مدارات

ثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى .. البديل والحلم*

رغم التباين في تقييم المآل الذي آل إليه النظام المنبثق من ثورة أكتوبر، فإن قلة تختلف في أن تلك الثورة كانت احد اهم احداث القرن العشرين. لقد طبعت ثورة أكتوبر بصماتها على الاتجاهات الأساسية لتطور عالمنا خلال القرن العشرين الذي انقضى معظمه في ظل القطبية الثنائية للاشتراكية والرأسمالية، إذ انها قدمت للشعوب ولجماهير الشغيلة والكادحين، البديل الذي كانت تتطلع إليه للنظام السياسي والاقتصادي - الاجتماعي الذي حمل للبشرية فواجع الحرب العالمية الأولى. كما كانت أصداؤها وانعكاساتها المباشرة على عصرها ذات شأن كبير حقاً، حتى اصبح ثلث البشرية يعيش، أواخر العقد الخامس من القرن الماضي، في ظل أنظمة تستوحي مبادئها ومثلها.
جاءت ثورة أكتوبر تعبيراً عن تفجّر تناقضات الرأسمالية في إحدى اضعف حلقاتها، وهي، خلافاً لما يدعيه بعض المؤرخين البرجوازيين، ثورة حقيقة انطلقت من أعماق المجتمع الروسي بمشاركة واسعة من جماهير الفلاحين المسحوقة في الريف، والطبقة العاملة النشيطة في المدن، وأقسام واسعة من الفئات الوسطى الحضرية. وقد سبقت الانتصار الحاسم للثورة بقيادة حزب البلاشفة، مجابهات وانتفاضات، عنفية ولاعنفية، ضد السلطة القيصرية الاستبدادية وضد طغيان الاقطاعيين وكبارالملاكين. وشملت تلك النشاطات الثورية الريف والمدن الكبرى حيث المحتشدات العمالية، وانبثقت من رحمها مجالس العمال والفلاحين والجنود (السوفييتات) التي كانت تعبيراً مؤسسياً مبتكراً جسّد الديمقراطية المباشرة. واعتبرها لينين شكل ديكتاتورية البروليتاريا الخاص بروسيا. واستطاع حزب البلاشفة، بسياسته الثورية الحازمة ونشاطه التنظيمي الواسع والفاعل، أن يتصدر الحركة الثورية ويجمع روافدها في تيار واحد، وان يقودها إلى الانتصار في السابع من تشرين الثاني 1917.
لم يكن خافياً على لينين ورفاقه ان روسيا، لحظة الاستيلاء على السلطة، لم تكن تمتلك الشروط المادية لقيام الاشتراكية. فقد تحدث لينين في اكثر من مناسبة عن تخلف قوى الانتاج في روسيا والطابع البرجوازي الصغير لرأسماليتها وعدم بلوغ العلاقات الرأسمالية فيها درجة النضج الكافي لإنجاز البناء الاشتراكي. لكن البلاشفة لم يجدوا في التعارض القائم بين نضج الشرط السياسي المتمثل باستيلاء الطبقة العاملة وحلفائها على السلطة، وعدم توفر بعض عناصر الشرط الموضوعي لإقامة الاشتراكية، سبباً كافياً في عزوف الطبقة العاملة عن الاستيلاء على السلطة والمضي قدماً على طريق بناء الاشتراكية. لعلّ السند الفكري الرئيسي لموقفهم يكمن في التعويل الواضح، خلال المراحل المبكرة التي أعقبت انتصار الثورة، على قيام ثورات عمالية ظافرة في البلدان الأوروبية التي بلغت فيها الرأسمالية مرحلة متطورة، وبشكل خاص في ألمانيا. لذلك دافع لينين عن فكرة إمكانية قيام الاشتراكية في بلد واحد والانتقال السريع بالثورة من مرحلتها البرجوازية الديمقراطية إلى المرحلة الاشتراكية، أي تطبيق مفهوم الثورة المستمرة لماركس، في حين دعا المناشفة وماركسيون آخرون إلى حصر الثورة ضمن افقها البرجوازي الديمقراطي. وربط قادة آخرون للثورة، منهم تروتسكي، الانتقال إلى الاشتراكية بقيام ثورات عمالية في البلدان الرأسمالية المتطورة.
وتطبيقاً لهذه الوجهة الثورية وفي إطار الصراع المحتدم حول اتجاهات تطور الثورة، ونشوب الحرب الأهلية اثر تمرد بعض الجنرالات المعادين للثورة واشتداد مقاومة قوى الثورة المضادة المدعومة من الخارج، أقدمت السلطة البلشفية، في سياق النضال الضاري من اجل الدفاع عن وجودها واستمرارها، بعد اشهر قليلة من استيلائها على السلطة في5 كانون الثاني1918، على حلّ الجمعية التأسيسية وتحويل السلطة كاملة إلى السوفييتات. ويكتسب هذا الإجراء أهمية كبرى في تحديد الملامح اللاحقة للنظام السياسي والحقوقي السوفييتي، وفي غرس جذر الاشكالية " الديمقراطية " للنظام الاشتراكي السوفييتي.
