مدارات

افتتاحية "الثقافة الجديدة": تموز جديد.. وأمل يتجدد!

يصدر العدد 391-390 في تموز، وفي هذا الشهر تكون قد مرّت الذكرى التاسعة والخمسون لثورة 14 تموز 1958. وعلى الرغم من أن الأمر كله بدأ بتحرك عسكري، يذكر بالأعمال الانقلابية التقليدية إلا أنه كان في واقع الأمر تتويجا لحقبة مديدة من الهبات والوثبات والمظاهرات التي سبقت الثورة وكانت إرهاصا لها بل وحتى من أسبابها المباشرة. كما كانت الثورة بمثابة الفتيل الذي أطلق النهوض الثوري لملايين العراقيين والعراقيات، الذين كانوا متحفزين ينتظرون بفارغ الصبر الفرصة السانحة لفرض ارادتهم في التغيير السياسي والتحويل الاجتماعي.
قبل ثورة تموز 1958 كانت هناك الثورة الفرنسية التي اندلعت في الرابع عشر من تموز 1789، حيث اجتاحت جماهير باريس وكادحيها سجن الباستيل الرهيب، مفتتحين ما اريد له ان يكون عهد حكم الشعب لنفسه، والانتقال الى "مملكة العقل" التي تسودها مُثل "الحرية، الإخاء، المساواة".
تجربة الثورة الفرنسية، قدر تعلقها بتموزنا، مهمة وجديرة بالتوقف. فلم تكن البرجوازية الفرنسية (الضعيفة والمفتتة آنذاك) هي التي حددت احداث الثورة الشعبية، بل كان ذلك دور عوام باريس وكادحيها الذين دفعوا البرجوازية الى تبني مواقف جذرية تتجاوز ما كانت تريده هذه الطبقة. والبرجوازية التي لم ترد ان تفلت الامور من بين ايديها كانت تستجيب لذلك من جهة، ولكنها بالمقابل كانت تسعى الى قمع الجناح الثوري من جهة أخرى، حتى انتهى الامر بإعدام قادة الثورة الجذريين انفسهم لتستتب الامور لها.
وبعد 170 عاما كان العراق يشهد تجربة مماثلة! فالعام الاول من عمر الثورة لم يتسم بالديمقراطية لأن البرجوازية ارادت ذلك. بل على العكس هي التي دعت الجماهير منذ أول ايام الثورة الى "الهدوء والسكينة". لكن ضغط الجماهير الشعبية التواقة الى اوسع فضاءات الحرية هو الذي دفع السلطة الى الاستجابة من جهة، بينما بدأت من بعض اطرافها التحضير للثورة المضادة في شباط 1963 من جهة ثانية.
وهكذا لم يحسب مئات الألوف من الناس المحتشدين في شوارع المدن وساحاتها، احتفاء بنصر ثوري باذخ، دوّخ الحلف الامبريالي - الرجعي وعملاءه في المنطقة، ان الاعراس ستتحول، بعد حين، الى عذابات وأحزان. فما ان اطيح بالحكم الملكي حتى تخلخل ثم انهار التحالف الوطني العريض الذي انجب ذلك النصر المؤزر والتاريخي. وبذلك فتح الباب على مصراعيه لتغلب النزعة الدكتاتورية بكل ما رافقها من شرور وكوارث بلغت اوجها في انقلاب شباط عام 1963 وتعمقت بعد وصول حزب البعث الى السلطة في 17 - 30 تموز 1968 وخصوصا بعد صعود صدام حسين الى مركز الشخص الاول في الحزب والدولة.
هكذا إذن، وتبعا لقانون الثورات الاجتماعية لم تواصل ثورة تموز صعودها، بل انتكست في لحظة حاسمة من لحظات تطورها ونشأ مسار جديد للصراع، اتخذ طابعا دمويا وقيامات وحروبا داخلية وخارجية لا تنتهي. ثمة عشرات من الأسئلة وعلامات الاستفهام المكتومة في الصدور، التي تملي طرحها لكي نفهم جذور الانتكاسة وأسبابها الفعلية ودروسها، ولكن لا يتسع المجال هنا للدخول في تفاصيلها.
الحركة الاحتجاجية.. الامل المرتجى والحلم غير المؤجل
من بين أبرز دروس ثورة 14 تموز أن حصيلة الصراع من أجل تحقيق مطلب بناء الديمقراطية وآفاقها لا تحدده القوى المهيمنة والطبقات المسيطرة، بل انخراط جماهير الشعب وكادحيه في النضال من اجل بناء دولة مدنية ديمقراطية عصرية.
