنظيمي المتصاعد. وقد عرفني أبو مروان على ساهر لنذهب سوية إلى الإجتماع. هذا كان أول يوم في حياة صاحبي ساهر الصحفية. لقد كانت له الصحافة عالما مجهولا، ولكنني لاحظت سعادة كبيرة في ملامح وجهه وهو يتولى هذه المهمة، حيث وجدها فرصة نادرة.

لقد كان صامتا طيلة الإجتماع. ينصت إلى مساهمة أعضاء المكتب ومقترحاتهم. و بدأ الرفيق أبو سلام سكرتير المكتب يوضح له روتين عملنا وما هي مهامه. وورطه في أول مهمة. حيث أعطاه صندوقا من الكارتون مملوء بقصاصات متنوعة من رسائل موجهة إلى الجريدة كتبها المئات من أعضاء وأصدقاء المنظمة الطلابية في بغداد. وعلى رفيقي ساهر جردها وترتيبها وإختيار الصالح منها، لإعادة صياغته وإرساله إلى هيئة تحرير الجريدة أو إلى أقسامها المتنوعة. وتقبل ساهر المهمة مستفسرا كم أمامه من الوقت لتنفيذ مهمته، والحيرة بادية في تقاسيم وجهه. فضحكنا نحن الحاضرين ورددنا اللازمة المعروفة..
(في أسرع وقت يا رفيق..لا وقت للانتظار).
ومنذ اليوم الأول ربطتني بساهر علاقة صداقة توطدت مع الأيام.. حيث كانت اهتماماتنا مشتركة، وتربيتنا العائلية متقاربة. وكنت أمازحه عن حادثة تأريخية قديمة حدثت في كربلاء..
(انتو قتلتو دعبل واحنا ابتلينا).
وبسرعة فائقة استوعب ساهر روتين العمل الصحفي. والتحق بالدورة الصحفية الثانية التي نظمتها الجريدة بإدارة وتنظيم رائعين من الفقيد فائق بطي وبمحاضرات من الصحفيين المتخصصين في الجريدة.
بعد هذه الدورة، والتي أتمها بنجاح فائق، انغمر ساهر في العمل الصحفي في كل مجالاته.. فكان يكتب التحقيقات الصحفية إلى صفحات الطلبة والشباب، التعليم والمعلم، حياة الشعب، شؤون عمالية وصفحة منوعات. وكان من أنشط أعضاء المكتب الصحفي.
وفي غمرة العمل الصحفي والحزبي تعرف على رفيقة حياته، التي أحبها حبا صادقا وعميقا. وفجأة انقطع عنا ساهر.. حيث أصيب بوعكة صحية شديدة ألزمته الفراش.. وعكة جعلته بين الحياة والموت.. لقد حزنت جدا لحاله.. حيث افتقدته كرفيق وصديق. وشعرنا بأن مكانه شاغرا في المكتب الصحفي، ولا يوجد رفيق قادرعلى تعويضه. ولكن بإرادته الحديدية انتصر على المرض وعاد إلينا بعزيمة وقوة كبيرتين..عاد إلينا في نهاية 1977.
وفي وقتها بدأت بوادر الهجمة الشرسة للطغمة الحاكمة على منظمات وجماهير الحزب الشيوعي..وبدأ التضييق على توزيع الجريدة ومنع إدخالها إلى الجامعات والمعاهد الدراسية. وفي أحد الأيام وأنا في زيارة إلى كلية الإدارة والإقتصاد في الوزيرية,، وجدت الجو ملتهبا، وسمعت صراخ رفيقي خالد يوسف متي وأبو مروان، حيث أحاط بهم الجلاوزة داخل الحرم الجامعي وهم يعتدون عليهم بشكل همجي وسافر.. في وقتها خرجت مع العزيزين خالد وأبو مروان الى منطقة الميدان، ثم واصلت مسيري نحو شارع السعدون ومقر أسرة تحرير طريق الشعب. وهناك التقيت برفيقي ساهر.. لقد كان مثلي منفعلا من حادث الاعتداء داخل الحرم الجامعي. ولكنه كان أكثر عزما وإرادة في مواصلة العمل وتحدي السلطة القمعية.. لقد قال لي إن الساعة أتت لنقرن أفعالنا بأقوالنا.
وفي مطلع 1978 بدأت المنظمات الحزبية الطلابية تتهيأ لمواجهة الهجمة العنيفة والشرسة. وكان من هذه الإجراءات سحب الرفيق ساهر من العمل الصحفي والإستفادة منه في بناء الخطوط السرية لمنظمات الحزب الطلابية. لقد تقبل ساهر هذا القرار على مضض، حيث إنه كان يريد أن يبقى يعمل في الجريدة حتى ساعة إغلاقها. ويبقى مدافعا عنها حتى رمقه الأخير.
وفي خضم الأحداث افترقنا.. وبعد سنين حزنت وبكيت بكاء الأطفال وأنا أتلقى خبر استشهاده هو وزوجته، وخبر استشهاد أخوته.
لقد كان ساهر يحمل مقومات القائد الحزبي وقدرة هائلة في العمل الصحفي. حيث دخل في أيامه الأخيرة في الجريدة في مجال كتابة المقالة الصحفية ولم يبق محصورا في كتابة التحقيقات الصحفية. وبرع في كتابة المقال الصحفي الملخص والمكثف.
تبقى رفيقي وصديقي ساهر (باسم كمونة) خالدا في قلوب رفاقك ومحبيك وعصيا على النسيان.