ورغم تأكيد لينين على خصوصية الظرف واستثنائيته التي دفعت البلاشفة إلى حلّ الجمعية التأسيسية وحرمان الطبقات المستثمِرة من حقوقها الانتخابية، فان هذا الموقف تحول لاحقاً إلى قاعدة عامة وشاملة لشكل الدولة في الاتحاد السوفياتي وفي بلدان " الاشتراكية الفعلية " الأخرى، كما إن سمات الديمقراطية المباشرة التي طبعت مجالس السوفييتات أثناء الثورة و جعلتها فعلياً صيغة متطوّرة للمشاركة والممارسة الديمقراطية من قِبلِ جماهير المنتجين والكادحين الذين يمثلون أغلبية الشعب، ما لبثت أن انحسرت وأفرغت من محتواها بعد اندماج السوفييتات بالدولة وخضوعها لها بدلاً من توجيهها.
ولأجل بناء القاعدة المادية، الاقتصادية – الاجتماعية للمجتمع الجديد، قامت السلطة الاشتراكية بتأميم الأرض وإلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. وعمدت إلى سياسة التصنيع الثقيل بالتركيز على خلق صناعة وسائل الإنتاج وتوجيه الفائض الاقتصادي المتولد في الريف لتمويل عملية التصنيع. لكن مركزة القدرة الاقتصادية بيد الدولة التي تعززت في ظل نظام " شيوعية الحرب "، وتراجع الدور المستقل للسوفييتات والنقابات والمنظمات الاجتماعية، أدى كل ذلك، الى تنامي قوة البيروقراطية التي أخذت، تدريجياً، تزيد من تحكّمها بالثروات المادية والروحية للمجتمع.
ولم تخرج روسيا من الحرب الأهلية منهكة اقتصادياً يفتك بها الفقر والمجاعة وحسب، وإنما أحدثت حالة الحرب المستمرة تغييرات عميقة في الاصطفافات الاجتماعية ومواقع الطبقات، كان أهمها الدمار البشري والاقتصادي الذي لحق بالطبقة العاملة. وكان الخراب من الجسامة بحيث " كفت البروليتاريا الصناعية .. عن الوجود كبروليتاريا "، و "اختفت" كطبقة اجتماعية موحدة اقتصادياً، كما وصف لينين الأوضاع أواخر عام 1921. واستنادا الى هذه الوقائع يمكن الاستنتاج بأن الاجراءات التي اقدمت عليها السلطة السوفيتية الجديدة أبان حقبة " شيوعية الحرب " كانت تجد مبرراتها في الظروف الاستثنائية المتولدة عن الحرب الاهلية والحصار والتدخل الاجنبي، أكثر مما تعود الى أي تصور نظري مسبق. إنها بإختصار شديد كانت تدابير اضطرارية أملتها الظروف الموضوعية القاهرة، ولهذا يتعين البحث عن أسبابها في تحليل تلك الظروف التي أملتها.
ولأجل إعادة بناء الاقتصاد الوطني اعتماداً على القوى الذاتية، وتوسيع قاعدة التأييد للثورة الفتية في الريف، حيث أبعدت سياسة " شيوعية الحرب " عنها أوساطاً واسعة من الفلاحين الصغار والمتوسطين، صاغ المؤتمر العاشر للحزب (أذار/نيسان 1921) بإقتراح من لينين، إشارة الانطلاق لبلورة " السياسة الاقتصادية الجديدة " (النيب) إدراكاً منه لأهمية الحوافز المادية في رفع مستوى الإنتاج الزراعي والتوقف عن مصادرة الفائض الاقتصادي في الريف كما كانت تفعل السلطة السوفيتية في ظل نظام شيوعية الحرب. كانت (النيب) في الواقع تراجعا استراتيجيا لصالح الفلاحين ورأس المال الصغير والمتوسط، ولاحقا ايضا لصالح رأسمالية الدولة. ولكن ينبغي التأكيد هنا على أن هذا التراجع أملته الحاجة، إجتماعيا وسياسيا، الى رأب الصدع الخطير في العلاقة مع الفلاحين وصغار " الملاك المنتجين " هذا من جهة. ومن جهة اخرى أملته الحاجة اقتصاديا الى انهاض الاقتصاد الفلاحي، وتنشيط التبادل السلعي العادي بين الريف والمدينة.
قامت (النيب) على أساس اعتماد العلاقات السلعية – النقدية والحساب الاقتصادي وربط الأجر بالمنتوج وإحياء التجارة الداخلية، وحققت النتائج المرجوة منها فعلاً بتطوير القوى المنتجة ورفع الإنتاج الزراعي وإنعاش الاقتصاد الروسي، كما إنها شجعت، في الوقت نفسه، على إعادة تأسيس الرأسمالية بحدود معينة، وعززت قوة الفلاحين الأغنياء والكولاك في الريف وصغار الصناعيين والتجار والسماسرة في المدن.
وقد اعتبر لينين تنظيم الإنتاج الكبير على أسس رأسمالية الدولة، بمثابة مرحلة انتقالية لمواجهة متطلبات بناء الأساس المادي للاشتراكية، مرحلة يحتّمها ضعف تطور الرأسمالية في روسيا آنذاك. وكان يدرك أنّ عملية الانتقال إلى الاشتراكية تتضمن سلسلة طويلة من المحطات والانتقالات تغطي حقبة تاريخية طويلة نسبيا. ً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقتطف من وثيقة «خيارنا الاشتراكي : دروس من بعض التجارب الاشتراكية» احدى وثائق المؤتمر الوطني الثامن للحزب الشيوعي العراقي ايار 2007