فمن يتابع ما جرى في بلادنا خلال السنوات الأخيرة سيلاحظ بروز ديناميات اجتماعية متعددة. وهذا ما نلاحظه بشأن الدور الذي نهضت وتنهض به الحركة الاحتجاجية. فبالرغم من طيف واسع من الاجراءات التي اتخذها النظام المحاصصي السائد في بلادنا ومحاولات احتوائه للحراك المجتمعي باستخدام تكتيكات تجمع بن "العصا والجزرة" فان التجربة الملموسة بيّنت ان موجات الحركة الاحتجاجية تتصاعد.. وقاعدتها المجتمعية تتوسع وتدخلها قوى جديدة متنوعة المشارب والمرجعيات، وسقف مطالبها يتجذر. والمتابع لتاريخ هذا الحراك سيلاحظ أن الاحتجاجات بدأت مطلبية/ خدمية، لكنها سرعان ما تحوّلت الى احتجاجات سياسية/ اجتماعية وطنية. فلم يعد المتظاهرون يقبلون بإصلاحات شكلية "ترمم" نظام المحاصصة، وتكتفي بإعادة توزيع الادوار والمناصب والثروة والنفوذ بين قوى النظام المحاصصي وأقطابه ورموزه، واستعادة بلدهم من سارقيه وفاسديه، وإجبار هذا النظام وسلطته - ان عاجلا أم اجلا - على الخضوع لإرادة الشعب وتحقيق مطالبه العادلة والمشروعة في الحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية وبناء الدولة المدنية الديمقراطية العصرية، كبديل لدولة الطوائف والهويات الفرعية. هذا اضافة الى بناء ثقافة وطنية ديمقراطية وتأسيس مشهد ثقافي صحي يجعل من الثقافة العراقية بتنوعها الثري مرادفا للتقدم والديمقراطية والإيداع.
ان هذه التحركات بما احتوته من اشكال ثرية ومتنوعة تؤشر حقيقة أنه في ظروف النضال المجتمعي/ الديمقراطي الذي يخوضه شعبنا بمختلف قطاعاته وطبقاته وفئاته وشرائحه الاجتماعية، تبرز الأهمية المحورية للعمل الجماهيري والنشاط الاحتجاجي والمطلبي، باعتباره أحد روافع النضال الأساسية للقوى الحاملة للمشروع العابر للطوائف.
درس تموز الاهم.. ما زال حيا
ومن جهة أخرى، فإن من بين كل دروس ثورة تموز ثمة درس مهم أيضا هو ان هذه الثورة انتصرت لأنها اعتمدت على وحدة القوى الوطنية والديمقراطية التي ناهضت الحكم الملكي وناصرت الثورة وساهمت في نهوضها.. في حين كان من بين عوامل انتكاستها الصراعات التي نشبت بين هذه القوى حيث عجز العديد منها عن فهم طبيعة المرحلة التي دشنتها الثورة وترتيبها ـ أي تلك القوى - ترتيبا خاطئا للتناقضات بتغليب الثانوي منها على الرئيسي. طبعا دون ان نتغافل عن النزعات الفردية بل وحتى الدكتاتورية لبعض قادة الثورة وعدم رهانهم على الجماهير الشعبية، كان من بين العوامل التي ادت الى انتكاسة الثورة وتتويج ذلك بثورة الردة الفاشية في الثامن من شباط 1963.
رغم كل الصعوبات.. الأمل يتجدد!
إن خلاص الوطن من ازمته البنيوية المتعددة الصُعد غير مستحيل على الذين يرون في التغيير طريقا الى عراق متحرر من الفساد والعسف والاحتراب الطائفي والتمييز والاستقطاب الاجتماعي والمحاصصات.
فبعد 59 عاما من اندلاع ثورة 14 تموز وفي ظل الاوضاع السائدة، يبدو ان الحاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى للرهان على طريق آخر وبديل آخر هو البديل العابر للطوائف، البديل المدني - الوطني - الديمقراطي... انه بديل المواطنة الحقة؛ حيث يشعر الجميع انهم متساوون في الحقوق والواجبات، ويعيشون في دولة مدنية ديمقراطية معاصرة تقوم على العدالة الاجتماعية.
في تموز 2017 يتجدد الامل بعراق جديد؛ عراق خال من الازمات والفساد وخيبات الامل والتهميش والإقصاء والاستعصاءات الدائمة وتناسل الازمات ومكائد حيتان السلطة وحروب المتحاصصين من القوى المتنفذة.
من المؤكد ان النكوص وقبول الامر الواقع ليس خيارنا.. سيندحر الارهاب وستتنكس رايات "داعش" تحت ضربات القوات المسلحة العراقية بكل صنوفها، سليلة الجيش العراقي الذي انجز ملحمة 14 تموز 1958 وأطاح بالنظام الملكي. وننتهز هذه الفرصة لنتوجه إليها – أي للقوات المسلحة – بالتحية والتهنئة على ما حققته من انتصارات وهي تطوي الفصل الأخير من معركة الموصل.
وبرغم كل المصاعب سنبقى متسلحين بالأمل وبمضاء العزيمة من أجل بناء وطن يتسع لنا جميعا!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة "الثقافة الجديدة"
العدد 390 – 391
تموز 2017